رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عندما ينتصر زيف السياسة وينتحر الحب

 

استوقفتني طويلاً قصتها، ورغم مأساويتها حاولت ان أجد فيها استراحة ولو قصيرة من أحاديث الثورة التي باتت تربكني وتؤرقني بين ترقب النتائج والخوف عليها من الضياع بين من يحاولون اقتسامها، وبعيداً عن مخاوفي من العنف الديني والطائفي الذي يطل علينا برأسه في قوة وتحد، والذي بسبب خوضي في مقدماته، طالني سباباً ولعاناً علي وعلي اللي »خلفوني« من المتشددين، الذين لا يتورعون عن الاهانة والسباب واللعان والسخرية لكل من ينتقدهم أو يقترب منهم، رغم ان المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، ورغم ان المسلم عليه التزام لغة الحوار والادب لأن الدين الاسلامي دين الديمقراطية الحقة والشوري وسماع الرأي الآخر حتي ولو كان يخالفنا.

استوقفتني قصتها لما بها من تماس لا يفارق حياتنا الإنسانية علي مر العصور، لأنها تجسيد لصراع طويل وأبدي بين الخير والشر، صراع وجد منذ بدء الخليقة بين ولدي ابينا آدم عليه السلام هابيل وقابيل، وكثيراً ما ينتصر الشر، ولكن الي حين ليبقي الخير في النهاية سر استمرار البشرية في الحياة بهذا الكون، ولتواصل هذه البشرية مجدداً عذاباتها وصراعاتها ضد الشر حتي تقوم الساعة.

انها الشاعرة الجنوب افريقية انجريد يونكير، عندما قامت الشاعرة الهولندية خيريت كوميرتي بترجمة اجمل قصائد انجريد يونكير قبل اعوام باللغة الهولندية، وهي القصائد التي كانت اكثر درامية وغوصاً في احاسيس الشاعرة الافريقية، لم تكن كوميرتي تعلم ان تلك الترجمة ستثير اهتمام كاميرا الشاشة الفضية، لتبحث الكاميرا فيما وراء القصيدة عن تفاصيل حياة انجريد »1933: 1963« التي عاشت مع قلمها صراعاً هائلاً بين مشاعر الحب والعدل ومحاربة العنصرية وبين واقعها كابنة لابراهيم يونكر الوزير المرموق في حكومة الفصل العنصري حينئذ، والذي كان يري ان الفصل العنصري حق اساسي ليقف علي طرفي النقيض من ابنته العاشقة للعدالة والمساواة، ولتمارس هي عذابات الصراع بين صدق القلم وأكاذيب السياسة التي يفرضها والدها من خلال منصبه.

وهو واقع حياتي جعل انجريد تعايش الاكتئاب النفسي والتمزق للبحث عن ذاتها التي افتقدت وجودها مع اقرب الناس إليها، والدها الذي حارب فكرها بقوة وحاول كسر قلمها من اجل مكاسبه السياسية ومنصبه الوزاري، والذي من اجله لم يتورع عن محاربة فلذة كبده، وبين امها التي فارقتها وهي طفلة بسبب رفضها لأسلوب الزوج جونكير واختلافها الدائم معه، ولتدفع الابنة انجريد ثمن كل هذا، وتعيش الحرمان من كل عاطفة.

