رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصر الجديدة ترفض "النعوش الطائرة"

بوابة الوفد الإلكترونية

البحث عن لقمة عيش لأسرته، هو الدافع الوحيد الذى يجعل أى مصرى يفارق وطنه وأهله، للبحث خارج الحدود عن هذا الرزق، وحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء،

فإن عدد العاطلين فى مصر  بلغ «3.6  مليون» شخص، بنسبة 12.9% من إجمالي قوة العمل بمصر خلال الربع الأخير  من العام 2014، هذه هى الاحصائيات الرسمية، ولكن الاحصائيات على أرض الواقع، غالباً ما تتجاوز هذا الرقم بكثير، كما تشير الاحصائيات إلى انه يعمل خارج مصر فى شتى دول العالم أكثر من 9 ملايين مصرى،  يقومون بتحويل ما يقرب من 20 أو 22 مليار دولار سنوى إلى مصر، أى أن عمالنا بالخارج كما هم مصدر فخر لنا ودعم وبناء للدول التى يعملون بها، أيضاً مصدر دخل اقتصادى كبير وعملات أجنبية لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها، ومن هنا فان الاهتمام بتأمين عمل المصريين فى الخارج سواء فى الدول العربية والخليجية أو الأوروبية هو أمر أساسى وجوهرى، عبر البروتوكلات واتفاقيات التعاون لضمان حمايتهم وحقوقهم.
وتعرض عمالنا بالخارج على مر التاريخ لأزمات قوية، أدت إلى اهتزاز ثقة المصريين فى الإجراءات والقوانين والاتفاقيات التى أبرمتها مصر مع دول الخارج وفى مقدمتها الدول العربية والخليجية، وافقتهم ثقتهم أيضاً فى الدور الذى تقوم به وزارات القوى العاملة المتتالية والحكومة بصفة عامة فى تأمينهم وضمان حقوقهم، والتدخل لحمايتهم فى الوقت المناسب، وأيضاً أجلائهم بسرعة وأمان عن البلدان التى تحدث بها اضطرابات سياسية وقلاقل أمنية، فكان عمال مصر ضحايا فى العراق عام 89، وكانوا ضحايا للغزو العراقى للكويت عام 90 ، وضحايا للغزو  الأمريكى للعراق عام 2003، وضحايا للثورة الليبية عام 2011، وضحايا الآن للاضطرابات السياسية والأمنية أيضاً فى ليبيا.
وقد فتح مقتل العمال المصريين فى ليبيا على أيدى إرهابي داعش، جرحاً قديماً لا نتمنى أن يتجدد أو نستعيد تاريخه أو نعيش أجواءه، حول ما لاقاه العمال المصريون من قتل وترويع وإهانة فى العراق عامة 1989 و1990، فى ظاهرة عرفت حينها بظاهرة «النعوش الطائرة المصرية» العائدة من العراق، وأكدت لنا أحداث الآن  ان عمال مصر بالخارج  هم الضحية الأولى التى يتم العصف بها فى أى بلد تقع به صراعات داخلية، أو يحدث بينه وبين مصر أى خلاف سياسى، وبالفعل كما سبق الإشارة ذكرنا مقتل المصريين فى ليبيا  بهذا التاريخ الأسود للعمال المصريين فى العراق، ولكن مع الفارق الكبير جداً، ففى العامين سالفى الذكر، كانت عمليات قتل العمال المصريين تتم فى العراق على قدم وساق، حتى دون وجود أى خلافات سياسية بين مصر والعراق فى حينه، كانت مصر تحت حكم مبارك، والعراق تحت حكم صدام حسين.
وشهدت تلك الايام حينئذ وصول العمال المصريين فى النعوش، وكان مرفقا مع كل جثة كلمات مقتضبه، بأن القتل تم عن طريق الخطأ، أو فى مشاجرة، أو على يد عراقى «سكران» وكانت الجثث تعود لمصر بلا أى حق مالى سواء من أجور لهذا العامل، أو حتى مدخراته، وما لقيه العمال المصريون من قتل وتنكيل وترويع حتى نوفمبر عام 1990 فى العراق فاق الخيال، وبلغ عدد الضحايا 8 آلاف مصرى، وفقاً لما أعلنه الرئيس المخلوع مبارك فى حينه.
