محاكم تفتيش الإخوان المسلمين
" الاخوان المسلمون " اسم له تاريخ . ..كيان كبير له تأثيراته المختلفة في الحياة المصرية أمس واليوم وغدا . تنظيم سياسي قوي له مريدون وأتباع وسلطان وهيكل وقائد ومستشارون وأعضاء ... جمعية دينية انقلبت الي حزب سياسي ، وحزب غير رسمي يتدثر بعباءات الدين .
الاخوان قفص من ذهب .. يعجب الناس من الخارج ويبهر المتابعين من غير الاعضاء، لكن لاشك أن ذلك القفص سجن لمن بداخله مهما كان البريق ،ومهما كانت القيمة والغاية . هذا ما يحاول ان يعالجه كتاب ثروت الخرباوي الاخير الصادر عن دار الهلال تحت اسم " قلب الاخوان ..محاكم تفتيش الجماعة " . ولاشك أن هذه الشهادة الصادمة التي يقدمها " الخرباوي " تصلح كشافا مضيئا لجماعة الاخوان من الداخل ،خاصة ان راويها " الخرباوي " عاش سنوات شبابه داخل صفوف الجماعة وعايش قادتها ومشاهيرها واتفق مع من اتفق واصطدم مع من اصطدم وخرج منها بارادته بعد أن اكتشف زيف العناوين والشعارات ، وخواء المضمون .
إن من حق " الخرباوي " ان يقدم شهادته ، ومن حقه أن يطرح أسرار فراقه للجماعة الاشهر في خريطة الاسلام السياسي ، ونحن بدورنا ذ من حقنا ذ أن نقدم شهادته ونحللها ونعلق عليها ، خاصة أن هذا الرجل عرف عنه الصدق ودماثة الخلق ولعب أدوارا بارزة في انتخابات نقابة المحامين وارتبط بشخصيات سياسية من مختلف الاتجاهات والتيارات .
لقد ولد ثروت الخرباوي في أوج العهد الناصري عندما كانت الكلمة واحدة والرأي واحد والاهداف واحدة . لم يكن هناك "اخوان مسلمون " لأن الاسم تعرضَّ لمحاولات شطب عديدة مارسها النظام الناصري منذ 1954. وتخرج من كلية الحقوق عام 1980 وداخل اسوار الجامعة تعرف علي الاخوان وسمع حكاياتهم وأحبهم وصار واحدا منهم ، وعندما تخرج محاميا كان أحد الذين لعبوا دورا وضحا في السيطرة علي نقابة المحامين مع صديقين كانا ومازالا من الشخصيات المحورية في حياته هما المحاميان مختار نوح وخالد بدوي .
محمد علوان يرفض الإخوان
إن الشاهد يقدم لنا سرا خطيرا ، ربما يذاع لأول مرة حول عدم انضمام القيادي الوفدي الراحل محمد علوان الي جماعة الاخوان رغم احترامه الشديد لمؤسس الجماعة حسن البنا . يقول الشاهد أنه بدأ حياته محاميا في مكتب الاستاذ محمد علوان الوفدي الراحل وانه سأله عن رأيه في جماعة الاخوان فقال له أنه رأي حسن البنا وأنه يلخصه له في كلمتين " عبقرية التأثير وعلو الهمة ." ولاشك ان هذه الكلمات ساقت " الخرباوي " الي سؤال آخر أكثر الحاحا وهو : لماذا إذن لم تنضم اليهم ؟ أجابه محمد علوان : بسبب القيود التنظيمية التي تضعها الحركة وتسوس أفرادها ، وانا أبحث عن الحرية ولا أقبل ان اقيد نفسي بقيود التنظيمات الحديدية .
فيما بعد التقي صاحب الشهادة بعمر التلمساني الذي يصفه بشخص دمث الخلق ،بشوش ، قادر علي جذب الناس والتحاور بود وحرية معهم . قال " التلمساني " يومها : الاخوان ضد العنف ، وضد الاغتيالات وضد الظلم . وسأله صاحبنا عن "النظام الخاص " فقال : " لكل جواد كبوة ، والنظام الخاص كان احد الاخطاء ."
بعدها صار ثروت الخرباوي اخوانيا لحما ودما .. محاميا شاب اطموحا ، متحركا ، لديه أفكار واحلام يسعي لتحقيقها ويعتقد أن جماعة الاخوان هي "الحق المطلق " و" الصواب اليقيني " . دخل ثروت في نسيج الجماعة ورضي أن يتشكل معهم ، يسير كما يريدونه أن يسير ، ويفكر كما يشاءون ، ويختار من يختارونه . هم بشر مثله تماما ، لا قداسة ولا عصمة ولكن الطاعة العمياء هي أساس العضوية في الجماعة ، ومادام رضي بها فعليه أن يلتزم بقواعدها ولوائحها .
