عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«خضرة الشريفة» مازالت تتصدر المشهد الشعبى فى الطهر والعفاف

بوابة الوفد الإلكترونية

«الأبنودي» رواها فى خمسة مجلدات.. ومسجد يحمل اسمها تحول إلى حامل للأطباق الهوائية

استطاعت شخصية خضرة الشريفة أن تفرض عفتها على الناس والتاريخ، وتصاحب الشاعر والربابة والسهر، فتظل متربعة على عرش الحكايات والمواويل حتى يومنا هذا، على خلاف كثير من حكايات السير الشعبية التى اندثر أغلبها وفقدتها ذاكرة الحكى، وعلى الرغم من أن أغلب المرويات الشعبية التى تتناقل شفاهة هى حكايات الرجال للرجال عن الرجال، وأن عدد النساء اللائى استطعن فرض سيرهن على الموروث الشعبى قليلات جداً، فإن شخصية خضرة الشريفة تعتبر من أهم هؤلاء القليلات، وربما لم يستطع ظهور أحداهن أن يطغى على ظهورها سوى بالشخصية النسائية الأهم فى عالم المروى وهى «شهر زاد»، والتى أصبحت خضرة الشريفة أيضاً من أهم حكاياتها التى روتها «لشهر يار» فى لياليها الألف، فى حكاية طويلة عنوانها «أبوزيد الهلالى».

وإن كانت خضرة الشريفة استطاعت أن تتصدر المشهد الشعبى لأكثر من ألف عام بين حكايات الرجال، فإن الأكثر دهشة من ذلك هو حضورها الطاغى داخل حكايتها ذاتها، فرغم وجود شخصيات ثقيلة لرجال فى الملحمة الهلالية مثل «أبوزيد» و«دياب» و«الزناتى خليفة»، إلا أن «خضرة» تظل هى المحرك الحقيقى للأحداث.

لا أحد يعلم إن كانت هذه الخضراء قد أتت مصر أم لا، فأحد التاريخيين قال أتت وأحدهم قال لم تأت.

وبعيداً عن هذا الخلاف؛ فإن الحقيقة الراسخة أمامنا الآن هى أن هناك مسجداً يحمل اسم «خضرة الشريفة خلف البحيرة الجنوبية لعين الصيرة بحى مصر القديمة، إذا استطعت الوصول إلى هناك، وتسلقت الجدار المتهالك للمسجد، يمكنك أن ترى من أعلاه منطقة الخيالة القديمة كاملة، وكذلك القرافة الكبيرة الأولى لمصر الإسلامية، مترامية تحت سفح جبل المقطم، يقابلها على الجانب الآخر من البحيرة مساكن مدينة الفسطاط الجديدة.

والوصول لهناك يكون عن طريق الوصول إلى ميدان السيدة عائشة أولاً، ثم استخدام أية وسيلة مواصلات خاصة تصل بك إلى هناك.

وللأسف أن لا علماء التاريخ ولا وزارة الآثار استطاع أحد منهم أن يحسم الجدل الدائر على ماهية شخصية خضرة الشريفة التى دفنت فى هذا المسجد وبُنى من أجلها، وهل هى مثلما أكد «المقريزى» فى كتبه من أنها سيدة عرفت بالخضراء لأنها جاءت من الجزيرة الخضراء فى جنوب الأندلس، وأن «الشريفة» تلك كنيتها لأنها كانت من الأشراف، وأنها حضرت مصر فى عصور الإسلام الأولى وقررت أن تدفن شرق مدينة الفسطاط؛ العاصمة الأولى لمصر الإسلامية التى بناها عمرو بن العاص بعد دخوله مصر . أم أنها هى خضرة الشريفة والدة أبوزيد أو سلامة الهلالى التى رحلت عن زوجها «رزق» بوليدها فى رحلة شاقة تسترد فيها من خلال ابنها حقها وسمعتها وشرفها.