وكان أبرز هذه الأحداث الدامية التى تعرض لها العمال المصريون فى العراق، ما  أطلق عليه فى حينه الجمعة الحزينة يوم 18 نوفمبر 1989، عندما خرج العمال المصريون يحتفلون فى العراق بفوز منتخب مصر على الجزائر، وفوجئوا بعراقي يقتحم الجمع المصرى بسيارته ويقتل شخصاً ويصيب 7 آخرين ، وعندما تظاهر المصريون غضبا لهذا الحادث، هاجمهم العراقيون بوابل من الرصاص والأسلحة البيضاء، وكانت بمثابة مذبحة قتل فيها  7 مصريين وأصيب  120 آخرون.
وثار المصريون غضبا فى مصر، وطالبوا مبارك بالقصاص والتحرك العسكرى ضد العراق ،ولكن كانت هناك حسابات أخرى عليا فوق أرواح المصريين، وعقب هذا الحادث، بدأت العراق فى طرد العمال المصريين بلا مبرر بالآلاف، وإلقائهم خارج الحدود بلا أموال أو متاع أو حقوق، وبررت العراق وقتها طرد الآلاف من المصريين، بأنها قامت  بتسريح الآلاف من الجيش العراقى، وهؤلاء لا يجدون فرص عمل، بالتالى وجدت العراق ان الحل وفقاً لها هو الاستغناء عن المصريين وعمالتهم، ليحل محلهم أفراد الجيش العراقى الذين تم الاستغناء عنهم عسكرياً، ولكن هذا التبرير لم يوضح أبداً حتى تلك اللحظة سبب مقتل العمال المصريين على أيدى العراقيين، وكانت معظم التحقيقات فى العراق تغلق على أن قاتل المصرى شخص عراقى كان فى حالة سكر، ولم يكن على وعى بما يفعله، ولكن ثارت هناك شائعات وأقاويل كثيرة كان أبرزها، تزايد ظاهرة زواج المصريين من عراقيات، وهو ما أثار غيرة العراقيين ولكن لم توجد أبداً أدلة على صحة هذه التأويلات.

تحركات ضعيفة لمبارك
ولم ترتق أبداً تحركات الرئيس السابق مبارك وفقا لمستوى الحدث العظيم بقتل 8 آلاف مصرى، وكل ما تم فعله فى حينه هو الشجب والتنديد، والإدانة الدبلوماسية، كما قد تقدم اتحاد نقابات عمال مصر بشكوى ضدالعراق الى منظمة العمل الدولية أثناء اجتماعها بجنيف فى نوفمبر 1990، وتضمنت الشكوى  الإجراءات التعسفية ضد العمال المصريين، وحرمانهم من حقوقهم سواء الأجور أو التحويلات المالية أومكافآت نهاية الخدمة، واتخذ مجلس إدارة المنظمة فى حينه قراراً بتشكيل لجنة دولية ثلاثية من الحكومات والعمال وأصحاب العمل من فرنسا وبريطانيا وكوستاريكا للتحقيق فى شكوى اتحاد نقابات مصر، كما نسقت وزارة العمل المصرية مع المسئولين العراقيين نظاماً لدفع التعويضات للمصريين عبر تحويلات تتم للبنوك المصرية وعلى فترات زمنية طبقاً للاتفاق بين الجانبين، والمثير أنه لم يتم الوفاء بهذا الاتفاق من قبل العراق، وحتى الآن لم يحصل الآلاف من العمال المصريين على حقوقهم.
والآن فى ليبيا، يوجد قرابة مليون ونصف عامل، هؤلاء الذين  لا يزال أغلبهم متمسكا بالبقاء هناك رغم المخاطر القاتلة، وكأنهم يفضلون خوض رحلة الموت، بدلاً من رحلة الجوع فى مصر، وليست مفاجأة أن المصريين فى ليبيا يدفعون الآن ثمن خطأ وقع فى عهد مبارك أو خطيئة سببتها اتفاقية، فمنذ ثلاثة عقود فى عام 1990 على وجه التحديد،  وقعت مصر مع الحكومة الليبية اتفاقية منحت حق التنقل والإقامة والعمل لجميع المواطنين في الدولتين، وسمحت بفتح الحدود، بما أفسح المجال أمام السفر باستخدام بطاقة الهوية من دون الحاجة للحصول على أى تأشيرات دخول، فتدفق مئات آلاف المصرييـــن إلى ليبـــيا، ليصل عدد المصريين هناك الى قرابة مليونـــين، وفـــق ما أوردتـــه «شعـــبة العمالة في الخارج» التابعـــة لوزارة القــوى العاملة المصرية، في آخر إحصائية لها قبل «ثورة 25 يناير» وليس مليون ونصف كما يتردد الآن.
