عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

دبّرني يا وزير.. «التدابير لله يا ملكِ»

منذ 31 عاماً نشرت هذه «القصة السياسية» في مجلة فصلية مجهولة تكاد تكون نشرة خاصة لرئيس تحريرها (شخصي) ولم تكن تصل إلا لبضعة مئات علي أحسن الفروض، (مجلة الإنسان والتطور يناير 1981)،

ثم بعد ما يقرب من عشرين عاماً، حدث التغيير الوزاري الشهير (أكتوبر 1999: إقالة د. كمال الجنزوري وتكليف د. عاطف عبيد)، فقفزت هذه القصة إليّ من جديد تلح للنشر علي مجال أوسع، لأنها كانت مطابقة لما حدث برغم غموضها، ولم تنشر. إما نتيجة لخوف المسئول أو غموض النص.
وتمر عشر سنوات أخري، ثم نعيش هذا الاحتقان، فالغضب فالانفجار، فالفرحة، فمشروع ثورة، فمحاولة بناء دولة ديمقراطية أقل تشوها وبرئيس جديد، وجنزوري معدّل، ثم وزارة جديدة، وإذا بي أفأجأ بالقصة تعاودني هي هي، وكأن شيئا لم يكن.
فزعت وأنا أعيد قراءة نفس «النص» لأجده أكثر تطابقا وهو يتكرر في ظروف أصعب، وينذر بنتائج أخطر.
حمدت الله أن الوفد مازال قادرا علي تحمل قلمي منذ 1984 حين نشر لي مقالا بعنوان: «يوميات ناخب حزين» بمناسبة ما لاح من أمل في انتخابات 1984، وحتي اليوم وهو يسمح بنشر ما منع، برغم صعوبة رموزه إذ يحتاج إلي قدر من العلم بقواعد لعبة الشطرنج، وأن يكون لدي القارئ قدر من التلقي المبدع يسمح له بالتنقل بين قطع الشطرنج واللاعبين والواقع الحي، حتي ولو اضطُّر إلي اللجوء إلي التفكير التأمري ليفهمه. عذراً !
****
المتن: (1981 – 2012)
- 1 -
دخلت الطفلة حديثة العهد بالمشي إلي حيث كانوا، فراقها منظر الصفوف المتراصة، فأخذت تتأمل الجميع، إلا أنها سرعان ما ضجرت من أن أحداً لا يتحرك من مكانه، وتذكرت أيام أن كانت مُقعدة بلا حول، فمدت يدها تحاول تحريك الجمود فإذا بالجميع ينطرحون أرضاً، فزعتْ في البداية ولكنها عادت تتأمل آثار ما كان، واحتارت: أي منهم استلقي علي قفاه، وأي منهم انكفأ علي وجهه، لم تطل حيرتها إذ إنها سمعت صوت أقدام ثقيلة تقترب، فانزوت في الركن الأبعد.
- 2 -
حدث ذلك بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث التي يذكرها أهل الاختصاص في ترتيب رتيب، وينساها سائر الناس وكأنهم يفعلون ذلك بقصد عنيد، والأمر لا يحتاج إلي تكرار الرواية، لكن للتاريخ مطالب غير مفهومة، فتم تحديد المواقع ومراجعة الأدوار السابقة، والتأكيد علي ضرورة سلامة البدايات حتي لو كانت محفوظة، وكان في مقدمة الصفوف جنديان اثنان، وعلي الرغم من أنهما كانا من لونين مختلفين إلا أن الاتفاق كان أن يكونا معاً حتي تلحق بهما ـ أو بأي منهما ـ سائر القوات كما تقضي الأصول.
قال الملك للوزير:
- دبرني يا وزير.
قال الوزير:
- التدابير لله يا ملك.
سأل الملك في استطلاع:
- ألا نبدأ الآن؟.
قال الوزير في أدب ظاهر:
- عفواً يا مولاي.. الأسود يؤخَّر في العادة.. هكذا الأصول.
بدت علي الملك بعض علامات الاستياء وعلق قائلاً:
ـ ولكن لِمَ لَمْ تقل لي ذلك من الأول لأغير لوني؟. ألا تعلم أني أحب المبادأة لأمسك بزمام المواقف؟.
مال الوزير عليه وكأنه يسر إليه:
- ليطمئن جلالتكم، فلقد تلقينا وعداً أن الذي يلعب أخيراً يكسب أكيدا.
هز الملك رأسه، ولكن يبدو أنه لم يقتنع تماما، تأكد ذلك لأن شفتيه كانتا قد مُطَّتا بدرجة طفيفة لا يلحظها إلا متخصص، غير أنه قال:
- الأمر لله، قل له يبدأ من فوره.
التفت الوزير إلي الناحية الأخري ونادي صائحاً:
- يا أهل الديار.. الدور عليكم.
- 3 -
نظر الجنديان إلي بعضهما البعض وأخذا يعزمان علي بعضهما البعض بالبداية، لكن أحداً منهما - يبدو من فرط الذوق أو الخوف أو بعد النظر - لم يتقدم خطوة واحدة، وساد صمت مثير.
- 4 -
وكان أن همس فارس الميمنة لجاره:
- أين نحن الآن؟.
رد الجار الفيل الثقيل الحركة فيما يشبه الجد:
- في الميريلاند.
احتد الفارس قائلا:
- لا مجال لسخريتك فإني جاد.
- لتكن جادا أو عبدربه، فليس للسؤال السخيف إلا جواب أسخف منه، ألا تري أين نحن وأنت أدري الناس بالجاري؟
