عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وحشية التحرش والقانون الغائب

أذكر أول مرة سمعت فيها لفظة تحرش عندما كنت عائداً من امتحانات الصف الثالث الابتدائي برفقة والدي من المدرسة الداخلية التي أتعلم فيها إلى منزل الأسرة، يومها وقفنا أنا وأبي طويلاً في انتظار أتوبيس رقم 104 لينقلنا من العتبة إلى إمبابة

وبعد طول انتظار هلَّ العزيز الغالي ليجد في استقباله طوفاناً بشرياً يتسابق للظفر بباب الأتوبيس، وأنا فوق كتف والدي عرضة لدفعات هنا وضربات ولكمات هناك، وبدعاء الوالدين فقط، وباستبسال أبي - رحمه الله - في تخليصي من بين الجثث المتسابقة لم ينجح في دخول الأتوبيس فحسب، بل استطاع إقناع إحدى الفتيات بأن تجلسني على حجرها بعد أن رحبت ورحبت أنا أيضاً، وضمنت أنني لن أبقي واقفاً طول الطريق، وبين الزحام الخانق والعطر المنبعث من ثياب الفتاة، تحرك الأتوبيس بسرعة فوق الشوارع غير المرصوفة جيداً، ومع اهتزازاته المتوالية تتصادم الأجساد في عشوائية، وترتطم أجزاء بعضها بأجزاء بعضها الآخر، النساء بالرجال والرجال بالنساء، أكثر ما كان يقلقني في تلك اللحظات عدم وجود أبي إلى جواري، والذي يبدو أن الزحام جرفه بعيداً عني، وأقلقني كذلك ارتماء الشخص الواقف أمامي بسبب وبدون سبب فوق جسدي الهزيل، ثم وضعه يده مرة بعد أخرى خلفي أعلى ظهر الكرسي الذي ترتكن الفتاة عليه، لاحظت أثناء تلك اللحظات أنها بعد أن كانت تلاعبني وتداعبني وتربت على كتفي، بدأت علامات التوتر تظهر عليها، فتارة تنفخ وثانية تقول: حاسب لو سمحت، وثالثة: ابعد إيدك من فضلك، ومع زيادة عصبية الفتاة وهمجية تحركات الشخص الواقف أمامي وتتابع هزات الأتوبيس، تلقيت قرصة مفاجئة في ظهري، أجبرتني على الصراخ من شدتها، وإذا بوابل من الشتم يندفع من فم الفتاة الغاضبة تجاه الرجل: إنت قليل الأدب، أعمى القلب، تخيلوا هذا المجنون حاول أن يتحرش بي ودون أن يقصد بدلاً من أن ينالني بيده قرص هذا الطفل الكفيف، وبين فزع الفتاة وصراخي وثورة والدي الذي ظهر في الوقت المناسب وغيرة أهل النخوة، أقيمت على قلة شرف المتحرش وليمة ضرب من جموع الركاب بالأحذية والشباشب والصنادل لم أسمع بمثلها قط، وبعد كل ذلك تم تسليمه إلى قسم الشرطة، وبمجرد وصولي للمحطة الأخيرة حملني والدي على يديه المرتعشتين من المعركة ونزل بي من الأوتوبيس، وهو يقبلني وكأنه يعتذر لي عما جرى، ويحتضني، وهو يقول: «وصلنا والحمد لله»، ثم اشترى لي مصاصة ونوجة هدأت بسببهما فعلاً، حتى أنني في براءة الأطفال سألته: «بابا ما معنى تحرش بي التي قالتها الفتاة؟».. بصوت مرتبك، أجابني: «تحرش بها، أي أراد أن يعطيها حقنة رغماً عنها»، فقاطعته مستغرباً: «وهل هو دكتور لكي يعطي حقناً؟.. وهل الأتوبيس مستشفى كي تُعطى فيه الحقن؟».. ضحك أبي، وعمد للصمت، وانتهت الحدوتة ولم أسمع لفظة تحرش بعد هذه الحادثة إلا على فترات متباعدة، وعبر حوادث قليلة كانت غالبيتها فردية.
وكأنني نمت ذات ليلة ثم استيقظت فإذا بالتحرش الجنسي خبراً رئيسياً في معظم الصحف اليومية وقد تحول لظاهرة لها حضورها الطاغي في الأحياء الشعبية والراقية، وإذا بحالات التحرش ترتفع من 162 حالة فقط مع بداية التسعينيات إلى 45 ألف حالة في الفترة من بداية 2006 وحتى مارس 2007، ضمنت لمصر المركز الثاني بين بلدان العالم الأكثر عرضة لجرائم التحرش.
بدأ أول فصل من فصول التحرش بحادثة فتاة العتبة، التي تعرضت للتحرش في وضح النهار من جانب أربعة من الشباب وهي تستعد لركوب الأتوبيس مع والدتها، فانتشلوها وطرحوها أرضاً، وتصارعت أيديهم للمساس بأجزاء جسدها المختلفة، وقد اهتزت مصر للحادثة وتصورها كثيرون تجاوزاً غير مقبول في بلد معروف عنه التدين، وفي عام 2006 يراد لظاهرة التحرش أن تنتقل نقلة نوعية أخرى، على يد عدد أكبر من الشباب قرر ممارستها صدفة في ليلة عيد الفطر المبارك، أمام إحدى دور العرض السنيمائي، التي

