عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بالمحبة والوحدة.. قبطي يؤسس مائدة رمضانية عمرها 37 عامًا في شبرا

محررة الوفد مع العم
محررة الوفد مع العم جميل

تزخر مصر بصور مختلفة للوحدة الوطنية، وتلاحم نسيج الشعب وترابطه بكل فئاته، تضرب بها الأمثال في شتى بقاع العالم، حيث حرص مصري مسيحي على إفطار مسلمي منطقته "شبرا مصر" لمدة سبعة وثلاثين عامًا على مائدة سماها وشركاه المسلمون "مائدة المصريين".

شعار هذه المائدة أنها تخدم كل المصريين، ولا تسأل عن نوعهم أو شكلهم أو دينهم.

مائدة لكل المصريين:

 جميل كامل، 73 عامًا، عمل مدير عام حسابات بجامعة عين شمس، مسيحي من حي شبرا، يناديه الناس بـ"عم جميل".

"أهلا بكم على مائدة المصريين في شبرا، المائدة التي تخدم كل المصريين بلا تفرقة.. أقول في بداية حديثي لشهداء الشرطة والقوات المسلحة: دمكم وتضحياتكم لم تذهب هباءً وقلوبنا معكم ومع أسركم"، كانت هذه كلمات الرجل السبعيني أثناء استقباله لضيوف المائدة.

وأضاف عم جميل في تصريحاته لـ"الوفد": "تمثل لنا هذه المائدة نحن أهالي شبرا ارتباطنا مع بعضنا البعض، يبلغ عمر هذه المائدة سبعة وثلاثين عامًا مليئة بالحب والتسامح، ولهذه المائدة نظام جديد مستحدث فهي تعمل بنظام "عامود" الطعام فكل عائلة تأخذ عامود طعام في بداية الشهر، ثم يحضرون يوميًا قبل الإفطار بساعة أو ساعتين بعمود الطعام، ويأخذونه ممتلئًا بالوجبات للإفطار مع عائلاتهم.

"العمود جعل الناس يرتبطون بمائدتنا أكثر وأكثر فالعمود لا يقل عن خمسة أدوار وقد أخرجنا مئة وعشرين عمودًا، غير أن هناك من يُحضر من بيته ما يأخذ فيه الوجبات، في كل عام نفكر بأفضل الطرق لخدمة الصائمين"، بحسب قول "عم جميل".

وجبات الصائمين:

أما عن وجبات الصائمين فقال الرجل السبعيني إنهم يقومون بتغيير الوجبات يوميا، فالثابت هنا هو الأرز والسلطات واللحوم والعصير، أما باقي الأكل فيتم تغييره يوميًا.

المائدة تطعم من 350 إلى 400 فرد يوميًا، وقد تصل أحيانًا لـ500 فرد طبقًا لـ"علي رمضان" طاهي المائدة الذي يقول: "في اليوم الواحد أطبخ ما يعادل أربعين كيلو من الأرز، أنا أفعل كل هذا لوجه الله تعالى لا أريد شيئًا إلا رؤية الناس سعداء".

يقوم على هذه المائدة أشخاص كثيرون على رأسهم عبدالرحمن الذي وصفه عم جميل بأنه "الدينامو" المحرك لهذه المائدة، وأضاف: "هناك من النساء من تعمل معنا طواعية لتحضير بعض المكونات، مثل تقشير البصل والبطاطس لتحضير وجبة اليوم التالي، وأهالي الحي جميعا يدعموننا بكل الأشكال".

أجيال مختلفة على مائدة واحدة:

يقول "عم جميل" في حديثه عن المائدة: "أجيال تعاقبت عليها فهي تضم اليوم شبابًا صغارًا مع وجود بعض المؤسسين الأوائل وأبنائهم، يخدم الشباب الصغير هنا بمختلف الأعمار يتعلمون الرجولة على حق والتواضع والحب، نحن نفعل هذا لنعلمهم قيمة الحب والترابط فيما بينهم وكل الناس".

هكذا بدأت المائدة:

أضاف عم جميل أن هذه المائدة بدأت بمجموعة من أصحاب المحلات الكبيرة مع المرحوم "أبو عبدالرحمن" صاحب فكرة عمود الطعام، ثم انسحبوا واحدًا تلو الآخر، لذلك وقف الجميع مع "أبو عبدالرحمن"، وقدموا له الدعم وعلى رأسهم المرحوم "عباس"، وأولاده مازالوا حتى الآن يقومون بتوفير احتياجات المائدة مع والدتهم.

ويوضح عم جميل أن "السرادق كان يمتد على طول الشارع فيما مضي، ولكن قلت هذه المسافة لأن عمود الطعام وفر للصائمين هنا إمكانية الإفطار مع عائلاتهم في البيت".