ولم تضع الاتفاقية فى حينه اى تحسبات لحدوث توتر فى ليبيا، لم تضع ضمانات لحماية العمال المصريين، أو ضمان حقوقهم، أو حتى إمكانية نقلهم وإجلائهم عن مناطق الخطر، وكأننا عقدنا اتفاقية لإلقاء أبنائنا فى البحر دون مركب ودون أن نعلمهم حتى السباحة، وكان  مقتل العقيد معمر القذافي إبان اندلاع الثورة ضده في 17 فبراير عام 2011، بداية وبال على العمال المصريين، حيث اندلعت حالة من الفوضى والحرب القبلية العنيفة، وتنازعت الجماعات الإرهابية السيطرة على مساحات واسعة من البلاد، حدث هذا ومصر مشغولة فى أمورها الداخلية، تحاول ترتيب أوراقها السياسية والأمنية ، وتواجه حالة من الاستقطاب السياسى والدينى الحاد كانت قد خلقتها جماعة الإخوان الإرهابية، فلن يتم التنبه المبكر لأزمة العمالة فى ليبيا، حتى عندما أغلقت السفارة المصرية أبوابها، بعد تتابع عمليات اختطاف المصريين والإفراج عن بعضهم وقتل آخرين، لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة لإعادة المصريين لوطنهم سالمين.

أهم من الحياة
وللأسف فإن المصريين أنفسهم لم يستجيبوا للنداءات المتكررة التى أطلقتها الحكومة المصرية لعودتهم لمصر، أو لتجنبهم أماكن الخطر، أو لعدم سفرهم لليبيا  إلا فى الضرورة القصوى، ولكن يبدو أن لقمة العيش صارت لدى المصريين العاملين فى ليبيا هى الضرورة القصوى الأهم من حياتهم، ورغم أن مصر بدأت بالفعل منذ فترة في التصرف حيال  الأزمة الليبية، أملاً فى إعادة الأمور إلى نصابها، وإقرار الأمن والهدوء والتفاهم السياسى فى هذا البلد الشقيق،  باتخاذ خطوات عدة منها تشكيل مجموعة أصدقاء ليبيا، وعقد عدة مؤتمرات ولقاءات لدول الجوار  على أمل توحيد الفرقاء داخل ليبيا تحت رعاية دول الجوار وجامعة الدول العربية، إلا أن ظهور الميليشيات المسلحة المتطرفة من داعش وغيرها فى ليبيا، أفسد هذه الجهود، وأصبح العنف والإرهاب هو سيد الموقف الذى يهدد الليبيين ويهدد أيضاً كل وافد متواجد فى ليبيا من مصريين وغير مصريين، صيادين، ودبلوماسيين، وأجانب، كلهم تعرضوا للاختطاف في مواقف مختلفة، ومنهم من تعرض للقتل، ومنهم من حرر نفسه بالقوة، ومنهم من دفع مصر إلى التدخل بقوات عسكرية لتحريرهم على غرار شهداء مصر الـ21.
والتحرك العسكرى المصرى للانتقام من داعش قتلة المصريين فى ليبيا بإرسال قوات جوية توجه ضربات عسكرية مركزة ضد المسلحين فى ليبيا، تحرك فريد من نوعه، ويعد سابقة تاريخية سجلها السيسى والجيش المصرى على هذا النحو، وهو تصرف خلق مقارنة هائلة وعلامة فارقة بين ما فعله مبارك حيال أزمة المصريين بالعراق، والسيسى الآن حيال أزمة المصريين فى ليبيا، ورغم أن مصر سبق وخاضت بعض التحركات الأمنية والعسكرية فى الخارج، للتصرف حيال أزمات اختطاف أو احتجاز سابقة تعرض لها مصريون فى مناطق أخرى مختلفة، إلا أنها المرة الأولى التى تتحرك فيها قوة جوية على هذا النحو وبهذا الإصرار والكثافة لضرب معاقل الإرهابيين فى دولة جوار.
