رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عمال التراحيل‮ .. ‬مآساة تسير علي‮ ‬قدمين‮!


هجروا بلادهم بعد أن ضاق العيش بهم تركوا أبناءهم لهثا وراء لقمة العيش،‮ ‬جاءوا إلي‮ ‬القاهرة تحفهم الآمال العريضة بأن‮ ‬يجنوا ثمرة تعبهم ولكن للاسف تحولت كل هذه الطموحات إلي‮ ‬مجرد أوهام بعد ان أدار لهم الزمان ظهره فتركهم نهبا للشارع الذي‮ ‬لا‮ ‬يعرف الرحمة تطاردهم لعنة الجوع وخيبة الأمل،‮ ‬انهم عمال التراحيل الذين‮ ‬يراهم البعض فئة مهمشة لاصوت لهم،‮ ‬ويراهم آخرون فئة طفيلية تزيد من ازدحام القاهرة إلا ان قصصهم تمتلئ بالأوجاع ونادرا ما تختلف نهاياتها‮. ‬

ورغم ان هؤلاء كانوا‮ ‬يحلمون بأن تتغير احوالهم‮ ‬يوميا إلي‮ ‬الأفضل،‮ ‬وتشرق عليهم شمس الثورة وتحمل بين كفيها‮ ‬يوما جديدا،‮ ‬يجدون فيه زرقهم بسهولة،‮ ‬يحققون ولو قدرا‮ ‬يسيرا من احلامهم الضائعة في‮ ‬زحام القاهرة،‮ ‬إلا ان هذا لم‮ ‬يحدث في‮ ‬زالت أحوالهم كما هي‮ ‬،‮ ‬إن لم تكن أسوأ من ذي‮ ‬قبل‮ ‬،‮ ‬فقر ومرض وبطالة وحلم بالراحة والطعام الهانئ لم‮ ‬يتحقق بعد فهل تنتظر حكومة‮ »‬شرف‮« ‬التي‮ ‬بدأت في‮ ‬التفكير في‮ ‬كل الطوائف المهمشة من الشعب المصري‮ ‬بعين العطف لهؤلاء المحرومين الضائعين في‮ ‬زحام الثورة؟ وهل تنصفهم الثورة وتحقق لهم أول مبادئها‮ »‬عيش،‮ ‬حرية،‮ ‬كرامة،‮ ‬إنسانية«؟‮!‬

ربما كانت رواية‮ »‬الحرام‮« ‬للكاتب‮ ‬يوسف إدريس هي‮ ‬أكبر تجسيد لقسوة حياة تلك الطبقة وهو ما عبرت عنه شخصية‮ »‬عزيزة‮« ‬عاملة التراحيل التي‮ ‬جسدتها للسينما الشاشة‮ »‬فاتن حمامة‮« ‬في‮ ‬فيلم من إخراج بركات في‮ ‬مطلع الستينات لتظل تلك الشخصية التي‮ ‬تخرج ضمن قوافل التراحيل للبحث عن لقمة العيش لأبنائها ولزوجها المريض عالقة في‮ ‬الأذهان رغم اختلاف الزمن منذ الستينات وحتي‮ ‬اليوم،‮ ‬إلا ان عمال الترحيل مازالوا كما هم،‮ ‬منهم آلاف‮ »‬العزيزات‮« ‬اللاتي‮ ‬خرجن‮ ‬يبحثن عن لقمة العيش لابنائهن وأزواجهن،‮ ‬ومنهم ملايين الرجال الذين‮ ‬يخرجون كل صباح لنفس السبب،وهو البحث عن لقمة العيش‮. ‬وفي‮ ‬الناهية‮ ‬يضربهم المرض وجوع،‮ ‬ولا‮ ‬يجدون إلا الفتات لسد رمق الأفواه الجائعة التي‮ ‬تنتظرهم حين عودتهم مع الغروب مأساة متحركة علي‮ ‬قدمين‮ ‬يحملها كل عامل من هؤلاء العمال،‮ ‬أعباء تنوء عن حملها الجبال،‮ ‬معاناة دائمة زادت بعد الثورة وأصبح حلمهم في‮ ‬الراحة هو أقصي‮ ‬أمانيهم وفي‮ ‬عالم التراحيل تتشابه الوجوه،‮ ‬وتتقارب تفاصيل تخصص البؤس،‮ ‬ككل منهم لا‮ ‬يحلم بأكثر من شخص‮ ‬يستعين به في‮ ‬عمل‮ ‬يمكنه من توفير قوت‮ ‬يومه،‮ ‬ليعود في‮ ‬آخر النهار حاملاً‮ ‬طعامه قبل ان‮ ‬يخلد للنوم ليستيقظ قرب أذان الفجر ليبدأ رحلة البحث عن عمل من جديد،وبما ان مهنة المعمار هي‮ ‬الغالبة علي‮ ‬عمال التراحيل،‮ ‬لذا فقد تأثروا بالتدهور الذي‮ ‬حدث في‮ ‬قطاع البناء في‮ ‬مصر خلال الأعوام الأخيرة،‮ ‬لاسيما أنهم الطرف الأضعف في‮ ‬هذا القطاع،‮ ‬وزادت معاناتهم بعد الثورة نتيجة حالة الركود التي‮ ‬يمر بها هذا القطاع ويري‮ ‬البعض ان ظاهرة عمال التراحيل مرشحة اليوم للتفاقم أكثر في‮ ‬ظل شهور الأوضاع الاقتصادية في‮ ‬مصر بشكل عام‮.‬