خطايا الجهاز الخاص
في 1992 نظم معرض الكتاب ندوة فكرية شهيرة حول الدولة المدنية والدولة الدينية شارك فيها علماء افاضل مثل محمد الغزالي ومحمد عمارة ، كما شارك فيها المرحوم فرج فودة ،وكان من بين الحضور المستشار مأمون الهضيبي نائب مرشد الجماعة في ذلك الوقت . وقد استفز "فودة " بافكاره عقل "الخرباوي " واعتبرها حالة من حالات الغلو العلماني ، لكن استفزته أيضا كلمات مأمون الهضيبي عندما سئل عن أعمال الجهاز الخاص قبل 1952 فردَّ : إننا نتعبد الي الله بأعمال الجهاز الخاص . وقتها تساءل صاحب الشهادة : كيف يمكن ان يكون قتل النقراشي باشا تعبدا الي الله ؟ لقد كان محمود فهمي النقراشي واحدا من أشرف وأنزه الساسة المصريين قبل يوليو 1952وقد اتفق مؤيدوه ومعارضوه علي وطنيته وينبغي القول ان حسن البنا نفسه اعتبر اغتيال "النقراشي " باشا أسوأ جريمة وبداية لانهيار الجماعة التي بناها بعقله وجهده واخلاصه . إن " الخرباوي " ينقل لنا قول للاخواني المخضرم فريد عبد الخالق يشير الي تبروء حسن البنا وندمه علي انشاء الجهاز الخاص الذي اختار طريق الدم . وقال قولته الشهيرة " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أنشات النظام الخاص ."
المرشد السري
ويروي صاحب الشهادة سرا خطيرا أشار اليه من قبل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مذكراته التي صدرت حديثا عن دار الشروق وهو أن أعضاء النظام الخاص للإخوان اختاروا بعد وفاة حسن الهضيبي مرشدا سريا ظل مجهولا لفترة طويلة وتمت له البيعة والناس لا تعرفه . ويذكر " الخرباوي " أن ذلك المرشد السري كان حلمي عبد المجيد مساعد المهندس عثمان أحمد عثمان المقاول الشهير . علي الجانب الآخر يذكر "أبو الفتوح " نفس القصة عن المرشد السري ويرجح انه كان حسني عبد الباقي ، لكن "الخرباوي " يقطع قطعا يقينيا أنه "عبد المجيد ". والحقيقة أن فكرة المرشد السري لم تلق قبولا لدي اخوان السعودية الذين أصدروا بيانا قالوا فيه " المرشد المجهول يقود الجماعة نحو المجهول ". وهو ما دفع الجماعة في نهاية 1976 الي البحث عن واجهة براقة ولم يجدوا سوي عمر التلمساتي المحامي المعروف .
ويحكي الكتاب عن واقعة أخري تعرض لها أحد كوادر الجماعة ويدعي اسامة الغزاوي وهي ما يعتبره " الخرباوي " تعبيرا واضحا عن الشوري الزائفة السائدة داخل الجماعة . وتتلخص الواقعة في توجيه مسئول المنطقة لاعضاء الجماعة بانتخاب أعضاء بعينهم في مجلس شوري الجماعة وامتنع "الغزاوي " وأحد زملائه واتفقوا علي اختيار من يرونه أصلح ، وسمعهم أحد الاخوة فوشي بهم فما كان من الجماعة الا ان قررت وقفهم لمدة سنة .
انتخابات المحامين
فيما بعد سينشط "الخرباوي " في التحرك داخل نقابة المحامين وسيتصادق مع مختار نوح وخالد بدوي وكونوا رابطة للمحامين الاسلاميين ، وسيقف الاخوان مؤيدين لرجائي عطية في انتخابات النقابة باعتباره أقرب الي السلطة وأجدر علي خدمتهم . وسيقبض علي مختار نوح وخالد بدوي في اجتماع تنظيمي لهما وستفشل جهود رجائي عطية في الافراج عنهما أو وقف محاكمتهما عسكريا وهو ما سيدفع " الخرباوي " الي اتخاذ موقف معاد من "عطية " في الانتخابات التالية ، غير ان الاخوان سيصرون علي دعم رجائي
ويحكي الرجل كيف أقنعه زائره بضرورة الالتزام بقرار المرشد عندما قال له " الأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسله يقلبه كيف يشاء ..وليدع الواحد منا رأيه ، فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه ."