والواقع أن الخلاف بين المقريزى وغيره من التاريخيين حول حقيقة هذه الشخصية، وصل إلى حقيقة مسجدها أيضاً، فاختلفوا حول معلومات بنائه كثيراً، فنجد مثلاً أن «المقريزى» يرى أن المسجد بنى فى العصر الفاطمى وتحديداً عام1105م وهو يستند فى ذلك إلى شكل البناء ونوعية الطوب، وكذلك وجود ما يعرف بالمحراب الثلاثى، وبالمناسبة هذه المحارب الثلاثة ما زالت موجودة حتى اليوم، وتوجد أطلال القبة أمام المحراب الكبير وهو الأوسطى والذى كان من المفروض أن تكون قد دفنت فيه السيدة الخضراء، وهو ما يعنى أن مدفن خضرة الشريفة كان هنا، لكن وزارة الآثار المصرية كان لها رأى آخر فى الأثر يختلف عن رؤية «المقريزى»، وهو أنه من العصر الأيوبى عام 1081م ولا تعرف الوزارة من الذى بناه بحسب رواية الأثرى يوسف أسامة ، ومن الثابت أيضاَ لدى وزارة الأثار أن الشيخ على الفاتى الدكرورى والذى كان يعمل إماماً لمسجد خضرة الشريفة لسنوات طويلة قد دفن أيضاً فى ذات المسجد فى العصر المملوكى عام 1272م.

على كل حال أيا كان الخلاف؛ فالمفاجأة أن هذا المسجد لا أثر له الآن سوى كونه مسجلاً كأثر فى وزارة الآثار، وأن ما تبقى من إطلالة يستخدمه سكان المنطقة الآن كحامل لأطباقهم الهوائية من أجل ضبط أجهزة التلفزة خاصتهم.

وبالعودة إلى حقيقة شخصية «خضرة الشريفة» صاحبة المسجد والخلاف الدائر حولها، يمكننا أن نعتبر أن الخلاف كان بين الوعى التاريخى والشعبى، هذا الوعى الذى ارتكن فى النهاية إلى ما يحب ويهوى، فإذا ما سألت أى شخص عن صاحبة المسجد أخبرك أنها «أم أبوزيد الهلالى»، وحكاية هذه المرأة هى ملحمة شعرية طويلة متعددة الروايات تخطت بعضها المليون بيت شعرى.وعندما تتبع سيرة «خضراء» سوف تعرف أنها ابنة حامى الحرمين الشريفين، حامل مفتاح الروضة الشريفة، والتى تزوجت من «رزق الهلالي» أمير قبيلة بنى هلال الذين سكنوا أرض نجد.

ولزواجها منه قصة طريفة، مفادها أن أباها هو الذى خطب لها زوجها عملاً بالمثل القائل» أخطب لبنتك». والحكاية أن «رزق» عندما طعن فى السن دون ابن يرث حكمه، حزن حزناً شديداً فجاءه هاتف يخبره أنه إذا أراد ولداً عليه أن يتزوج من أرض الحجاز.

سمع ندا من قبل الله

يا خى كل منا وسعيدة

يا رزق اصغى على الله

تزوج فى مكة السعيدة

وصحيح أن فرق العمر بين «خضرة» و«رزق» كان أكثر من خمسة وأربعين عاماً، إلا أنها عندما رأته هامت به، ولاحظ أبوها ذلك، ولما علم أن «رزق» جاء إلى أرض الحجاز خاطباً ،

فلم يجد حرجاً فى طلبه للزواج بابنته.

عندى بنية صبية

الريق يبرى السماتى

تحاكى النجمة البدرية

تفوق القمر فى السماتي

وأنجب الزوجان فتاة تدعى «شيحة»، ظلت بعدها «خضرة» لا تنجب لسنوات عشر، وكانت تريد ولداً تسعد به قلب زوجها، فقررت أن تذهب مع نساء القبيلة إلى الصحراء يراقبن الطيور ويتمنين أن ينجبن أبناءً تشبهها، وعلى كل امرأة أن تختار الطير الذى يعجبها، وكان الغراب من نصيب «خضرة»؛ عندما رأته يقود سرباً عظيماً من الطيور، بعدما هبط ليشرب من البركة، فتراجعت كل الطيور وتركت له العين حتى ينتهى، تمنت لحظتها «خضرة» أن يرزقها الله بولد فى شدة هذا الغراب وبأسه، لم تكن تعلم لحظتها أن الأحلام يمكن لها ألا تتجزأ، وأن الأمنية سوف تتحقق كاملة فتنغص عليها هناءها ما تبقى لها من عمر، وأصرت «خضرة» على أمنيتها رغم تحذير جاريتها لها.