 

اقتربنا من هذه الفئة المهمشة التي‮ ‬نسيها الجميع في‮ ‬خضم الاحداث،‮ ‬فاكتشفنا أن وراء كل منهم حكاية تصلح لأن تصبح رواية أكثر واقعية وشجناً‮ ‬من رواية‮ »‬الحرام‮«. ‬عم محمد واحد من هؤلاء العمال جاء إلي‮ ‬القاهرة محملا بهموم الفقر والحاجة،‮ ‬ترك بلدته الأصلية في‮ ‬مدينة أسيوط ليلبي‮ ‬نداء‮ »‬النداهة‮« ‬التي‮ ‬طالما دعته هو والكثيرين من قبله للحضور إلي‮ ‬القاهرة والعمل بها،‮ ‬فترك أطفاله الخمسة وجاء‮ ‬يحمل في‮ ‬إحدي‮ ‬يديه عدة العمل والتي‮ ‬تضم شاكوشا وأجنة وأزميلاً‮ ‬يلفها في‮ ‬كيس من القماش ويحرص عليها كحياته‮. »‬نفسي‮ ‬أجد عملا حتي‮ ‬أنفق منه علي‮ ‬عيالي‮ ‬فالجوع كافر،‮ ‬وإحنا‮ ‬غلابة وبسبب ضيق الحال،‮ ‬نجلس كل‮ ‬يوم لنأكل في‮ ‬الموائد‮« ..‬وهكذا عبر عم‮ »‬محمد‮« ‬عن حاله هو وغيره من عمال التراحيل الذين‮ ‬يجلسون كل‮ ‬يوم أسفل كوبري‮ ‬أبو الريش منذ الصباح الباكر وعيونهم مركزة علي‮ ‬السيارات المارة أمامهم،‮ ‬حتي‮ ‬إذا ما وجدوا سيارة تتباطأ أمامهم هبوا إليها هبة رجل واحد مندفعين إلي‮ ‬صاحبها الذي‮ ‬غالبا ما‮ ‬يحمل إليهم بشري‮ ‬الرزق لتبدأ المفاوضات علي‮ ‬الأجر‮. ‬عم محمد كان‮ ‬يحلم بأن‮ ‬يجني‮ ‬مالا لزواج البنات وتعليم الأولاد،‮ ‬ولكن حلمه لم‮ ‬يتحقق فلم‮ ‬يجد امامه سوي‮ ‬الاكتفاء بتوفير لقمة العيش لهم،‮ ‬ثم جاءت الريح بما لا تشتهي‮ ‬عم محمد واسرته فمرضت زوجته واصبحت تكاليف علاجها ترهق كاهله أكثر،‮ ‬ومع ذلك‮ ‬يقول الحمد لله علي‮ ‬كل شيء،‮ ‬ربنا‮ ‬يرزقني‮ ‬برزقهم جميعا‮.‬

أما محمد جمعة ـ فقد جاء من محافظة المنيا تاركا اطفاله الاربعة باحثا عن لقمة العيش،‮ ‬ولا‮ ‬يختلف حاله كثيرا عن عم‮ »‬محمد‮« ‬فكلاهما‮ ‬يحمل نفس ملامح الفقر والحرمان فالوجوه شاحبة بها خطوط وتجاعيد خطها الخوف من الغد الذي‮ ‬لا‮ ‬يعلمون عنه شيئاً‮. ‬ويجلس‮ »‬محمد‮« ‬هكذا منذ أكثر من شهر بدون عمل وكل ما‮ ‬يتمناه هو أن‮ ‬يعود إلي‮ ‬أهله في‮ ‬يوم ما وهو‮ »‬مجبور الخاطر‮« ‬حتي‮ ‬لايصاب أطفاله بخيبة أمل‮. ‬