كانت تعرض فيلم «علي الطرب بالتلاتة»، وبدعم من بطلة الفيلم الراقصة «دينا»، وشريكها في البطولة «ريكو» قررا معاً وعلى سبيل الدعاية للفيلم تقديم وجبة ساخنة من الرقص المعتبر، أثار جموع الشباب الواقفين وحفزهم على التحرش بكل من ساقهن حظهن العثر المرور في تلك المنطقة، ومنذ ذلك اليوم أصبح التحرش مظهراً من مظاهر الاحتفال بالعيد يحرص على أدائه المتحرشون مثلما يحرص غيرهم على الكعك والبسكويت.
وفي عام 2008 وفي اليوم الثاني من أيام عيد الفطر المبارك يخطط جيش من المتحرشين لعملياتهم مع سبق الإصرار والترصد، حيث أعدوا لممارسة فعلهم الفاضح بأهم شوارع مصر، شارع جامعة الدول العربية، وبظهور بعض الفتيات الحسناوات في الأفق، يصيح أحدهم: «وليماااا»، ثم ينطلق وخلفه جيش جرار من المراهقين يتناوبون فيما بينهم على الفتيات، احتكاكاً ولمساً وتقبيلاً وخلعاً للملابس كلما أمكن، وفي هذا العام يتحول عيد الفطر بأيامه الثلاثة لمناسبة نموذجية يمارس فيها التحرش على أوسع نطاق، في حديقة الفسطاط وحديقة الحيوان وحديقة الأورمان.. إلخ.
ومنذ ثورة يناير وعمليات التحرش على عينك يا تاجر في عمليات انتقام من جانب قوى لا تعرف شيئاً عن الدين ولا الدنيا.. يعتقد البعض أن البطالة والفقر وتأخر سن الزواج كلها أسباب مهمة لشيوع تلك الظاهرة، وأقول: فمنذ متى لم يفترس الفقر والبطالة مصر؟.. ومنذ متى لم يتأخر شبابها عن الزواج؟.. ومنذ متى كانت الغرائز في حياتنا أسبق في التعبير عنا من القيم والعادات والتقاليد التي ورثناها؟.. كان الشائع في السبعينيات بالنسبة للمرأة المصرية هو الميني جيب والميكرو جيب، ومع ذلك لم يحمل رجال مصر وشبابها شهواتهم على أكتافهم ليفرغوها بالتحرش والاغتصاب، كانت في بعض الأفلام القديمة مشاهد ساخنة ورقصات خليعة وملابس مفعمة بالإثارة، ولم نسمع عن أطفال يتسابقون رغم صغر سنهم على الدخول تحت عباءات النساء كما يحدث اليوم، لقد سقط الجميع فريسة للتحرش، محجبات ومتبرجات ومنتقبات، صغيرات في السن وشابات وكبيرات في عمر الجدات، بينما المتحرش آمن مطمئن لإحساسه بأنه أقوى من الدولة من القانون من الأمن المنشغل بحراسة كراسي السلطة من القيم والعادات والتقاليد، من المجتمع كله، ولو تصور مرة أنه سيحاسب إذا أخطأ فلن يجرؤ على ارتكاب الخطأ، ولو يعرف أن للدولة هيبة فسيهاب الدولة.
إن قوة المتحرش في إحساسه بضعف الآخرين، وعندما كان الناس أقوياء في الحق لم يكن لهذه الطبقة وجود، ولا سبيل لوقف ظاهرة التحرش والمتحرشين إلا إذا أدركنا أننا جميعاً عرضة للخطر، ولا سبيل لمحاسبة هؤلاء إلا بالقانون، لأنه لن يفل الحديد إلا الحديد.