أما عن الجيل الجديد فقد وفر كل احتياجات المائدة حتى "الفراشة"، كذلك المقاعد والطاولات صنعوها بأنفسهم، كما أنهم يقومون بفرشها كل رمضان.

ويكمل "الأطفال اليوم نعلمهم الاهتمام بالمائدة لأنهم هم رجال المستقبل، ويقع على عاتقهم إكمال مهمة الأجيال السابقة".

عم جميل يصوم رمضان:

عن سبب صيام رمضان يقول عم جميل "ارتبطت برمضان منذ الصغر، رمضان يجمعنا كل عام مع جلسات السمر وكوب الشاي، أو فنجان القهوة كل يوم بعد الإفطار أشياء جميلة لا تعوض، ارتبطت برمضان أكثر أثناء خدمتي في الجيش، فقد تخرجت من الجامعة وجندت في الجيش عام 1969م، وكنت في الجيش الثالث الميداني، كما شاركت في حرب أكتوبر 73 حرب رمضان، وكان الجميع صائمًا، فكيف لا أصوم مع زملائي، وزاد ارتباطي بالصيام اللواء المرحوم عبدالمنعم واصل، قائد الجيش الثالث".

 ويضيف "زارنا اللواء عبدالمنعم واصل مرة ليلًا وكنا داخل العربة، ولم أتعرف عليه بسبب الظلام وسألني "صايمين يا ابني"، فأجبت بنعم وكنا كذلك، فقال "أنا أحمل لكم تحيات الرئيس السادات ووزير الحربية وأنا اللواء عبدالمنعم واصل، قائد الجيش الثالث"، حاولت الخروج من العربة لتحيته، ولكنه رفض وقال: "بلغ تحياتي وتحيات الرئيس السادات لزملائك وسوف أزوركم عما قريب" هذا الموقف زادني ارتباطًا بالصيام.

ويواصل حديثه: "بعدما تركت الجيش وعملت في جامعة عين شمس ارتبطت بزملائي أيضا وكان الإفطار في بيت أحد منا مختلف كل يوم أو في أحد المطاعم، وكانت من تحضر الطعام لي ولزملائي الصائمين المرحومة أختي وزميلة مسلمة معها فكانتا تملآن طاولة  لـ12 فردًا، كما كانت تمتلئ تلك الأيام بالسمر والضحك والمزاح".

أبناؤه في الخارج:

 عم جميل ليس لديه أبناء ولكن أبناء أخيه مثل أبنائه تمامًا على حد تعبيره، ويضيف: "أسامة وهاني ذهبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحصلا أيضًا على الجنسية الأمريكية، تربيا وترعرعا في هذا المكان، وعلى هذه المائدة، فكان لهما دور في التحضير للمائدة كعمل السلطات وغسل الأطباق وخدمة الصائمين".

وتابع قائلا: "عندما يتصلان من الخارج يسألان دائما عن أخبار المائدة وأخبار الجيران، وعندما يأتي الأصغر منهما إلى مصر يخرج مع أصدقائه طوال الوقت، والذي يبلغ مقدار المسلمين بينهم 99% ألا يدل هذا على قمة المحبة والأخوة، أما الأكبر فدائما ما يخبرني عن كم اشتياقه لبلاده وأهله وأصدقائه، وأنه دائمًا ما يعد الأيام حتى يعود إلى هنا، فالمصري مهما تغرب وذهب إلى أبعد بقاع العالم يغلبه شوقه ويعود مرة أخرى لبلاده فهذه هي طبيعة المصريين".

استمرار المائدة:

"هذه المائدة قائمة على المحبة والتسامح والترابط منذ سبعة وثلاثين عامًا، لو اختفت هذه الأسباب لهُدمت بيوت ومجتمعات، ألا تكفي لهدم مائدة!" بهذه الكلمات الجادة أجاب عم جميل عن سؤال "ما الذي يحافظ على استمرارية هذه المائدة لأجيال قادمة؟".

وأكمل: "إن المصريين أقوى من كل التحديات وكما يحافظون على استمرار مائدتهم يحافظون كذلك على تلاحمهم وعلى محبتهم".

ويتذكر الرجل السبعيني هنا حادثًا كاد أن ينهي كل شيء فيقول: "كاد أن يُهدم هذا البيت –الذي يتم التحضير داخله للمائدة – وفي هذا منفعة كبيرة لي فقد كنت أستطيع بناء برج مكانه، لكني حرصت على بقاء هذا المائدة، كانت هذه المائدة هي رغبة المرحوم "أبو عبدالرحمن" فكان يقول لي بالله عليك يا جميل لو لم أكن هنا، ولم تكن أنت هنا احرص على استمرارية هذه المائدة، فكانت هذه تعليماتي وأوامري لأبنائي أن تستمر هذه المائدة دائما".