وهو الحرمان الذي جعلها تتخبط في الحياة، لتعيش وهم الحب في علاقات عاطفية متناقضة ومتوترة، أقامتها مع اثنين من الادباء حينئذ وهما جاك كوب، واندرية برينك في ذات الوقت، ولم تكن مشاعر الحب لهذا أو ذاك، الا لـ»تفضفض« بعضا من مكنون احاسيسها المتصارعة في صدرها، عبر رسائل وأبيات شعر تنزف ألما، وعندما اكتشفت في النهاية انه ليس حباً بل سراب، وانها تصارع طواحين الهواء بقلمها في ظل سياسة قاسية ظالمة يفرضها عليه المجتمع، قررت وضع حد لعذابها النفسي مع والدها وتمزقها العاطفي بالانتحار، حيث عثر علي جثتها ملقاة علي احد الشواطئ مخلفة وراءها تساؤلات وفجيعة انسانية، وطفلة وليدة كانت انجبتها من زوجها الذي يدعي سكوير قبل ان تنفصل عنه، وهي تفاصيل القصة التي حملها الفيلم الهولندي تحت اسم »الفراشات السود« والذي يعرض حالياً وسط اقبال جماهيري غير مسبوق، الفيلم ناطق باللغة الهولندية للمخرجة »باولا فاندير اوست« وقامت بدور انجريد الفنانة الهولندية »كرايسي فان هاوتين« وصدر منه قبل ايام نسخة اخري مترجعة باللغة الانجليزية، لتخطف القصة الحزينة مشاعر كل من شاهدوها، لما تحمله من أبعاد

انسانية للصراع بين صدق القلم وما يعبر عنه من احاسيس ورغبة حرة في حياة عادلة لكل البشر بعيداً عن العنصرية دون النظر الي لونها او اجناسهم وبين زيف السياسة لما وراءها من مكاسب، السياسة التي تفرض بصورة او بأخري علي اختلاف شاكلتها ومذاهبها نوعاً من العنصرية علي المجتمع الذي تقوده.

فقصة حياة الشاعرة انجريد جاءت كمعزوفة للحن منفرد من الالم والعذاب، الم اعترف به المناضل الجنوب افريقي نيلسون مانديلا، والذي لم يتردد في قراءة احدي قصائد انجريد اتي تحمل اسم »الطفل«، وتحكي قصة طفل قتله احد الجنود العنصريين بالرصاص في نيانغا، وقد قرأ مانديلا القصيدة في اول خطاب له امام اول برلمان ديمقراطي منتخب بجنوب افريقيا عام 1994، وحمل الفيلم الهولندي مقاطع حية وحقيقية من صوت مانديلا، وهو يقرأ شعر أنجريد في تأثر، وليتم الدمج المعنوي بين صراع الفتاة الشابة من اجل الحياة الحرة والمساواة، مع الكفاح السياسي لمانديلا من اجل تحرير السود من براثن العنصرية، لتأتي في النهاية الصحوة السياسية، بعد ان دفع كثيرون حياتهم، ومن بينهم انجريد التي ماتت بعد ان سجلت بقصائدها واقعاً مريراً.

وكانت انجريد التي ولدت في مزرعة في دوغلاس قرب كيمبرلي قد قضت طفولة بائسة في مزرعة بالقرب من كيب تاون مع والدها، بعد انفصاله عن والدتها فيما توفيت الام فيما بعد عام 1943 وبدأت انجريد كتابة الشعر في مجلة المدرسة وعمرها لا يزال 6 سنوات وتبادلت الرسائل الادبية مع دي جي اوبرمان الكاتب والشاعر الجنوب افريقي وعمرها 16 عاما وتأثرت به الي حد كبير وكانت مجموعتها الأولي من القصائد الافريقية بعنوان »بعد الصيف« ثم مجموعة »الهروب« وكما حاربها والدها في نشر قصائدها لأنها رفضت سياسته صراحة، رفضها وحاربها ايضاً بعد موتها، فعندما عثر علي جثتها غارقة وتم انتشالها الي الشاطئ، قال والدها: »اعيدوها الي البحر، لا تهمني، فقد ادارت ظهرها للجميع« وهكذا كانت النهاية، نهاية انجريد التي ماتت ولم تر بعد حلمها في العدالة واستعادة السود لحقوقهم، وهو الحلم الذي تحقق بعد رحيلها باعوام طويلة، فهل صنعت انجريد ببذل روحها بعضاً من هذا الانتصار للشعب الاسود ولو بعد حين.. انه سؤال نهدي اجابته لأرواح شهداء ثورة يناير المصرية، فقد يحين قطف ثمار الثورة التي دفعوا حياتهم ثمناً لها ولو »بعد حين«.

New layer...