رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

اللواء باقي زكي يوسف: "فكرة إزالة خط بارليف جاءتني من عند ربنا"

بوابة الوفد الإلكترونية

إيه يا باقى؟ دورك فى الكلام لم يأت بعد.

أنت نمت وإلا إيه؟ فرد المقدم - حينذاك - «باقى زكى يوسف» بقوله: لا يا أفندم بعد إذن سيادتك أنا لدى ما أقوله تعليقاً على شرح باقى قادة الفرقة. وقبل أن يأذن له قائد الفرقة سواء بالرفض أو بالقبول، ارتفع من بعيد صوت قائد عمليات الفرقة 19 المتمركزة دفاعياً غرب القناة وهو اللواء طلعت مسلم فيما بعد قائلاً: «طيب نسمعه يا أفندم»!

فقال قائد الفرقة: اتفضل يا باقى عايز تقول إيه؟

كان هذا الاجتماع فى ليلة من ليالى شهر مايو 1969، وكانت الفرقة 19 تستعد - طبقاً لتعليمات القيادة العامة للقوات المسلحة وقتها لاتخاذ مواقعها لاتخاذ مواقعها الهجومية، وفتح ثغرات فى جسم خط بارليف. والعبور للضفة الشرقية من القناة.

وكان الضابط - برتبة مقدم وقتها - باقى زكى يوسف أحد قادة الفرقة، ومسئولا عن المركبات فيها. حالة من الصمت انتابت الجميع قليلاً،  الساعة اقتربت من الثانية عشرة ليلاً. الضوء فى الخندق باهت فنحن فى مواجهة العدو، الاجتماع سرى للغاية، والتعليمات واضحة وصريحة وبعض فنجاين القهوة والشاى مازالت عالقة، ودخان السجائر يصعد حول الضوء الخافت ليبتلع معه الأمل فى العبور فى ظل تحصينات العدو بخط بارليف على طول خط القناة، فى الاجتماع تحدث قائد الفرقة وشرح طبيعة المهمة، ثم تحدث القادة كل قائد فى تخصصه من الاستطلاع للعمليات مروراً بسلاح المهندسين، ثم رفع الضابط «باقى زكى» يده ليتكلم بصفته قائد سلاح المركبات فى الفرقة، وهو المنوط به أن يوفر المركبات التى ستنقل المعدات لتنفيذ المهمة.

لكن أى مهمة ؟ والخسائر ستكون نسبتها على الأقل خسائر بشرية تقدر بـ20٪ من القوات. وكل ثغرة طبقاً لما تحدث به قادة أفرع الفرقة ستكون فى حاجة لـ12 ساعة على الأقل، ثم كيف سيتم ذلك وقائد الاستطلاع أكد أن للعدو أكثر من قوات متمركزة فى أكثر من موقع، ستواجه أى محاولة للعبور مدعومة بالدبابات والطائرات، فى ظل المدة الزمنية التى سيستغرقها فتح الثغرات بالطرق العادية وهى القنابل والصواريخ.

قال قائد الفرقة: عندك إيه باقى؟ اتفضل، قال: يا أفندم أنا استمعت لشرح ومهام العملية من السادة قادة الاستطلاع والعمليات والمهندسين، وأنا اتحدث بصفتى قائد المركبات فى الفرقة والتى سيكون دورها فى العملية هو نقل المعدات ورفع المخلفات التى ستحدثها عمليات الفتحات فى جسم خط بارليف.

رد القائد: تمام.. لذلك قلت لك انتظر فى نهاية الاجتماع.

هنا التقط المقدم باقى زكى خط الكلام، وأعاد فى جمل مختصرة رؤية كل قائد سلاح فى الفرقة من حيث الوقت الزمنى والخسائر المتوقعة وكل التفاصيل المشابهة.. وأثناء ذلك الشرح وجد نفسه بدون ترتيب ولا تفكير ولا إنذار مسبق يقول: بس يا فندم فيه حل تانى؟ نظر القائد والقادة إليه.. وهو يواصل كلام.. «أيوه يا أفندم .. فيه حل تانى والميه تحتنا يا أفندم ..نظر الجميع فى دهشة وهز القائد رأسه ليواصل «باقى» كلامه «طلمبات ماسة كابسة تثبت على زوارق خفيفة قوية تسحب المية من القناة وتضخها بقوة اندفاع كبيرة عن طريق «بشابير» على الساتر الترابى، فينهار وتجرف المية الرمل بمساعدة درجة الميل فى الساتر فتسقط الرمال بقوة إلى قاع القناة.

وسكت الضابط الشاب وقتها عند هذه النقطة، والصمت خيم على المكان، القائد مذهول من الفكرة والقادة ذهبت عقولهم معها إلى «سكة» أخرى. والساعة اقتربت من الواحدة والنصف ليلاً.

وضوء القمر بدأ يتسرب إلى المخبأ الذى يستقبل الاجتماع، والضابط «باقى» مازال صامتاً.

