رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

لا يكف إبراهيم عيسى أبدا عن إثارة الدهشة، وشغل الوسط الصحفى والإعلامى بمواهبه المتعددة ووجوده الملحوظ على امتداد ثلاثين عاما كاتبا صحفيا وروائيا، ومصدرا للصحف والمجلات التى تترك كل منها بصمة واضحة على الخريطة الصحفية المصرية، ولم يكن تقديمه لعدد من أكثر البرامج الفضائية والاذاعية، الفنية والسياسية والدينية تميزا، سوى مواصلة لشغفه بالتجديد فى الصحافة المرئية والمسموعة، وقد باتت من أنجح البرامج، إذ مزج فيها بين عشقه للصحافة وثقافته المتنوعة وخفة ظله وحضوره الآسر، فاستطاعت أن تجذب إليها لا النخب السياسية فحسب، بل جماهير عريضة من كافة المستويات الثقافية والمهنية والطبقية، بعد أن غدت منبرا للاستنارة والإشعاع الثقافى والمعرفى، تحفز الجماهير والرأى العام للنظر إلى كافة الظواهر الاجتماعية والسياسية، بمنظور علمى عقلانى، ينبذ الكسل الفكرى، والاجابات سابقة التجهيز وارتجال المواقف وعشوائية الحلول. ولعله يكون هو وحده بمفرده الذى استجاب للدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى، بإصداره لجريدة «المقال» اليومية، كواحدة من أهم المطبوعات فى الصحافة العربية. فالصحيفة تستجيب  لتحديات وضرورات المرحلة الراهنة ، بقراءتها النقدية للنصوص الدينية، وفضحها للخطاب الدينى السائد الذى يعتمد على النقل والتقليد ويروج للظاهر من النص الدينى والتدين الشكلى، لأنه يخشى الاسئلة التى تزعزع قناعات راسخة تم تكريسها لاخفاء العجز عن البحث والتحرى وإطالة الصمت عن تراث الاسلام المتصالح مع العصر، والمنتصر للحياة ولسعادة الإنسان، كى تنتشر بدلا منه الفتاوى والدعاوى والتفسيرات التى تبرر العنف والتشدد والتخلف والانغلاق، وتبيح القتل والنحر والإرهاب وتشيع الفتن المذهبية والطائفية والعرقية التى تفتت الأوطان وهى ترفع زورا ريات الدين الإسلامى!

وعلى مشارف بلوغه سن الخمسين يجول إبراهيم عيسى فى سجل حياته، فيرصد بعيون طفل ريفى لم يفقد براءته ودهشته وتمسكه بأحلام بأحلام الصبا والمراهقة والشباب والرجولة، ملامح من هذا السجل، الذى شكل صفحاته نشأته فى مركز قويسنا بمحافظ المنوفية لأسرة جميلة متحابة، يقودها مدرس للغة العربية محبا للعلم والثقافة وملما بأصول التربية الصحيحة والتنشئة السليمة والتعليم  المجدى، فكان يقرأ لابنه القصص والرويات فى المنزل، ويمتنع نهائيا عن ضرب التلاميذ فى فصله والأبناء فى بيته، وتغدو أسرته جمهورا يتلو أمامه خطبة أعدها للالقاء فى المدرسة فى ذكرى المولد النبوى، فتدعوهم الأم - التى يعدها إبراهيم أجمل امرأة فى الوجود - للتصفيق له بحرارة. وهو فوق ذلك محب لدينه لا يقرأ كتاب الله إلا بعد أن يضع فى طياته زهرات للفل والياسمين.

وفى كتابه الجديد «على مشارف الخمسين.. موجز عن حياة» يطل إبراهيم عيسى على ماضيه وحاضره، وهو يرصد بذكاء سلوك البشر  فى لحظات جسارتهم وضعفهم وهيافتهم، كالطبيب الذى يوقف سيارته ليقوم بمساعدة الجرحى فى حادث طريق فيفقد حياته فى حادث سيارة، وجاره الذى يعتب عليه أداء فريضة الصلاة وهو يشاهد الافلام ويذهب إلى دور السينما، والداعية الذى يطيل فى خطبة الجمعة فيسئم الروح ويشيع الملل ولا يقول شيئا، ومحفظ القرآن فى القرية، العابس الوجه الذى يرفض أن يسئل عن معنى كلماته ويصيح فى تلاميذه «أحفظوا وبس ولما تكبروا تفهموا يا حمير» ولم يفهم التلاميذ أبدا ما مصلحة الشيخ فى أن يحفظ الحمير كلام الله؟. وفى اطلالته يلتقط المؤلف أجمل الصور، وأحلى العادات وأرقى الأجواء متأملا بحسرة الدور الذى لعبته الحداثة فى اندثارها، فالفيسبوك أماتت الخصوصية وذهبت بها فى الوباء، ومشيدا بالقوت ذاته بالدور الأساسى الذى لعبته بيوت الثقافة فى القرى المصرية فى زيادة الوعى واضفاء لمسة من جمال فى واقع الريف البائس وهو ما افتقدته بعد تحولها إلى قصور. يكشف الكتاب عن طبيعة شخصية مؤلفه، فهو يكره الخصومة التى تجعل المنافق إذا خاصم فجر!! ولا يحب أن يقرأ كتابا فتحه أحد غيره، ويشترى الكتب لمن يطلبها ولا يعيرها من مكتبته، ويرى أن التشفى خصلة الضعفاء، ويدرك من خبرته فى الحياة أن ليس كل من نعرف، هم أحسن ما يمكن أن نعرفهم، وأن الأطفال وحدهم هم الذين يتعاملون مع الخسة باعتبارها حقا، وأن العدميين يحصنون أنفسهم أمام الحزن باللامبالاة، وأن تكون فى قلب الحدث لا يعنى أنك تراه، وأن العيال وحدهم هم من يستمدون  الشجاعة من عدم مسئوليتهم، وأن تدفن أحدا فى قبره، أسهل كثيرا من أن تدفن سؤالا فى صدرك، وأن لا أحد يرحم الفائز حين ينهزم، وأن السينما التى ولع بها إبراهيم عيسى هى عرض مستمر للحياة.

قرأت كتاب «إبراهيم عيسى» الممتع فى جلسة واحدة، وخلته يتحدث عنى وعن ملايين غيرى ممن كان أباؤهم معلمون للغة العربية فى الريف المصرى، والدور الرائد الملحمى الذى لعبه هؤلاء بالارتقاء بأهله و بأحواله، وباقتلاع بؤر الظلام، والتبشير بنور العقول، كى تزهر أجيال جديدة تقاوم الجهل والتسلط بشجاعة تثير المحبة، قبل الإعجاب والإكبار.