رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الإصلاح السياسى قبل إصلاح التعليم

يتردد بين الكثرة الغالبة من الناس مقولة تذهب إلى أن "التعليم هو قاطرة النهوض الحضارى"، مما يعنى أنه نقطة البدء، وهو الذى يقود النهوض، ويسير بالأمة نحو آفاق التقدم والرقى، وفى سبيل ذلك يستشهدون ببعض التجارب الدولية، وفى مقدمتها تجربة ماليزيا، وكوريا من قبلها، وغير هذه وتلك من البلدان.. فهل هذا صحيح؟

الحق أن القول بأنه لا نهوض حضارىاً بغير تعليم راق، هى مقولة صحيحة إلى حد كبير، لكن دعونا نفكر قليلاً ونتساءل : ألم يكن اللجوء إلى التعليم، وجعله أولوية أولى فى سلم أولويات الوطن، قرارًا سياسيًا بالدرجة الأولى؟

لست عالما من علماء السياسة، ولا أنا من ممارسيها الفعليين، ولكن حاستى كإنسان يعقل ويفكر ويرصد ويتابع، تشير إلىّ بأن السياسة هى "الإدارة الكلية العامة للمجتمع"، وبالتالى فإن حركة كل نظام فيه، وكل جانب، هى مما يدخل فى دائرة سياسة الوطن .

إن من مبادئ التقدم، ومسلمات التطوير، أنه يحتاج إلى " رؤية "، وإلى "مشروع"، وتحويل الرؤية والمشروع إلى خطوات تنفيذية، يحتاج بطبيعة الحال إلى قيادة، وكذلك يحتاج إلى تمويل ضخم، كما يحتاج إلى "كوادر" تقود وتنفذ وتتابع وترصد، وتُقَيِّم، فمن له أن يفعل هذا وذاك مما تستلزمه عمليات التطوير والتغيير؟ إنها - مرة أخرى، القيادة السياسية .

وهكذا، إذا قلبت الأمر على أوجهه المختلفة، فسوف تجد أنك أمام ضرورة التسليم بأولوية النظر السياسى، قبل إصلاح التعليم .

لقد كانت كل من كوريا الجنوبية، وماليزيا موجودتين بطبيعة الحال على الخريطة الآسيوية قبل الطفرة التى أحدثتهما بسنوات طويلة، فما الذى حدث أولاً حتى تحدث هذه الطفرة؟ لقد قُيد لهذين البلدين من القيادات السياسية من يفهم ويُقَدر الدور المذهل للتعليم فى النهوض الحضارى، ولم يكن هذا الفهم، وذاك التقدير مجرد كلمات تساق فى الخطب والمقالات والقوانين والدساتير، وإنما تحول إلى " قرارات "، بمعنى أن أرض الواقع أصبحت هى " المعمل " الذى تترجم فيه الأقوال التى قيلت، والخطب التى سيقت .

نحن إذن لا نناقض المقولة الشهيرة المؤكدة أن التعليم هو قاطرة النهوض، ولكننا نؤكد أن النهوض الحضارى ليس مجرد شعار، ولا هو مجرد كلمات، ولكنه حركة كلية للجماعة الوطنية، تبث الروح فيها قيادة سياسية واعية، على درجة عالية من الإيمان من ذلك النوع الذى أشار إليه المولى سبحانه وتعالى فى كثير من آياته القرآنية، عندما حرص على أن يلحقه دائما بكلمة "وعملوا"، فضلا عن إنذاره لهؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، ووصف هذا النوع من القول بأن يستحق مقتًا كبيرًا منه سبحانه (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

إن القارئ لو أتيحت له فرصة أن يطلع فقط على عناوين آلاف رسائل الماجستير والدكتوراه فى كليات التربية، بل وفى بعض كليات التجارة والآداب، متناولة جوانب أكثر من أن تعد وتحصى، وكذلك آلاف من البحوث والدراسات التى قام بها مئات من أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات المصرية، هذا فضلا عن عشرات المؤتمرات وعشرات الندوات التى تناولت أيضا هموم التعليم المصرى ومشكلاته، بحثا عن سبل النهوض به، لوجد أنه ما من مشكلة إلا وبُحثت عشرات المرات، وما من سبل تطوير إلا وأُشير إليها مئات المرات ..

