رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تخوين الإخوان

لم أندهش من اكتساح الإسلاميين للانتخابات، لكنني اندهشت من دهشة البعض! فكل من التاريخ والواقع يقولان إن الدين متأصل في نسيجنا ويحكم آراء وتصرفات كثير منا، كما أن امتزاج الدين بالسياسة في هذا الوطن قديم ويكاد يكون بدهياً.

كانت ملاحظة "هيرودوت" عن المصريين من آلاف السنين أنهم "متدينون أكثر من أي شعب آخر،" ولذا كان انتاجهم الحضاري في أغلبه مرتبطاً بالدين والبعث، وكان الدين هو أداة الحاكم في الحصول على الشرعية، كما كانت مصر إما مهداً، أو مقراً، أو معبراً للرسل-عليهم السلام جميعاً.
تلخص ملاحظة عمرو بن العاص علاقة الدين بحياة المصريين؛ فهم "يبذرون الحب، ويرجون الثمار من الرب،" ويصدق هذا علينا الآن، فنحن من أكثر الشعوب استخداماً للرموز والتعبيرات الدينية، حتى إن كان ما نقوله أو نفعله لا علاقة له بالدين، فتسمع الشباب يصلون على النبي أو يكبرون وهم يلاحقون الفتيات بعبارات الغزل، كما يتمنى مروجو المخدرات "ستر" الله، بل حدث أن راقصة كانت تتلو الفاتحة طلباً للتثبيت والتوفيق قبل أن تصعد إلى المسرح!
إن الدين يجري في دمائنا جريان النيل في ارضنا، ولذا فإن عواطفنا تميل مع من يربطون الدين بالحياة، والسياسة حياة، فبعدما أنهى "أتاتورك" الخلافة الإسلامية عام 1923 استمر البحث عن بديل يبقي الدين حاكماً، واستطاع حسن البنا في سن ال22 أن ينشر دعوته لبناء المجتمع المسلم وتحقيق الخلافة منذ عام 1928 في الاسماعيلية، ثم انتقل بعد 4 سنوات إلى القاهرة، واستطاع أن يكسب تأييداً كبيراً للاخوان المسلمين، ليصبحوا قوة ذات شأن في السياسة، وفي السياسة لابد من الصراع، وقد كان. اقتربت الجماعة من الملك الشاب "فاروق" الذي كان يريد الشعبية من خلال واجهة إسلامية، لكن ميل الجماعة للاستقلال حولهم إلى مصدر قلق للدولة، ويصدر رئيس الوزراء النقراشي باشا قراراً بحل الجماعة عام 1948. يرد أفراد من الجماعة باغتيال النقراشي، ليبدأ تاريخ الإخوان مع الحبس، فيزج رئيس الوزراء التالي "ابراهيم عبد الهادي" بالمئات من الجماعة في السجون، وتم اغتيال مرشدهم الكاريزمي البنا عام 1949. ثم تقوم ثورة يوليو، ويبحث الأحرار عن سند في الشارع في مواجهة الوفديين والشيوعيين، وكان الإخوان ذلك السند.
واجه الإخوان إتهامات التخوين من النظام الملكي ثم الجمهوري، واشتد الصدام مع الضباط الأحرار، لتضاف المشانق والنفي إلى السجون، ثم يشهدون انفراجة مع بداية حكم السادات، إلا أن الصدام عاد مع قرب نهايته، وفي عهد مبارك كان قمع الإخوان يتم بشكل مثير للسخرية، فكانت تهمة الانتماء للجماعة المحظورة عقابها الحبس، في حين يوجد مرشد عام للجماعة لا يمسه أحد، وفي ظل هذا القمع "القانوني" استطاع الاخوان أن يدعموا وجودهم في الشارع والنقابات واندية التدريس، وحققوا نتائج مبهرة في انتخابات برلمانية كشفت عن أن وجودهم أعمق مما نظن.
ثم سقط مبارك، وبدأ المجلس العسكري في نفس خط الضباط الأحرار: البحث عن سند في الشارع في مواجهة الثوار غير المنظمين، فكانت الإجابة الإخوان المسلمين، لكن الظروف تختلف، فالمجلس العسكري لم يحرك الأحداث كما فعل الأحرار، والمجلس ليس فيه أصحاب الكاريزما مثل ناصر أو حتى أصحاب الشعبية والرضا داخل الجيش مثل محمد نجيب. العسكر أتوا إلى الحكم بعد 52 بدون امتعاض شعبي من حكم العسكر، أما الآن فإن حكم العسكر يلقى رفضاً شعبياً، ومن ثم التقت مصلحة المجلس الذي يريد أن يظل متحكماً دون أن يبدو حاكماً مع الإخوان الباحثين عن الشرعية، والجاهزين للحكم من خلال الكوادر التي استمروا في اعدادها. هذا التحالف مع العسكر نكأ اتهامات التخوين ضدهم من جديد، ومعها اتهامات الوصولية، والانتهازية، والعودة إلى الدكتاتورية الدينية.
بدأت الثورة في 25 يناير بصراع بين أغلب المصريين ونظام مبارك، ثم تحول إلى صراع بين المصريين أنفسهم، وحتما سيكون الصراع أشد، فالفرصة سانحة، كما أنه لا توجد دولة الآن، فصار كل شيئ ممكناً، واي دم مهدراً. لقد تحول الصراع إلى مباراة بلا حكام، والفائز فيها هو من يصفي الخصم، لا من يسجل فيه.
هل خان الإخوان الثورة بتحالفهم البادي مع المجلس العسكري؟ حسناً؟ هل كان المجلس من أعداء الثورة ليصنف المتحالف معه خائناً للثورة؟ إذا اعتبرنا أن المجلس انقلب على الثورة بعد زوال مبارك فإن الإخوان في موضع ريبة، لكني لا أميل إلى أحكام الأبيض والأسود في السياسة، الأولى أن نفهم دوافع الإخوان.
إن تجربة الإخوان مع السجن والنفي والمصادرة أجبرتهم على أن يكونوا حذرين وعمليين في التخطيط والتنفيذ، فتجدهم أول من يتأخر وآخر من يتقدم، فرفض مرشدهم "حسن الهضيبي" نزول الإخوان إلى الشارع بعد الإطاحة بالملك فاروق، وعند المحاولة الأولى للإطاحة بمحمد نجيب في فبراير 1953. أيضاً أعلن الإخوان عدم مشاركتهم في مظاهرات ٢٥ يناير ثم انضم إليها شباب الإخوان لاحقاً، ولم