- إنما سألت لأقطع هذا السكون الثقيل.
- أنت الذي تقول هذا؟.. مع أنك تستطيع أن تقفز بفرسك في أي وقت فوق أي حاجز، ألا تدع الهم لأصحابه من أمثالي ممن لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا تحرك العسكر من أمامه.
رد الفارس في زهو اليائس:
- لو كان الأمر بيدي لقفزت إلي الوسط وحطمت كل هذا الركود بتضحية شخصية.
- 5 -
اشرأبت عنق الجار ذات اليمين وذات اليسار وعاد يهمس للفارس وكأنه لا يصدق:
- خيبتك قوية، لقد انتهي الدور.
استشاط الفارس غيظاً وتساءل رفضاً:
- متي كان ذلك ونحن لم نبرح أماكننا أصلاً؟.
- هذا هو ما كان.
- لعلها إشاعة.
- انظر.. ملك الخصم ليس في الميدان.
- كيف؟.. هل كَشَّ؟.. ماتْ؟
- لا بل يبدو أنه غير موجود منذ البداية.
- ماذا تقول يا مخّرف.. لا يصح اللعب دون وجوده، وإلا فمن يحمي مَنْ؟.. ومن يهاجم مَنْ؟
- ليس هذا شأني، وعلي كلٍّ فالدور قد انتهي حقيقة وفعلاً.
صاح الفارس فيما يشبه الصراخ:
- هذا عبث في عبث، دور باطل.. باطل.
هز الجار غليونه المتدلي وتلفت في بطء خشية أن يسمع أحد الصراخ وحاول تحذير جاره، لكنه قال:
- لن يجدي الصراخ.. لا أحد، فالآذان لها حوائط.
- بل العكس.
- وأيضاً العكس.
استمر الفارس في صياحه.
- باطل.. باطل.. زواج عتريس من فؤادة باطل.
قال الجار في أسي ظاهر وغليونه يتحرك مع خروج كلماته:
- «جن الفارس من فرط الركود يا رجال».
- 6 -
وكان أن تقدم الوزير الأسود ممسكاً بيده صحيفة ملفوفة علي هيئة قرطاس حائل اللون، ومال علي الملك وقال:
- والآن.. الأمر لجلالتكم.
نشر الملك القرطاس أمام عينيه بعد أن ارتدي منظار القراءة المدلي في سلسلة حول رقبته ونظر فيما يحوي القرطاس ورد في حدة:
- ماذا تعني؟.. حتي لوصحَّ كل هذا فأنا مالي؟
رد الوزير في فداء مشروط:
- نحن جميعاً فداك يا مولاي.
قال الملك في اطمئنان خائب:
- هذا هو.. هذا هو.. ليكن.
شكره الوزير وهم بالتراجع بظهره، ثم انحني تحية نصف نصف، وفجأة زادت انحناءته حتي لامست جبهته - مع كل الجباه وبعض الأقفية - وجه الأرض.
ولم يلاحظ أحد أن ذلك كان إثر دخول الطفلة الحجرة كما ذكرنا.
- 7 -
اقترب وقع الأقدام من مسمع الطفلة فازدادت احتماءً بالركن الأبعد.
- 8 -
دخل الرجل الكبير إلي حيث كانت المعركة، فراعه منظر الدحرجة والخلط والضياع وكل الجباه وبعض الأقفية علي الأرض.
أخذ يزفر وهو يكلم نفسه: «لعن الله أبا الكل، من فعل هذا يا أوغاد، ألا أستطيع أن أكمل دوراً واحداً في هذا الجو الزائط».
- 9 -
ازدادت الطفلة انزواءً وانكمشت علي نفسها حتي كادت تختفي بين ثنيات كرانيش الفستان القصير.
- 10 -
عاد الرجل إلي صياحه: «والأدهي يا كلاب أني لا أعرف كيف كان وضع القوات قبل وقوعها، ثم إني لا أذكر من الذي انتصر علي من.. رغم أني ألاعب نفسي».
- 11 -
اهتز جسد الطفلة من فرط محاولاتها الإمساك عن الضحك، ثم تسحبت في صمت وهي لا تتمالك تمام سيطرتها علي نفسها حتي كادت تخرج (وفي رواية أخري: خرجت) منها قهقهة مكتومة أشبه بآثار صوت قُلة تتدحرج علي أرض طينية دون أن تـُكسر، لكن الله ستر فلم يسمع الرجل شيئاً، إذ ظل يروح ويجئ في سخط باد، فاستمرت الطفلة تتسحب كاتمة ضحكتها أكثر حتي انصرفت بسلام تماماً.
- 12 -
توقف الرجل طويلاً ناظراً إلي فلول القوات ثم جلس في تصميم جديد وأخذ يعيد تنظيم الصفوف وكأن شيئاً لم يحدث.
قال الملك للوزير:
- ماذا يجري يا وزير؟.
قال الوزير في يقين:
- دور آخر يا مولاي.
قال الملك في فتور:
- الدور الأول لم ينته يا وزير.
قال الوزير في رتابة:
- بل انتهي بفوز جلالتكم.
قال الملك:
- إذن لماذا لم تظهر علي جلالتنا آثار الفوز؟. هه؟.
قال الوزير:
- منعاً للحـسد يا مولاي.
- 13 -
لكن الملاحِظ المتخصص كان يمكن أن يلاحظ أن عين الوزير زائغة وكأنها تغمز لشخص آخر لم يظهر بعد، لكن يبدو أن الوزير كان علي يقين من قدومه.
- 14 -
قبل أن يحل المساء وتختفي المعالم بين الداخل والخارج شوهدت الطفلة وهي تتلصص من ثقب الباب وهي لا زالت تكتم ضحكتها.
www.rakhawy.org