أما الحاج‮ »‬عبدالفتاح‮« ‬الذي‮ ‬جاء ايضا من‮ »‬المنيا‮« ‬منذ حوالي‮ ‬سنة ونصف فقد بدأ حديثه قائلا‮: ‬إذا كانت الحكومة قد نسيتنا فإن من خلقنا لن‮ ‬ينسانا وكم اتمني‮ ‬أن أجد بيتا‮ ‬يضمني‮ ‬أنا واطفالي‮ ‬الثلاثة ولكن اليد قصيرة حيث أنني‮ ‬أجلس بدون عمل منذ حوالي‮ ‬18‮ ‬يوماً‮ ‬ثم‮ ‬يختتم الحاج‮ »‬عبدالفتاح‮« ‬حديثه بقوله‮: ‬ليت كان هناك وزير للغلابة‮ ‬يكون مسئولا عنهم حتي‮ ‬يكون لي‮ ‬معاش في‮ ‬حالة الموت،‮ ‬ولقمة عيش لسد جوع الأفواه المفتوحة ثم تركناه بعد ذلك ليجلس من جديد علي‮ ‬الأرض التي‮ ‬يتخذها كل ليلة فراشا والسماء‮ ‬غطاء‮. ‬ونفس المأساة‮ ‬يعيشها‮ »‬ممدوح مرزوق‮« ‬الذي‮ ‬جاء من‮ »‬أسيوط‮« ‬بحثا عن مصدر للرزق وهو قد‮ ‬يعمل‮ ‬يوما واحدا ويظل‮ ‬10‮ ‬أيام بدون عمل وكل ما‮ ‬يتمناه هو ان‮ ‬يجد عملا بدخل ثابت ليضمن حياة كريمة له ولاطفاله‮. ‬وبالرغم من قسوة الظروف إلا أنه مازال‮ ‬يطمع إلي‮

‬ان‮ ‬يجمع مبلغا من المال‮ ‬يجعله‮ ‬يعود إلي‮ ‬القرية لشراء عدد من القراريط‮ ‬يزرعها بنفسه‮.‬

أما أحمد سالم ـ فقد جاء ايضا من أسيوط بحثا عن فرصة عمل ورغم المأساة التي‮ ‬يعيشها لانه لم‮ ‬يعمل منذ أكثر من شهر كامل،‮ ‬إلا أنه‮ ‬يقول بمنتهي‮ ‬التفاؤل‮ » ‬ربنا هيفرجها إن شاء الله‮« ‬وكل ما‮ ‬يتمناه هو أن‮ ‬يأتي‮ ‬مقاول أنفار‮ ‬يبحث عن عمال لحفر قواعد اساس البنايات أو هدم خرسانة أو‮ ‬غيرها من أعمال المعمار حتي‮ ‬يتلقفه ويجد عملاء‮ ‬يكفيه هو واسرته التي‮ ‬لم تعرف سوي‮ ‬الخبز الجاف والجبن والملح طعاماً‮ ‬لشهور طويلة‮.‬

التقينا به جالسا علي‮ ‬الأرض،‮ ‬ساندا رأسه علي‮ ‬عدته،‮ ‬وحينما اقتربنا منه،‮ ‬رفع وجه لتظهر ملامحه عمرا أكبر بكثير ما هو عليه سألناه عن اسمه وحاله فقال‮: ‬اسمي‮ ‬أحمد عبدالمولي‮ ‬عمري‮ ‬40‮ ‬عاما،‮ ‬متزوج ولدي‮ ‬ثلاثة أبناء،‮ ‬خرجت من بلدتي‮ ‬بمحافظة المنيا بعد ان ضاقت بي‮ ‬سبل الرزق هناك،‮ ‬ومرض ابني‮ ‬الأكبر ـ عمر ـ‮ ‬10‮ ‬سنوات بمرض‮ ‬غريب في‮ ‬الدم،‮ ‬حار الأطباء فيه،‮ ‬فلم أجد أمامي‮ ‬بدا سوي‮ ‬الحضور للقاهرة علي‮ ‬أمل أن أحصل علي‮ ‬مال لتوفير نفقات علاجه التي‮ ‬تتكلف‮ ‬1000‮ ‬جنيها شهريا،‮ ‬ورغم أني‮ ‬أعمل طوال اليوم،‮ ‬إلا ان فترات الركود التي‮ ‬نمر بها في‮ ‬كثير من الأحيان تحول دون اكمال المبلغ‮ ‬للعلاج،‮ ‬ولكن ربنا لن‮ ‬ينسانها أبدا،‮ ‬فأبناء الحلال كثيرن‮ ‬يقدمون لنا ما‮ ‬يستطيعون وهو ما‮ ‬يجعلني‮ ‬أكمل مبلغ‮ ‬العلاج،‮ ‬أما مادون ذلك من طعام أو شراب فلا‮ ‬يهم‮ ‬،‮ ‬نحن نأكل أي‮ ‬شئ حتي‮ ‬لو كان عيش وملح المهم العلاج‮. ‬ولأن ثالوث الفقر والجهل والمرض هو الحاكم لمعظم هؤلاء العمال وأسرهم فيكشف لنا عبدالحميد السيد أن الفقر وقلة الرزق دفعاه لأن‮ ‬يخرج أبناءه الاربعة من المدارس،‮ ‬فالتعليم‮ ‬يحتاج لمصاريف‮ ‬غالية ونحن لا نقدر علي‮ ‬دفعها خاصة أننا لن نستطيع تدبير تكاليف الدروس الخصوصية ولا حتي‮ ‬مجموعات التقوية،‮ ‬لذلك أخرجت الأولاد من المدرسة ليعملوا في‮ ‬الحقول ويساعدوني‮ ‬في‮ ‬تكاليف الحياة،‮ ‬أما البنت الوحيدة فمصيرها للزواج وهي‮ ‬الآن تجلس في‮ ‬المنزل لرعاية أمها المريضة بينما أعمل أنا هنا لتوفير نفقات العلاج والطعام والشراب،‮ ‬وما‮ ‬يرزقنا به الله‮ ‬يكفينا والحمد لله‮. ‬

