عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أنيس منصور .. الإنسان الفيلسوف الكاتب كما عرفته

ذات يوم سألت أستاذى الكبير أنيس منصور : مع إجادتكم لست لغات أجنبية بطلاقة بالإضافة إلى العربية، ومع كثرة سفرك وترحالك، كيف ترى مصر وأنت فى وسط هذا الخضم الهائل من الثقافات المختلفة والمعلومات؟ .. فكرا قليلا ثم أجابنى قائلا:

- مصر بالنسبة لى كقلمى الذى أكتب به،.. يلازمنى بإستمرار، فهى معى فى كل وقت، .. وإلى أى بلد أسافر إليه، .. هى معى حين أقرأ، وحين أكتب، .. لا تفارقنى أبدا.

لكن فى الساعات الأولى من  صباح يوم الجمعة 21 أكتوبر 2011 رحل أنيس منصور،.. رحل عن قلمه وكتبه وأوراقه وعن مصر وعن العالم المادى كله إلى عالم آخر أفضل،.. رحل عنا بجسده ، لكن فكره باق معنا فى مقالاته وكتبه وأحاديثه الإذاعية والتليفزيونية الممتعة الشيقة، وفى مسرحياته ورواياته التى تحولت إلى مسلسلات تليفزيونية، وفى بعض الذكريات الجميلة.

عندما علمت بنبأ دخوله مستشفى الصفا قبيل رحيله ببضعة أيام إستشعرت قرب النهاية، لكن لم يخطر ببالى أبدا أن النهاية خلال أيام معدودات،.. وعندما أذيع الخبر وأنا أعمل فى الصباح الباكر، توقفت فجأة عن الكتابة، وتملكنى حزن عميق .. لا أريد أن أصدق أنه قد رحل، .. إزاء الموت يقف الإنسان لبرهة وجيزة مشدوها، مصدوما محبطا من الشعور بالعجز التام عن أن يفعل شيئا، ثم يستسلم ويسلم بقضاء الله وقدره ، وأنها إرادة الله، وأن كل نفس ذائقة الموت،.. وعندما أبدأ فى إدراك فداحة الخسارة يداهمنى على الفور شعور متضاعف بالحزن والألم والحسرة، وهو  شعور أصبح يتملكنى كلما إفتقدنا أحد العظماء من المفكرين والمبدعين ليس فى مصر فقط وإنما فى كل مجالات الفكر الإنسانى، فهؤلاء العظماء لا يمكن تعويضهم بسهولة، ورحيل أى مفكر عملاق أو فنان مبدع قدير هو بلا شك خصم فى رصيد الإبداع والفكر الإنسانى، .. وهل وجدنا من يحل محل عمالقة مبدعين مثل أحمد شوقى  أو حافظ إبراهيم أو عباس محمود العقاد أو طه حسين أو توفيق الحكيم أو كامل الشناوى أو أحمد بهاء الدين أو نجيب محفوظ؟
هل لدينا فنان استطاع أن يحتل مكانة أنور وجدى أو زكى رستم أو محمود المليجى أو رشدى أباظه أو أحمد زكى أو أنتونى كوين أو جريجورى بيك ؟
هل وجدنا مطربة فى مكانة أم كلثوم ، أو مطرب يحتل مكانة عبد الحليم حافظ؟
هل يوجد فى العالم اليوم أديب يمكن أن ترتفع قامته وقيمته الأدبية لتطال قامة وقيمة عمالقة الأدب والفكر مثل ليو تولستوى أو إرنست هيمنجواى؟

الإجابة طبعا بالنفى، فكل مفكر عملاق وعبقرى، .. كل فنان مبدع وموهوب هو نسيج وحده، فريد فى إبداعه، والموهبة يمكن أن تتطور وتصقل بالدراسة والعلم، والعمل الدءوب، أما العبقرية فهى تقوم بالدور الذى يتعين عليها أن تقوم به، ألا وهو أن تنظر الى الماضى وتسبر أغواره لتفهم،  ثم تحلل الحاضر وتستوعب العصر الذى تعيشه ثم تتخطاه وتسبقه لتستشرف لنا معالم المستقبل،.. وكان هذا شأن أنيس منصور – آخر أشهر الرواد الأعلام من جيل العمالقة فى الفكر والأدب والكتابة فى مصر والعالم العربى.