يعرف عن الإخوان دعوتهم لأي عصيان مدني أو مواجهة مع الدولة رغم كل ما عانوه إبان حكم مبارك. وبحثوا في كل ما يحدث عن مصلحة الجماعة، ووجدوها في التمكين لأنفسهم بالتعاون مع العسكر، فأيدوا التعديلات الدستورية، وبذلوا كل مايستطيعون من أجل إتمام انتخابات مجلس الشعب، وشكلوا حزباً سياسياً خروجاً على مبادئ حسن البنا الذي كان يعارض فكرة الحزبية، وها هم الآن يتصدرون المشهد السياسي. ولكن، مهلا؛ الأمر أصعب من ذلك وأخطر.
لا أعتقد أن اتهامات العمالة والتخوين هي أصعب ما يواجهه الإخوان، بل إن الظرف الذي يتحرك فيه الإخوان هو الأصعب، فهناك أولاً مشاعر كراهية تجاه السلطة والحكم، وكل من يتصدر للحكم الآن سوف يصيبه نصيب من تلك الكراهية، ومن ثم فإن ما جمعه الإخوان بالدين قد يفقدونه بالسياسة، وهناك ثانياً طموح يجعل كل أطراف الصراع تشعر أنها تقف على مسافة واحدة من الحكم، ومن ثم فالكل طامح وكاره لطموح الآخرين، وهناك ثالثاً فوضى تجبر الإخوان على التخلي عن الاقتصار على النشاط التنظيمي والدعوي والدخول في مواجهة باليد واللسان مع بقية الأطراف (كما حدث أمام مجلس الشعب أمس)، وهي مواجهات أرى الكل فيها خاسراً، وهناك رابعاً مد إعلامي عال يسعى إلى عزل الدين عن السياسة ووصم من يجمعون بينهما بالتخلف، أو التحجر، أو عدم الصلاحية، وهناك خامساً بعض الحسابات الخاطئة التي تركت أثراً طويل المدى على شكل الإخوان، مثل موقفهم من التعديلات الدستورية، وهناك أخيراً كتلة مسيحية ترفض حكم الإخوان أو على الأقل تشعر بقلق كبير منه.
مما يؤخذ على الإخوان انتماؤهم للجماعة الذي يقدمونه على أي انتماء آخر، فالجماعة ومصلحتها أولاً دائماً، وخرج هذا المعنى في تصريح افتقر للحنكة السياسية من المرشد السابق الأستاذ "مهدي عاكف" عندما قال "طز في مصر."
من حق الإخوان أن يقدموا أفكارهم، وأن يتخذوا من الإسلام مرجعية لهم، وقد كانوا دائماً واضحين في هذا، واستطاعوا من خلال وضوحهم الفكري أن يملأوا الفراغ الناشئ عن غياب أي فكر محدد المعالم للنظام الجمهوري الذي أنشأ كيانات سياسية لم يجمع بين أعضائها إلا المصالح واحتكار السلطة والثروة، كما ظل الإخوان مخلصين لفكرهم، ملاقين فيه أشد العنت دون أي مكسب لعقود طويلة. وهو إخلاص يبعث على الإعجاب، وتضحيات تبعث على التعاطف. أيضاً من حق أي أحد أن يعارض فكرة الإسلام السياسي، وللناس أن يختاروا، ثم لهم أن يغيروا اختيارهم بعد ذلك أو يدعموه، لكن الخطأ كان في الانجرار إلى صراع الأفكار قبل أن يحسم الصراع مع بقية النظام. كان يجب أن نبدأ بتوافق سياسي ينشئ أركان الدولة، ويحدد معالم الحكم، وبعد ذلك فليبدأ الصراع، وليحكم من يحكم، فلن يكون إلا موظفاً يخدم في نظام دستوري حاكم. أما الصراع الآن فقد أفقد الثوار مصدر قوتهم الأساسي؛ وهو اتحادهم، ومع كل صدام بين أطراف هذا الاتحاد سوف تخسر الثورة، ومع كل إتهامات بالعمالة والتخوين سوف تزيد العداوة، ويستعصي الصدع على الرأب، وسوف تستمر مصر في النزيف والاندحار إلى الوراء. إذا أنا كسبت وخسر الوطن، فقد أنتهي إلى أن أخسر ما كسبت وأن نخسر جميعاً الوطن.