قال له قائد الفرقة والأمل بدأ يشرف على وجهه والبسمة التى لم تعرف وجهة من سنوات عادت فى خجل وقلق وأمل ثم قال: واحدة.. واحدة.. علينا كدة.. وعيد من الأول.

وأعاد الضابط «باقى» قوله وفكرته - التى جاءت حسب قوله من عند ربنا - أكثر من مرة حتى وصلت إلى الرئيس جمال عبدالناصر مروراً بقادة العمليات وسلاح المهندسين ورئاسة الأركان ووزير الدفاع وقتها.. لتكون هذه الفكرة هى السلاح الذى قهر خط بارليف فى ست ساعات دون أى خسائر بشرية تذكر.

اليوم ونحن نحتفل بذكرى العاشر من رمضان أكتوبر 1973 ذهبت إلى اللواء متقاعد «باقى زكى يوسف» صاحب هذه الفكرة. فى الهاتف ونحن نحدد الموعد قال «مفيش كلام إلا فى الفكرة والحرب» قلت: تمام، يسكن فى ضاحية مصر الجديدة الشقة بالدور الأول، سألت عنه رجلا فى الأربعين من عمره قال: آه طبعاً.. أنا أوصلك لحد عنده، ثم قال - وهو فيما يبدو بواب فى المنطقة - يا سلام ده باقى بيه ده بطل ونوصلك ليه على دماغنا، ثم وصل بنا إلى مدخل العمارة، قلت له: اتفضل معانا، قال: هو لا يعرفنى.. لكن مين فينا ميعرفش الراجل ده عمل إيه للبلد ثم تركنى وذهب إلى حال سبيله.

طرقت الباب.. ففتح لى وهو يبتسم، وجاءت زوجته الفاضلة وألقت التحية، جلسنا وقبل الكلام أعاد على ذهنى قوله: مفيش كلام إلا فى المهمة فقط.. اتفقنا، قلت: نعم وإلى نص الحوار:

< نعود="" إلى="" البداية="" كيف="">

أنا مواليد 1931 ودرست فى كلية الهندسة جامعة عين شمس قسم ميكانيكا سنة 1954. والتحقت بالقوات المسلحة فى ديسمبر 1954 وعملت فى القوات المسلحة فى جميع الرتب والمواقع المختلفة حتى رتبة اللواء فى 1984، وأثناء خدمتى كان بناء السد العالى بدأ العمل فيه، وطلب وقتها من القوات المسلحة ضباط مهندسون فى تخصصات مختلفة وخصوصاً المحركات والمعدات.

< وهل="" كنت="" تعمل="" وقتها="" فى="" هذه="">

- كانت شغلتى فى الأول محركات، حيث كنت كبير مهندسي ورش رئيسية للمحركات، وكان حظى أننى دخلت فى الطقم الذى وقع عليه الاختيار للسفر إلى السد العالى.

< وما="" هى="" المهام="" التى="" كلفت="" بها="" للمشاركة="" فى="" بناء="">

- أول وظيفة كانت ورش محركات السد العالى، وبدأت مدير «جراج» الشرق ويعمل به ما يقرب من ألفي عامل ومهندس بالإضافة إلى 80 خبيرا روسيا وكان بيعمل هذا الجراج 24 ساعة يومياً.

< وماذا="" كانت="" تعمل="" المعدات="" والآلات="" فى="" هذا="">

- كانت مهمتها نقل الحجر والصخور والرمال وتجريف المواقع المحددة والمتفق عليها فى الخطة. وفى أوائل يونية 1967 ثم جاءت النكسة فى 5 يونية.

< هل="" كانت="" نكسة="" أم="">

- أنا رأيى هى ليست نكسة، ولكنها كانت «كمينا» دوليا دبر بليل لمصر، حتى يتم تحجيم مصر من نجاحها وطموحها وتوجهها العروبى فى ذلك الوقت بعد اليمن والجزائر. ومن هنا تم تسليح إسرائيل بمعدات عسكرية متقدمة جداً. وبدأ الغرب

والقوى الدولية توفر لإسرائيل المناخ العسكرى الجيد للحرب ضدنا. وقواتنا التى كانت فى سيناء أثناء 67 لم يكن بينها سهولة اتصال، بل تم التشويش على القوات تماماً، لدرجة أن البعض منهم قال عن 67 إنها نصر فاق كل أحلامى.

< ثم="" احتلوا="" سيناء="" ووصلوا="" إلى="" حافة="" القناة="" من="">

- تماماً هذا ما حدث وبذلك أصبحت سيناء كلها مع العدو، وفكر العدو وقتها فى إقامة ساتر ترابى (خط بارليف) حتى يحتمى فيه، وبدأ العدو يستفيد من الكثبان الرملية بالإضافة إلى ناتج حفر قناة السويس وبالإضافة إلى ناتج التطهير .