وعندما وضعت ولدها كانت المفاجأة؛ فقد تحققت الأمنية كاملة غير منقوصة وجاء الولد يشبه الغراب فى كل شيء؛ «خضرة خلفت ولد اسود».

وعندما اجتمع كبار القبيلة للاحتفال بالخليفة القادم، والذى اختارت له أمه اسم «بركات»، وكشفت عن وجهه وجدوا الفتى أسود.. فى الحال زعق «عسقل الهلالي» ابن عم «رزق»، واتهم «خضرة» بالزنا مع عبدها؛ محرضاً كبار القبيلة على طرد «خضرة» وابنها وإعادتهما إلى أبيها فى الحجاز، وقد كان.

لكن «خضرة» لم تستطع أن تعود إلى أبيها تحمل ولدها وعارها وخيبتها، وأقسمت على أنها لن تعود إلا بعدما تستطيع أن تثبت براءتها؛ لتبر بقسمها بعد سنوات كثيرة وأحداث كبيرة مثل حكايتها.

وربما جاء الخلاف بين التاريخى والشعبى فى حقيقة شخصية صاحبة المسجد من باب خلاف كبير ومهم، وهو أن التاريخ لم يثبت فيه أن «خضراء» بنى هلال وزوجة «رزق» أتت إلى مصر من الأساس، فكيف يكون لها مسجد فيها، ولكن هذه النقطة مردود عليها، حيث ذكر الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى فى أحد كتبه الخمسة الخاصة بالسيرة الهلالية أنه نقل عن «ابن خلدون» أن قبائل بنى هلال زحفت إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله نتيجة للجدب، قبل تفرقها بعد ذلك فى الدول العربية، وكان الشاعر قد بدأ رحلته فى جمع السيرة الهلالية فى أعقاب هزيمة يونيو ١٩٦٧ واستغرقت منه، ثلاثين عامًا، حاول من خلالها تقصيها من أفواه المنشدين والحكائين العرب، ليتمكن من رصدها ونقلها من الذاكرة الشفهية الآخذة فى الاضمحلال، إلى اللغة المدونة والمكتوبة، حفاظًا عليها من الاندثار؛ وقد تنوعت رحلاته ما بين مصر والسودان والجزائر وليبيا، بالإضافة إلى حدود تشاد والنيجر ثم إلى تونس الخضراء، هذه الرحلات التى كان نتاجها خمسة مجلدات وعشرات من الحلقات الإذاعية ظل يحكى فيها الخال السيرة الهلالية.

والحقيقة هى أن الواقع الشعبى يؤكد أن الزمن لم يستطع الاقتراب من شخصية خضرة الشريفة ورفاقها سوى بالحفاظ عليهم، بعدما تجاوزت حكايتها عوامل هذا الزمن أوتجاهله، ومازال النساء والرجال حتى يومنا هذا يستحضرون عفتها سواء على سبيل الحق، أو على سبيل الباطل فيقولون «عاملة فيها خضرة الشريفة»، وفى الحقيقة أن ملحمة هذه المرأة تجولت فى كل البلدان العربية وعاشت فيها وليست مصر فقط ، وكان لكثير من الشعراء والحكائين فى كل بلد منها نصيب.

وعلى هذا اشتهرت على مر التاريخ المصرى الفلكلورى المعاصر والسالف كمثال للطهر والعفة والشرف وأصبحت مثالاً حاضراً إلى كل من خاض الناس فى سيرتهن وأعراضهن بهتاناً وزوراً، ومازالت أى امرأة مطعونة فى عفتها تخبرنا بأنها أشرف من خضرة الشريفة شخصياً.