ومن المواقف التى سبق وخاضتها مصر لإنقاذ رعاياها، منها عملية مطار «لارنكا» في 18 فبراير عام 1978، عندما اغتالت مجموعة فلسطينية بزعامة «أبو نضال» الأديب يوسف السباعي في نيقوسيا بقبرص أثناء حضوره مؤتمراً ثقافياً، واحتجزت جماعة أبونضال  16 مصريا ممن حضروا  داخل طائرة DC-8، وهددوا بقتلهم، إذا لم توفر لهم الحكومة القبرصية طائرة تقلع بهم من قبرص، وعندما لم تسمح عدة دول للخاطفين من الهبوط على أراضيها  قام الخطفون بالهبوط في جيبوتي، ثم قرّروا العودة إلى مطار لارنكا، واستمرت عملية احتجاز الرهائن داخل الطائرة بمطار لارنكا بقبرص حتى يوم 11 يوماً، مما دفع الرئيس الراحل أنور السادات الى إرسال قوات صاعقة تابعة للوحدة (777)، لتحرير الرهائن دون إخطار الجانب القبرصي، الأمر الذى أدى لاندلاع اشتباكات بين القوات القبرصية والقوات المصرية  فور هبوطها من الطائرة الحربية المصرية في مطار لارنكا، وقصف القبارصة الطائرة المصرية الحربية بقذيفة مضادة للدبابات، ما أدّى إلى مقتل طاقمها، كما أسفرت الاشتباكات بين القوات المصرية والقبرصية إلى مقتل 15 فرداً من القوات المصرية، وجرح ما يزيد على ثمانين شخصاً من الطرفين، وتسبب الحادث في قطع العلاقات المصرية القبرصية، ولم تعد العلاقات بين البلدين إلا بعد وفاة الرئيس السادات.
وكانت المرة الثانية التى تدخلت فيها قوات عسكرية مصرية محدودة فى عملية مطار«لوكا» فى 23نوفمبر عام 1985، عندما قام 3  عناصر تابعين لمنظمة «ابونضال» الفلسطينية، باختطاف طائرة مصرية كانت فى اتجاهها من مطار أثينا إلى مطار القاهرة، وأجبر المسلحون  قائد الطائرة على الهبوط بها فى مطار لوكا الدولى بمالطا، وهدد الخاطفون بعد الإفراج عن 11 راكبا  بإعدام راكب كل ربع ساعة حال عدم الاستجابة لمطالبهم بالإفراج وبالفعل قتلوا اثنين، ومع فشل المفاوضات،  أرسلت مصر فرقة من الوحدة 777 للقوات الخاصة إلى مطار لوكا واقتحمت الطائرة لتحرير الرهائن فى عملية عسكرية، وكان نتيجة العملية مقتل 56 راكباً من إجمالى 88 شخصاً كانوا على متن الطائرة.
وكانت العملية الثالثة لتدخل قوالت مصرية أيضاً محدودة لتحرير مصريين مختطفين فى إبريل عام عام 2009، عندما تعرض مركبا صيد مصريان للقرصنة على أيدى قراصنة صوماليون بالقرب من السواحل الصومالية، وكان على متنهما 36 صياداً، وظلت الحكومة المصرية تتفاوض مدة 4 أشهر من القراصنة والصيادين المصريين فى قبضتهم، قبل ان تتمكن قوات أمنية وعسكرية مصرية محدودة من التحرك لمواجهة القراصنة والاستيلاء على بعض أسلحتهم، وقتل عدد منهم.
من كل ما سبق، نجد أن العمال المصريين يجب ألا يصبحوا بعد الآن ضحية لأية صراعات سياسية أو دينية فى الخارج، يجب أن تتحرك مصر دوماً وبصورة مبكرة لإنقاذ أبنائنا، وحماية أراوحهم وحقوقهم، وفى موقفنا الراهن،  يجب أولاً على مصر سرعة  تحديد ممرات آمنة لإجلاء المصريين المقيمين في ليبيا، وبخاصة المتواجدون منهم في الأماكن الخطرة، وان يتم التنسيق مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ودول الجوار الليبي لانقاذ المصريين وإجلائهم بصورة آمنة عن ليبيا، ويجب أن توضع قيود خاصة على سفر المصريين لليبيا وحظر سفرهم الى أى مناطق ساخنة فى العالم، فلا يجب أن يصبح الموت هو البديل أو الثمن للقمة العيش لملايين من عمالنا فى الخارج.