لم يكن أنيس منصور مجرد كاتب صحفى كبير ومشهور، بل كان فيلسوفا، ومفكرا مبدعا ومتعدد المواهب، وقبل كل شىء كان إنسانا بكل معنى الكلمة،.. ومواطنا عالميا إنفتح فى سن مبكرة على العالم وثقافاته المختلفة ودون أن ينسى جذوره المصرية.

فى أوائل حقبة الثمانينيات من القرن الماضى ذهب إليه الكاتب الإسرائيلى عاموس إيلون ليجرى معه حوارا وحديث صحفى خاص، وكان قد سمع كثيرا عن ثقافته الواسعة وإجادته لعدة لغات أجنبية، وكان عاموس إيلون يجيد عدة لغات، ويبدو أنه كانت تساوره بعض الشكوك حول ما سمع عن القدرات الشخصية الخاصة التى يتمتع بها الكاتب المصرى أنيس منصور، وأن الأمر قد لا يخلو من مبالغة، وأراد أن يحكم هو بنفسه، ... التقى الكاتب الإسرائيلى كاتبنا الكبير ( الراحل) أنيس منصور فى مكتبه، وأجرى معه حديثا طويلا فى السياسة والصراع العربى الإسرائيلى، والعلاقات المصرية الإسرائيلية، ومستقبل السلام بين مصر وإسرائيل بعد توقيع معاهدة السلام، بل وناقشه فى قضايا فلسفية،.. فى الحقيقة لم يكن الحديث بينهما حديثا عاديا، بل كان أشبه ما يكون بمباراة أو مبارزة شرسة بين عقلين واحد إسرائيلى والآخر مصرى، .. كان عاموس يسأل أنيس منصور سؤالا بالإنجليزية فيجيبه بالإنجليزية، ثم يوجه له السؤال التالى بالفرنسية فيجيبه بطلاقة وإتقان بالفرنسية، ثم يوجه له سؤالا ثالثا نصفه الأول بالإنجليزيه ثم يكمل النصف الثانى من السؤال باللغة الألمانية، فيجيبه أنيس منصور بلغة ألمانية سليمة وبنطق جيد فى سلاسة ويسر وثقة بالنفس أيضا وهكذا إستمر الحديث إلى أن فاجأ أنيس منصور الكاتب الإسرائيلى بالإجابة على أحد الأسئلة باللغة العبرية التى كان قد قطع شوطا كبيرا فى تعلمها على كبر، وفى نهاية الحوار، وبعد أن لمس عاموس إيلون بنفسه مدى سعة إطلاع أنيس منصور وغزارة معلوماته وقوة حججه العقلانية، أدرك عندئذ أن ما سمعه من قبل عن أنيس منصور كان أقل من الحقيقة.

نشر الكاتب الإسرائيلى عاموس إيلون حواره مع أنيس منصور كاملا فى كتاب له بعنوان " رحلة إلى مصر"، تضمن أيضا حوارات مع شخصيات مصرية بارزة.

بالرغم من كل هذا لم يكن الفيلسوف المفكر أنيس منصور متكبرا أو مغرورا على الإطلاق كما يظن البعض، بل كان متواضعا، .. قمة فى التواضع، لكن فى نفس الوقت كان على درجة عالية من الثقة والإعتداد بالنفس ربما يفسرها من لا يعرفه جيدا بالغرور والتعالى،.. لقد كانت فى شخصية أنيس منصور المتواضعة كبرياء، وكان فى كبريائه تواضع، وظنى أنه ربما تأثر بهذه الصفة من علاقته المبكرة،  وقربه وإعجابه بالأديب العملاق عباس محمود العقاد.

لم يكن أنيس منصور كاتبا صحفيا كبيرا فحسب بل كان موسوعة بشرية متنقلة، .. كان وظاهرة ، وحالة فكرية وأدبية خاصة فى الكتابة والصحافة فى مصر والعالم العربى تستحق الدراسة والتأمل .