فلِم، ما زلنا نئن ألمًا كلما جاءت سيرة التعليم، وترتسم على وجوهنا علامات السخط وعدم الرضا، والحسرة؟

ومعذرة أن أتخذ من نفسى مثالا، لا لشىء وإنما لأن هذا المثال أنا الأدرى به، وكذلك أزعم أنه لم يقيض لأحد أن يكتب عن هموم التعليم قدر ما كتبت، ويكفى للقارىء أن يعلم أننى أكتب للرأى العام، على صفحات الصحف والمجلات، منذ يناير 1970، وحتى كتابة هذه السطور، هذا فضلا عن عشرات الكتب التى وفقنى الله إلى تأليفها، وكذلك ما يزيد على مائة وثلاثين رسالة ماجستير ودكتوراه أشرفت عليها، ومع ذلك فلم أستطع أن أحرك حبة رمل واحدة على أرض التعليم فى مصر، ولا حتى سعى مسئول لأن يناقشنى.

أرجو ألا يذهب القارىء بظنه بعيدا متصورا أنى أبحث عمن يسألنى النصيحة، وإنما لأؤكد أننى، مثل كثيرين آخرين غيرى، قرأنا وبحثنا وفكرنا وكتبنا ..شخصنا، ورصدنا، واقترحنا، لكن كل صيحاتنا، وكل بحوثنا، وكل صرخاتنا عادت إلينا مثل رجع الصدى، حيث لم " تعيها أذن واعية "، وكأن الله قد ضرب على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وكأن فى آذانهم وقرا!

ومن هنا، فما من مرة أسمع فيها خطابا من قيادات سياسية عن التسبيح بحمد التعليم، والإعلاء من شأنه إلا وأكاد أتميز غيظا، ذلك لأن كل ذلك لا يترجم ترجمة حقيقية إلى وقائع وأحداث، والشكل الظاهر للترجمة العملية أن ننظر جيدا فى ميزانية الدولة، بكل أوجه الإنفاق فيها، حيث هناك أوجها لا تعلن على الناس، وننظر بحثا عن مكانة التعليم فى سلم أولويات الميزانية .

من يقود مسيرة التعليم فى بلد مثل مصر؟ إنهما وزيرا التربية، والتعليم العالى، ولا تقل إن هنالك مجالس، ولا تقل إن هناك رقابة برلمانية، وإعلامية، رئيس الدولة وحده الذى يختارهما، وهو وحده الذى يمكن أن يذهب بهما، فهل هما بالفعل أصلح من يقوم بالمهمة التى كلفا بها؟

إن هناك مقولة تتردد فى الدول المتخلفة تذهب إلى إعطاء "الأمن" الأولوية الأولى، ويكون ذلك أمرا مفهوما بالنسبة لمخصصات الجيش للدفاع الخارجى، لكن، عندما نجد أن مخصصات الأمن الداخلى، التى لا نعلمها أبدا ولا نراها معلنة، نثق فى أن النظام القائم، قد لا يهمه أن يبنى ويعمر بقدر ما يهمه أن يحمى نفسه داخليا، دون أن يلجأ إلى السبل الحقيقية كى يحمى نفسه داخليا، وهى سبل غير مجهولة، لكنها غير " مقدور " عليها فى وطننا، وهى مفصلة - نظريًا - فى آلاف الكتب التى تناولت سبل الحكم الديمقراطى، وآلاف الكتب التى تناولت كيفية توفير العدل، وهى مفصلة - عمليًا - فى عدد من الدول التى توصف بالديمقراطية، مهما وجهنا إليها النقد من حيث سياستها الخارجية تجاهنا، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والكثرة الغالبة من الدول الأوربية.

أرصد قائمة بالدول المتقدمة، واسأل عن بعض مؤشرات التقدم فيها، فسوف تجد بطبيعة

الحال أن التعليم هو "قَسَمة" مشتركة، وأساسية، لكن اسأل أيضا عن بعض مؤشرات الديمقراطية، فسوف تجدها، واسأل أيضا عن مؤشرات "العدل"، فسوف تجدها.. وهكذا، لابد من اكتمال أضلاع المثلث : الديمقراطية، والعدل، والتعليم، بحيث لا تجد مجرد احتمال لوجود أحد هذه الأضلاع دون الآخر:

فالتعليم ضرورة لحسن وعى المواطنين بما لهم من حقوق فى المشاركة السياسية وفى التعددية، وفى الاستعداد بالتضحية بالنفس والمال والأهل، دفاعا عن حقهم فى اختيار من يحكمهم، ومن يمثلهم، وفى حقهم أن يُغيروا، وهم فى ذلك يتذكرون جيدا ، أن سياسيا كبيرا مثل "تشرشل" قاد بريطانيا مثلا إلى الانتصار فى حرب لا مثيل لهيا فى التاريخ ، حتى عام 1945، ومع ذلك، ففى الانتخابات التى تلتها، صوت البريطانيين لغيره كى يحكم، ولم يقلل هذا من بطولة تشرشل، ولم يعن أن الشعب البريطانى لا يُقدر زعماءه، ولكنه أدرك أن من يقود البلاد زمن السلم، وزمن البناء، لابد أن يكون غير من قادا البلاد وقت الحرب والهدم!