رحلة ثلاثة وسبعين عامًا:

عن حياته مع إخوانه المسلمين يقول عم جميل "نحن نرتبط ببعضنا بشدة ونحب بعضنا كثيرًا، فكلٌ منا يمارس طقوسه الدينية بحرية بدون إجبار أو كراهية، فمصر لنا جميعًا لا يجوز أن يتدخل بيننا شيء أو أحد، وعلى مائدة المصريين نجد كل أنواع البشر ولا نسأل أحدًا من أنت أو ما دينك، فالدين يقول "حبوا بعض"، فقد كنت في الكنيسة أمس أُصلي وعدتُ ظهرًا لأهتم بالمائدة، نحن أقوياء معًا ولن يقدر علينا أحد، عندما نتقابل صباحًا نقول "صباح الخير"، وفي الأعياد نهنئ أنفسنا وأهلنا بـ"كل سنة وأنت طيب"، فطالما اجتمع الخير والطيبة في مصر لن يفرقنا أحد، أنا أشعر بالأمان على نفسي وسط أهلي المسلمين هنا وإلا لم أكن لأبقى هنا وأبنائي في الخارج، ولم أكن لأشارك في حرب أكتوبر، ولا كنتُ دفنت جرجس بجانب محمد واللذين قتلهما عدو ظاهر معلوم، ليس ذلك العدو المختبئ الذي يطعننا من الخلف اليوم، رسالة لكل من ملأت الكراهية قلبه وأراد بنا شرًا تعالوا تعلموا منا المحبة فلا دين يدعو للكراهية ولا للقتل".

شريك مسلم:

يسري خفاجة، أحد سكان حي شبرا، تخرج في جامعة الأزهر، جار عم جميل تعرف عليه منذ ما يقارب الأربعين عامًا، وفي هذا الإطار يقول "كنت طفلًا في هذا الوقت، حاولت تقليدهم وانتهى بي الأمر اليوم بأن أصبحت أحد القائمين على المائدة ضمن مجموعة عم جميل وآل عباس وأبو عبدالرحمن والحي".

 ويضيف خفاجة قائلا: "القادم من خارج الحي لا يستطيع التفرقة بين من فينا المسلم ومن هو المسيحي، فلا فرق بيننا فنحن نعتبر كلنا أسرة واحدة مرتبطة بالخير والحب".

ويتابع: "هذه المائدة لن تنتهي أبدًا فنحن نسلم أبناءنا وأبناءهم من بعدنا مسئولية هذه المائدة، وما تحمله من معان للحب والخير والارتباط، فالأجيال القادمة بعدنا تشاهد جيل الآباء، وما يفعلونه من خير ولأن الأب دائمًا هو القدوة الأولى لأبنائه سيقومون بتقليدهم، وأنا فعلت مثلهم وهكذا بدأ الأمر، كما أن المائدة لا تقتصر على رمضان فقط فالمتبقي من السلع التموينية يتم توزيعه بعد نهاية الشهر الكريم على المحتاجين".

ويؤكد وحدة المصريين فيقول: "من يشك في الوحدة الوطنية في مصر فعليه أن يأتي إلينا في شبرا ليرى المسلم والمسيحي في كل شوارعها وأزقتها يجلسون على مقعد واحد".

ويضرب مثلا على هذا بحادث يحكيه لنا فيقول: "منذ خمسة عشرة عامًا تُوفِيَ والدي وكان عالمًا من علماء الأزهر، كان القمص صليب متى ساويرس جارنا وجدناه وقد اتجه للإذاعة ليلقي عظة بعد انتهاء المقرئ".

خادم ومؤذن:

يقول فتحي محمد، خادم مسجد فجر الإسلام: "هنا لا فرق بيننا فالمسيحي والمسلم يعيشان معا هنا ويذهبان لـ"أداء الواجب" معًا أكان داخل الكنيسة، أو داخل المسجد في السراء والضراء فكلنا سواء، وكلنا نموت وندفن في التراب لا فرق بيننا، الدين لله فقط لا دخل للعباد به".

 الجيل الجديد:

 أما محمد يسري فيبلغ من العمر ثلاثة عشرة عامًا، يشارك في المائدة منذ خمس سنوات، ويقول: "شاركت في البداية لتقليد أبي، ولكن الآن أريد أن أقوم بأعمال الخير، كذلك أحضرت معي أحد أصدقائي ليشارك في المائدة، كما أريد من أطفالي في المستقبل أن يكملوا ما بدأه الأجداد الأوائل من استمرارية المائدة والحفاظ عليها طويلًا".