رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الإعلام في زمن الضياع

ما إن تقول: "مصر ضاعت" حتى تجد رؤوساً كثيرة تهتز لتتفق معك بابتسامة مريرة ونظرة ملؤها الحسرة. وما إن تذكر الإعلام حتى تجد اللعنات تنهال، والتشكيك يتصاعد، فهو السبب، والمحرض، والمضلل، والمخرب. كأن الإعلام هو الذي بدأ المأساة، وهو الذي يستطيع أن ينهيها، وهو لم يفعل، ولن يقدر. من أين يأتي هذا التهويل وسوء التقدير؟

ليست هناك إجابة سهلة أو معلومة مؤكدة، وليس هناك تفسير واحد يشرح علاقة الكره و الالتصاق بين الناس والإعلام، فهم يتابعون، ثم يسخطون أو يحبطون، ثم يعودون، ثم يصدمون، ومن جديد يتابعون. لكن هناك أموراً نحتاج أن نفهمها:
- مصر تعيش أزمة كبرى، بدءا من الصراع على الحكم، إلى غياب الأمن، ومروراً بالغلاء والبطالة ونقص الخدمات، ووصولاً إلى الفوضى التي ضربت كل شيء، وهذه الأجواء تجذب الناس إلى من يقول لها ماذا يحدث، ويعطيها أمانا تبحث عنه، أو صوتاً حرمت منه، ولذا يهرعون إلى وسائل الإعلام التي تتحول إلى محور حديثهم واختلافهم، فهي عيونهم وآذانهم، لتشكل عقولهم ووجدانهم في تلك الظروف العاصفة.
- في الأحداث السريعة يفكر الناس بآذانهم، وعندما تكون لغة الحياة هي الصراع يميلون إلى أن يؤمنوا بكل ما يقويهم ويفت في قوة الآخر، ولذا يقبلون ويرفضون حسب القائل لا حسب ما يقول، ليشتد الصراع،ويغيب التفكير، ويروج سوق وسائل الإعلام أكثر.
- الناس في بلادي أكثر استعداداً لتلقي الكلام من التفكير فيه، لأن التعليم المتاح لهم قائم على التلقين أكثر من التدريب على التفكير النقدي، ومن ثم لا تندهش عندما تجد من ردد أن يوم 13 شهر 13 سيكون كارثياً، رغم أن الكارثة الحقيقية هي من قال الكلام، والكارثة الأكبر أن هناك من يسمعه.
- في زمن الملكية ستجد من الإعلاميين من هم ملكيون أكثر من الملك، وفي زمن الثورة ستجدهم ثوريين أكثر من الثوار، فهم ينافقون القوي دائماً، ولأن الرأي العام هو الأقوى بعد الثورة، فإن نفاقه يتم عن طريق التهجم على الحكم والمبالغة في الشجاعة والإعلان عن الاستعداد للموت من أجل أداء الواجب "الإعلامي" ولذا تجد في مصر الآن من يجلس أمام الكاميرا ناعتاً الرئيس بالغباء، وتجد راقصة نصف مشهورة تدعو رئيس وزراء مصر إلى إن "يلبس" إلى آخره من شجاعة جبانة لم تظهر إلا بعد سقوط السيد السابق (الدولة) وقدوم السيد الجديد (الشعب).
- نحن نشأنا في أنظمة  سيطرت على الإعلام حتى تسيطر على العقول، وقسمت الأمر بينها وبين الناس قسمة هزلية: إن جاء خير فمن عندنا والمجد لنا، وإن كان إخفاق فمن جهلكم وإسرافكم في نسلكم وسوء أخلاقكم، ومع انكماش دور الحكومة  فكل شيء حله بالإعلام: تنظيم الأسرة، ودفع الضرائب، ومقاومة البلهارسيا. لا مؤسسات، ولا أحزاب، ولا نقابات، ولا حتى قانون، ولم يجد الناس ما يملأ ذلك الفراغ سوى الشاشات: شاشة التليفزيون، ثم الكمبيوتر، ثم المحمول، لتتاح المعلومات في غياب الفكر، وتكثر الآراء في

غياب المعرفة، والنتيجة مزيد من الضياع، ومزيد من النفوذ للإعلام.
- كنا نقول لطلاب الإعلام في الإيام الخوالي: إن المذيع يجب أن يدرك أنه مساعد على إنتاج المعرفة، ولكنه ليس منتجاً لها، فهو يلجأ إلى المصادر، ويسأل، ويحاور، ولا يقول شيئا من رأسه، وكنا نقول إن الحديث المباشر للميكرفون أو الكاميرا هو وظيفة من ينتج المعرفة، ولذا كان هذا الشكل قاصراً على عقول مصر الكبيرة مثل طه حسين وفكري أباظة  والشيخ الشعراوي  وأحمد بهجت الذي كان يكتب "كلمتين وبس" ويلقيه فؤاد المهندس، وكنا نشرح أن الحديث المباشر يجب أن يكون قصيراً لأنه صعب وممكن أن يدخل إلى دائرة الملل. لم يعد لكل هذه القواعد ظل، فمقدم البرنامج (يطلق عليه إعلامي الآن) هو النجم، يتحدث في أي شيئ  بالساعات، ويوجه النقد والنصائح لأي أحد، ولا بأس من التطاول والسخرية والصوت العالي، بل وجدت مذيعة تعلق على وقوف واحد من حرس الرئيس على يسار الإمام في الصلاة بفتوى هوائية: "ما ينفعش اصلا على يسار الإمام"! تحول "الإعلامي" إلى كل شيء، رغم أن كثيراً منهم ربما وجد صعوبة في كتابة جملتين دون أخطاء!
- الإعلام يزدهر في الأنظمة التي لديها حرية وتعليم وقانون، فالحرية تجعل وسائل الإعلام قادرة على كشف الحقائق، والتعليم يجعل الناس قادرين على الانتقاء وهجر الهابط والكاذب، والقانون يمنع حرية التعبير من السب أو الكذب، وفي مصر الثورة توجد حرية، ولا تعليم أو قانون، فماذا تنتظر إلا ما ترى؟
إذا غاب الأمن فسيشتاق الناس لأمن الدولة، وإذا بث الإعلام الرعب في نفوس الناس، فسيبحث الناس عمن يبث الرعب في قلوب الإعلاميين، ولأن الحرية لا يمكن أن تستمر دون تعليم أو قانون، فسيفقد الإعلام حريته، لأنه رأي لنفسه دوراً في الصراع، بدل أن يكون مجرد متابع له، كأننا لم نتعلم من قصة الحمار الذي ذهب يطلب قرنين، فعاد بلا أذنين!
 
أستاذ الاعلام- كلية رولينز- فلوريدا