والديمقراطية نفسها ضرورية للتعليم حتى نضمن أن يربى النظام "بشرا"، يسائِلون، ويحاسِبون، لا نعاجا ترتعد أمام عصا الراعى، وتكون غاية أمانيها الحصول على المأكل والمشرب والمأكل!

وهكذا قل بالنسبة للعلاقة بين العدل والطرفين الآخرين..

انظر إلى ما أصبح عليه التعليم فى مصر، فى وقتنا الراهن ، سوف تجد أنه ، بعد أن كان يمثل "مصعدا اجتماعيا" يتيح الفرصة لمن يستقله أن يصعد إلى أعلى، كيف أصبح طريقا جهنميا لتكريس الطبقية، عن طريق تنوع شيطانى فى مؤسسات التعليم العام، يفتح أبوابا لا يستطيع الولوج إليها إلا أبناء الموسرين، وكأنهم يمثلون بالفعل من أشير إليهم بالقول المشهور "ولدوا وفى أفواههم ملاعق ذهب"، ومدارس أخرى، لا يملك أطفال للالتحاق بها حتى ملعقة من الخشب!

إلا إن الطريق إلى إصلاح التعليم، هو إصلاح الساسة والسياسة أولا، وهو الأمر الذى فاضت به أنهر عديد من المؤتمرات والندوات والكتابات، وجميعها يكاد يتفق على طريق واحد ، يتلخص فى رفع حالة الطوارئ، وألا تزيد مدة تولى رئيس الجمهورية عن فترتين، وأن تُقلص صلاحياته فى دستور جديد تضعه جمعية وطنية مستقلة، وأن تُرفع القيود عن تكوين الأحزاب، وإصدار الصحف، وفتح القنوات التلفزيونية.

ولا ينبغى أن يتصور أحد أننا بذلك كمن يسأل: من يعلق الجرس فى رقبة القط؟ ذلك لأن هذا إنما يكون، بالنسبة لجماعة فئران مذعورة، لكن الجماعة الوطنية عندما تثق أنها ليست جماعة من هؤلاء، وإنما هم بشر، لهم قلوب يفقهون بها، ولهم آذان يسمعون بها، ولهم أعين يبصرون بها،  فسوف يرون الطريق الصحيح للبصر بالقط، وتعليق، لا جرس واحد، وإنما مجموعة أحراس، نقول هذا التشبيه،  اتساقا مع المقولة القرآنية التى يصف من خلالها المولى سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لا يستخدمون أعينهم فى البصر بالحقيقة، والذين لا يفقهون بقلوبهم، والذين لا يحسن السمع بأنهم " كالأنعام "، بل وزاد على ذلك بوصفهم أنهم يكونون "أضل" من الأنعام، ذلك لأن الأنعام الحقيقية، إذا كانت لها أعين، وإذا كانت لها آذان، وإذا كانت لها قلوب، لكنها تفتقد "العقول" التى تعى وتفهم، ومن ثم يكون لها عذرها، لكن، ما عذر الإنسان؟

إن الفساد السياسى، استطاع بحيله أن يبعد العدالة عن أن تتحقق بالنسبة لوفاة ألف وثلاثمائة مصرى غرقت بهم عبارة أحد الرأسماليين غير الوطنيين.. فى الوقت الذى يظهر شراسة منقطعة النظير إزاء من يختلفون معه سياسيًا، فإذا بناشط سياسى وصحفى، مثل " مجدى حسنين " حوكم محاكمة عسكرية وأودع السجن، لأنه أظهر تعاطفا عمليا مع كارثة غزة فى مستهل عام 2008.

إن الذين احتجوا، وصاحوا، وحزنوا، لما حدث من تزييف لإرادة الناس فى انتخابات ما يسمى بمجلس الشعب، فات عليهم أن قدْر، ونوع الحرية، التى تُمنح، يمكن لمن يمنحها، أن يعطيها وقت ما يشاء، ووفق ما يسعى إليه، وفى الاتجاه الذى يريد، وبالقدر الذى يريد، ومن ثم فلا غرابة فيما حدث، لكن الحرية التى تُنتزع ..الحرية التى ينتجها الناس، لا يستطيع أحد أن ينتقص منها وقتما شاء.