لقد كان الفيلسوف والكاتب الكبير أنيس منصور أستاذى، تعرفت عليه فى سن الصبا من خلال مقالاته وكتبه وأحاديثه ومسلسلاته وقبل أن أسعد وأتشرف بمقابلته، .. وأنا مدين له بالكثير، فبسببه أردت أن أكون صحفيا، فدخلت كلية الآداب وبعد أن مضيت ثلاثة أشهر فى قسم الصحافة أكتشفت أنه لا توجد به صحافة ولا يحزنون، لا تخصص على الإطلاق وأن الكتب الدراسية عبارة عن قصص وحكايات أى واحد يستطيع أن يقرأها بسهولة فى أوقات الفراغ، وطلبت نقلى من القسم، وعندما عرفت أن أشهر الصحفيين والكتاب فى مصر لم يتخرجوا من قسم الصحافة أو كلية الآداب ، وأن أنيس منصور وغيره قد تخرجوا من قسم الفلسفة، لم أتردد فى دراسة الفلسفة وعلم النفس، وقد كان، وفى نفس القسم والكلية التى تخرج منها أنيس منصور.

وأيضا تأثرت كثيرا بكتابه الشهير" حول العالم فى 200 يوم"، فأصبحت أحلم فى سن مبكرة بالسفر والترحال إلى دول أوروبا.

إن أول حديث صحفى أجريته فى حياتى كان مع أستاذى الكاتب الكبير أنيس منصور، ..كنت لا أزال طالبا فى الجامعة، وحاولت مرات كثيرة أن أقابله فى مكتبه وأتعرف عليه عن قرب لكن دون جدوى فهو إما مشغول أو مسافر خارج مصر، لكنى لم أيأس، وشاءت الأقدار أن ترتب اللقاء بيننا على غير ميعاد، وأين ؟ ليس فى مكتبه، وإنما فوق السحاب بين السماء والأرض وعلى إرتفاع 30 ألف قدم، فى إحدى طائرات الخطوط الجوية السويسرية، وكنت مسافرا عليها فى رحلة إلى باريس، ومن حسن حظى كان الأستاذ أنيس مسافرا على نفس الطائرة مع حرمه السيدة الفاضلة رجاء ( شفاها الله وألهمها الصبر والسلوان ) فى زيارة إلى المغرب ثم إلى لندن ،... نجحت فى أن أغير مقعدى على الطائرة وأجلس بجواره طوال الرحلة من القاهرة إلى جنيف لمدة

أربع ساعات ونصف الساعة ، وكان رحمه الله كريما معى ومتواضعا إلى أقصى حد، وأجريت معه حديثا صحفيا طويلا لنفسى أولا وأخيرا وليس للنشر، وعقب وصولى إلى باريس بساعات قليلة بدأت فى كتابة الحديث وكل ما جرى بينى وبينه وحتى لا أنسى أو تخوننى الذاكرة فيما بعد.

هذا الحديث لم أنشره فى حياتى الصحفية من قبل، ولازلت أحتفظ به كما هو رغم مرور سنوات طويلة ،.. ولقد ترددت كثيرا فى نشره لعدة أسباب مختلفة، .. كان حديثا صريحا جدا بيننا، تناول الكثير من الموضوعات والشخصيات الكبيرة، تحدثت معه عن عبد الناصر والسادات ، وعن الشقيقان التوأم مصطفى وعلى أمين، وعن موسى صبرى ومحمد حسنين هيكل، ونبيل عصمت وحرب أكتوبر، وعنه هو شخصيا ، وكنت أخشى أن أسبب له حرجا إذا نشرت الحديث وأتسبب فى وقوع مشاكل بينه وبين بعض الشخصيات التى تناولها الحديث مثل الكاتب الصحفى موسى صبرى أو الأستاذ محمد حسنين هيكل، .. هناك سبب آخر الحقيقة منعنى من نشر الحديث هو أنه بعد سنة تقريبا تغير وضع الأستاذ أنيس منصور تماما وأصبح من أقرب الصحفيين المقربين من الرئيس السادات، .. وبصراحة لقد خشيت عليه من هذا الإقتراب ليس نتيجة موقف أو رأيى الشخصى فى الرئيس السادات، وإنما خشيت عليه من الإقتراب الزائد من السلطة الحاكمة، وكان فى ذهنى تجربة العلاقة المتميزة الكبيرة بين الرئيس عبد الناصر والكاتب الكبير الأستاذ هيكل، بكل ما لها وما عليها، كانت قناعتى وقتئذ ولا تزال أن الإقتراب الزائد من السلطة أمر محفوف بالمخاطر، فالسلطة كالشمعة المتوهجة ، نعم تضىء لكن إذا إقتربت منها جدا قد تحرقك، لذا يجب الإحتفاظ بمسافة معينة بعيدا عنها،.. فآثرت أنا أن أبتعد مع متابعة نشاطه من بعيد، والحمد لله أكتشفت بعد سنوات أن  مخاوفى لم يكن لها ما يبررها ولعل السبب كان شخصية أنيس منصور نفسه كفيلسوف ومفكر،  فقد عصمته من الوقوع فى براثن وسلبيات الإقتراب من الحاكم ورأس أكبر سلطة فى البلاد،... والتقينا بعد ذلك فى تورونتو بعد هجرتى إلى كندا عندما رافق الرئيس مبارك أثناء الزيارة الوحيدة التى قام بها إلى كندا فى عام 1983 ، .. دعوته على العشاء فى أحد المطاعم القريبة من فندق " رويال يورك" أكبر وأعرق أوتيل فى تورونتو ، والذى كان ينزل فيه الرئيس مبارك والوفد المرافق له والصحفيين، وهو نفس الفندق الذى تنزل فيه الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا وكندا عند زيارتها لتورونتو.