< وما="" هى="" مهامك="" بالضبط="" كرئيس="" لفرع="" المركبات="">

- شغلتى أننى أقوم بصيانة وإصلاح العربات والمعدات الموجودة فى الفرقة، وأنا أمر فى طريقي لعمل الصيانة يومياً كانت عينى تذهب إلى الضفة الشرقية، وكان الساتر الترابى يلفت انتباهى كلما مررت عليه ذهاباً وإياباً.

< وما="" الذى="" كان="" لافتاً="" فيه="">

- استمرار العمل على ارتفاعه من جانب العدو، شركات عالمية شغالة فيه، وأراهم يقربونه من المياه ويقومون بعمل ميل فيه. ويحطوا معدات ويحصنوا النقاط فيه، ونحن فى الغرب قواتنا على وضعها دفاعية، والمشهد ده كان يجعلنى اسأل نفسى وأقول: لو هذا الساتر فى أسوان.

<>

- بمعنى أننى كنت أقول بينى وبين نفسى إن هذا الساتر لو فى أسوان كنا شيلناه شيل، فنحن فى أسوان رفعنا جبالا من الرمل، لأنني عندما قمنا ببناء السد، قمنا برفع جبال كاملة من الرمل المحيط بالسد بتجريف جسم السد، إذن الرمل كان الناتج كله منه يذهب إلى الناحية الشرقية، لأن الناحية الغربية هى أراض زراعية، فالناحية الشرقية كانت عبارة عن كثبان رملية طبيعية وصناعية وهكذا.

< وكيف="" استفاد="" العدو="" من="" كل="" هذه="">

- قام بتوصيلها ببعضها البعض، ويزيد من ارتفاعها وجاء بشركات متخصصة عالمية، وحصنوا نقاطا قوية، ومصاطب دبابات، وحقول ألغام، وأسلاك شائكة وكل ما تتصور، من تحصينات، ومعدات عسكرية متنوعة ومتقدمة، وبذلك تحول هذا الساتر الترابى بمعداته ونقاطه الحصينة إلى نقطة قوة فى استراتيجية الحرب بالنسبة للعدو وحجم المعدات التى زرعت به حولته إلى قلعة من القلاع المحصنة من بورسعيد للسويس.

< إذن="" كان="" هذا="" هو="" المشهد="" (أو="" مسرح="" العمليات="" كما="" يقال)="" على="" شط="" القناة="" عندما="" عدت="" من="" أسوان="" أليس="">

- تماماً.. هذا هو المشهد بالضبط.. وأنا عندما عدت من أسوان اتجهت إلى الورش التى كنت فيها قبل الانضمام لفريق العمل فى السد العالى، ثم وجدت نفسى رئيس فرع مركبات الفرقة 19.

< خلال="" الجلسة="" التى="" جمعتك="" بقادة="" الفرقة="" ودار="" فيها="" ما="" دار..="" ما="" الذى="" حدث="">

- الذى حدث أن جميع القادة بعدما قلت ما لدى عن فكرة إزالة الساتر الترابى، الكل سكت، وخيم الصمت على الجميع.. ويومها لحظت البسمة تعود على وجه قائد الفرقة، وكأنه كان يبحث عن ابن «تايه» ووجده.

< وماذا="" قال="" لك="">

- انتهى الاجتماع وعلى الفور اتصل بالقيادة الأعلى للفرقة - رغم أن الوقت كان متأخراً - والقيادة الأعلى اتصلت بالقيادة بالقاهرة، ثم جاء الصباح وأنا فى طريقى للقاهرة لقيادة الأركان فى العمليات، وبعد دقائق كنت فى قيادة سلاح المهندسين وبعدها عدت إلى قيادة العمليات، وتم الاستماع لما طرحته فى اجتماع الفرقة، ثم عدت للجبهة مرة ثانية. وأيام مرت، بل استطيع أن أقول ما هى إلا ساعات وتلقيت اتصالاً من قائد الفرقة، وطلب منى كتابة الفكرة باختصار، على أن تكون جاهزة بعد ساعات، لأن قيادة الجيش هيجتمعوا مع الرئيس عبدالناصر وهذا أمر أسعدنى كثيراً. وشهور بعد شهور، تحولت الفكرة إلى واقع وبدأ سلاح المهندسين يعمل على تحقيق الهدف من الفكرة. وجاء يوم السادس من أكتوبر لتتحقق الفكرة التى جاءت لى من عند الله، بدون تفكير منى، أو اجتهاد، هى فكرة جاءت من عند الله، حتى يتحقق الحلم وننتصر ونستعيد الأرض ونهزم العدو هزيمة لن ينساها عبر السنين.

وعند الهزيمة وعند النصر توقف بنا الكلام وأغلقت جهاز التسجيل، ولملمت أوراق الحوار، ونزلت على درجات سلم العمارة، وفى الطريق من العمارة حتى السيارة قال لى زميلى المصور «يا أخى الواحد نازل من عند اللواء باقى ونفسه يحارب»! فقلت له: لأنه من جيل صنع النصر، وأعاد الأرض.. جيل يعرف يعنى إيه وطنية ويعنى إيه وطن.