 

وأضاف أنا هنا آكل فول وطعمية ورغفين عيش في‮ ‬اليوم،‮ ‬لأدخر ما‮ ‬يمكنني‮ ‬إدخاره للأسرة وفي‮ ‬نهاية الشهر أسافر لهم ومعي‮ ‬مبلغ،‮ ‬نشتري‮ ‬منه كيلو لحمة،‮ ‬ثم نشتري‮ ‬العلاج،‮ ‬وما تبقي‮ ‬يصرف منه الأبناء باقي‮ ‬الشهر،‮ ‬والحمد لله أياما نقضيها علي‮ ‬ظهر الدنيا،‮ ‬وربنا‮ ‬يرحمنا دنيا وآخرة‮.‬

د‮. ‬سعيد صادق أستاذ الاجتماع السياسي‮:‬

تأمين هؤلاء العمال مسئولية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني

يقول د‮. ‬سعيد صادق ـ أستاذ علم الاجتماع السياسي‮ ‬بالجامعة الأمريكية‮ - ‬لا شك أن عمال التراحيل جزء مهم من الاقتصاد‮ ‬غير الرسمي‮ ‬الذي‮ ‬يوجد في‮ ‬مصر،‮ ‬حيث إنه لا‮ ‬يوجد لديهم تأمين صحي‮ ‬أو تأمين اجتماعي،‮ ‬كما أنهم لا‮ ‬يحصلون علي‮ ‬أجور ثابتة بل‮ ‬يحصل العامل علي‮ ‬قوت‮ ‬يومه من فرص عمل قد تأتي‮ ‬أو لا تأتي‮.‬

يمثل عمال التراحيل حوالي‮ ‬40٪‮ ‬من العمال الموجودة في‮ ‬مصر وهي‮ ‬عمالة‮ ‬غير رسمية،‮ ‬وقد‮ ‬يرتبط هؤلاء بالقطاع الرسمي‮ ‬في‮ ‬الدولة بحيث تجدهم‮ ‬يقومون مثلاً‮ ‬بتدوير القمامة وإعادة تصنيعها وذلك بأجر قليل جداً،‮ ‬ويستفيد من وراءهم كبار التجار‮. ‬هذا مع العمل أن تلك الظاهرة ترتبط بهجرة الريف إلي‮ ‬المدينة،‮ ‬فنجد هؤلاء العمال‮ ‬يعملون في‮ ‬بعض الأعمال الهامشية،‮ ‬وقد تنقذهم هذه الأعمال من الوقوع في‮ ‬فخ البطالة،‮ ‬لذا فإن مواجهة تلك الظاهرة‮ ‬يكون بتحسين أوضاع تلك العمالة،‮ ‬مع ضرورة العمل علي‮ ‬مد الخدمات الاجتماعية لهم باختصار ان عمال التراحيل في‮ ‬مصر‮ ‬يحتاجون إلي‮ ‬حماية وإلي‮ ‬ظهر‮ ‬يؤمن لهم سبل العيش خاصة في‮ ‬مرحلة الكبر،‮ ‬ولعله من المهم أن‮ ‬يضع بقوة المجتمع المدني‮ ‬هذه القضية علي‮ ‬أجندته لحماية هؤلاء العمال‮.‬