على العشاء تجاذبنا أطراف الحديث، .. إتفقنا كثيرا فى أشياء وإختلفنا فى أشياء أخرى قليلة ، وكان كعادته مستمعا جيدا ويحترم الرأى الآخر ، وللوهلة الأولى أحسست أن أستاذى الكبير كان لا يزال وكما التقيته أول مرة فى الطائرة ، لم يفقد تواضعه أو روح الدعابة والقفشات التى كان يتميز بها، .. كان حديثه كالعادة مثيرا وشيقا، ومثل أسلوبه فى الكتابة من نوع السهل الممتنع، .. ذوق وشياكة وأناقة وبساطة فى نفس الوقت تماما كملبسه .

فى الواقع إن الحديث منفردا مع فيلسوف وكاتب كبير مثل أنيس منصور متعة عظيمة يصعب وصفها ، ولا يتمتع بها إلا من سنحت له الفرصة وخاض التجربة، فأنت تتحدث مع قامة كبيرة وشامخة، ..حفظ القرآن كله وهو فى سن التاسعة، كما كان يحفظ آلاف الأبيات من الشعر العربى والأجنبى ، ثم درس الفلسفة ، وكانت كتاباته عن الوجودية من أروع ما كتب عنها باللغة العربية ، وكان بحق أكبر قارىء فى العالم العربى كما وصفه الأديب الكبير طه حسين ،.. وقد ساعده على ذلك إجادته لععدة لغات أجنبية، لم يكن يترجم ما يقرأ من مصادر أجنبية، بل كان  يهضم مايقرأ تماما ثم يبدأ فى كتابة مقال عن الموضوع بعقل المفكر الفيلسوف فيضيف إليه معلومات ورؤية جديدة ، وكان حريصا فى عموده اليومى على أن يقدم للقارىء المصرى والعربى معلومة جديدة أو أكثر فى كل مقال ،.. لقد كانت له طريقة عبقرية أو توليفة خاصة فى الكتابة يصعب تقليدها أو تكرارها وانجذب لها ملايين القراء فى العالم العربى كله فأقبلوا على مقالاته وكتبه ومؤلفاته التى حققت أرقام مبيعات قياسية .  إن الحديث عن أستاذى وصديقى الراحل أنيس منصور حديث طويل لا يكفى له مقال أو عشرة بل يحتاج إلى كتاب، وقد إختصرت كثيرا جدا وحتى لا يمل القارىء،... منى بالطبع وليس من أنيس منصور.

منذ أيام قليلة عدت إلى قراءة حديثى فى الطائرة مع الأستاذ أنيس منصور والذى لم أنشره، .. فكرت كثيرا وأحترت هل أنشره الآن بعد كل هذه السنوات الطويلة وبعد رحيل الكاتب الكبير أم لا؟ ولم أستقر على رأى، فعرضت الأمر كله على الصديق العزيز الأستاذ عادل صبرى رئيس التحرير، والذى أثق تماما فى حسه وحدسه الصحفى، وأمانته الصحفية التى أصبحت الآن عملة نادرة، فتحمس لفكرة النشر، وفى العدد الأسبوعى لصحيفة الوفد، وأيضا فى بوابة الوفد الإلكترونية.

رحم الله أستاذى الكبير وأستاذ عدة أجيال - أنيس منصور – الفيلسوف المفكر الإنسان والظاهرة التى يصعب أن تتكرر مرة أخرى فى الصحافة العربية.

----------------
كاتب صحفى مصرى-كندى
[email protected]