وبعد نجاح سامح عاشور الساحق في انتخابات المحامين قدم الاخواني الشهير محمد طوسون مجموعة اتهامات جديدة ل" الخرباوي " بالتأثير علي الاخوان لاختيار " عاشور " بدلا من "عطية " وطلب محاكمته . وقتها يلجأ " الخرباوي " الي الدكتور توفيق الشاوي الفقيه الدستوري الشهير وأحد الرعيل الأول في جماعة الاخوان ويحكي له ما جري فيرد عليه الشاوي : للأسف تم عسكرة الجماعة . فقال له " الخرباوي " : ليس في الجماعة سلاح ولا تدريبات عسكرية . فردّ " الشاوي " ليس ذاك . العسكرة نمط في التفكير وآلية في الادارة .
"جستابو" الاخوان
وسيجد "الخرباوي " رجلا أنيقا بملابس سوداء وسيارة فارهة يتبعه أينما ذهب ، وسيتصور ان هذا الرجل أحد ضباط أمن الدولة وسيعتاد وجهه ومراقبته له ، ثم سيفاجيء خلال محاكمته أن ذلك التابع من أعضاء الجماعة المكلفين بمهام خاصة !!
وسيبقي صاحب الشهادة معزولا ، موقوفا حتي تتم محاكمته في شركة أحد قادة الجماعة ، وسيفاجيء بأغرب اتهامات يتلقاها عضو بجماعة ما ، وستتضمن اسئلة المحاكمة تلك الاسئلة السخيفة : هل تتصل بالمفكر الاسلامي سليم العوا ؟ وهل تتردد علي جمعية مصر للثقافة والحوار ؟ وهل انت علي صلة بأعضاء حزب الوسط ؟ وهل خالفت قرار المرشد بمنعك من الخروج من بيتك خلال انتخابات المحامين ؟
وخلال المحاكمة سيرد "الخرباوي " بأنه يذهب الي جمعية مصر للثقافة للتعلم ولسماع دروس الدكتور سليم العوا وسيفاجأ بكلام قضاته أن " العوا " اوي مطاريد الاخوان الذين أسسوا حزب الوسط ، ثم سيفاجيء أكثر أن قضاته أدانوه لانه يلقي السلام علي اعضاء حزب الوسط عندما يلقاهم رغم وجود قرار للحاج مصطفي مشهور يمنع ذلك !
محاكمة الخرباوي
وسيفاجأ الرجل بحكم جائر بادانته واستبعاده ، ثم سيفاجأ باتصال من الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أنهم في مكتب الارشاد صوتوا ضد الحكم وأن الموضوع سينتهي ،لكن عليه أن يذهب الي المستشار مأمون الهضيبي نائب المرشد في منزله والذي ينتظره . وبالفعل ذهب ثروت الي "الهضيبي " الذي فاجأه بالسؤال : لماذا جئت الي هنا ؟ اجاب الخرباوي : عبد المنعم أبو الفتوح قال لي انك تنتظرني . فقال "الهضيبي : لماذا لا تمر علي في الشغل ؟ أندهش صاحب المذكرات وسأل أي شغل ؟ انه يعرف ان الهضيبي علي المعاش ، ففوجيء به يقول : الا تعلم ان شغلي هو نائب المرشد . ودار الحوار بين الرجلين ليكشف أخطر تحركات سياسية لجماعة غير رسمية عندما قال الهضيبي له معاتبا : كيف تؤيد سامح عاشور ، ونحن لا نريده ، إننا نبحث عمن هم لهم صلات قوية بالدولة لذلك تحالفنا مع حمدي السيد ومع حسب الله الكفراوي ومع أي شخص قريب من النظام الحاكم . هذا دستور الجماعة .
في ذلك الوقت قرر ثروت الخرباوي أن يخرج من القفص ولا يعود أبدا . وقال ل"الهضيبي " من اليوم لست معكم . وسيفتح المحامي الشهير باب القفص ليطير مزقزقا بحرية وصفاء واحترام للنفس والعقل . إنه ليس الأول ولن يكون الاخير. قبله انتقدت زوجة الاخواني الراحل فوزي النجار تصريحات مصطفي مشهور بشأن الاقباط والجزية وسمعتها أحدي الاخوات فنقلت الحديث لمكتب الارشاد فطلبوا من " النجار " تطليقها فأبي ففصلوه ومنعوا الجميع من الاتصال به حتي خلال مرضه بالسرطان ليموت في عزلة . وهناك عبد الستار المليجي قال انه يختلف في الرأي مع رأي " مشهور " فطردوه شر طرده بعد أن أفني عمره في خدمة الجماعة والدعوة . وغيرهم عشرات ومئات والاف أفاقوا من الخدر ورأوا الصورة الحقيقية دون رتوش أو تزويق أو تنميق .
هكذا تكلم صاحب المذكرات .. ثروت عبد الباسط الخرباوي في 250 صفحة سطرها حول تجربته الشخصية داخل جماعة الاخوان المسلمين ،، والله أعلم ..