رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

صاحب مصر

 

الكلام عن زكريا الحجاوي يظل أبداً حديثاً متجدداً إلي ما لا نهاية، خاصة بالنسبة لمن أسعدهم الحظ بمخالطته، حيث قد بقيت في نفوسهم منه نقوش عميقة لا تنمحي، وقد كنت واحداً من أولئك المحظوظين بمعرفته عن كثب، الواقع أن معرفته عن كثب لم تكن تقتضي جهداً أو وساطة يكفي أن تراه مرة واحدة لتجد نفسك قد انعطفت عليه كما يرتمي الطفل علي صدر أمه في طلب المزيد من حنانها المشع، ذلك أن زكريا الحجاوي لم يكن أباً حانياً فحسب، بل كان فيه من الأمومة كل خصائصها المعطاءة، وكان يحمل بين ضلوعه قلب أم مصرية شغلتها في الحياة إنجاب أولاد وتربيتهم، فإذا كفت عن الإنجاب لسبب من الأسباب أسبغت حنانها علي كل من تلتقيه، وما أكثر ما كان زكريا يجد من يسبغ عليه حنانه وفضله العميم، إنه واحد من سلالة العماليق المصريين حاملي هموم الوطن والقومية علي أكتافهم التي لا تنوء بالحمول وإن ثقلت عليها، كأنه صاحب مصر المسئول عنها، كأنه رب دارها لا ينام إلا بعد أن يطمئن علي عودة كل الأبناء إلي فراشهم بسلامة الله.

لهذا لم يكن غريباً أن عملاقاً عظيماً كيحيي حقي يرسم له هذه اللوحة الخالدة في كتابه البديع »سهراية مع الفن الشعبي«، يشيد فيها بقيمة الحجاوي باعتباره أحد أهم أعلام التاريخ المصري المعاصر الذين تخرجوا في مدرسة الوجدان الشعبي المصري، واستكشفوا شخصية مصر من فولكلورها الغني الممثل لهويتها بما هو أصدق من الثقافة الرسمية التي كثيراً ما تبدو كأنها ممثلة لشعب آخر.

ورغم كثرة ما كتبته عن زكريا الحجاوي، ورغم اللوحة العظيمة التي رسمها له أستاذنا يحيي حقي، والكتابات الغزيرة التي كتبها محمود السعدني عنه في كل مناسبة، بل وأحياناً بدون مناسبة، والمسرحية التي قدمتها هيئة قصور الثقافة بعنوان »عاشق المداحين« من إعداد وإخراج عبدالرحمن الشافعي، رغم كل ذلك فإنني أعتقد أن زكريا الحجاوي قد تعرض لظلم تاريخي فادح لم يلق من الحياة ما كان يستحقه من الراحة، وعاني من الجحود والنكران في الفترة التي تولي فيها تلميذه أنور السادات حكم مصر رغم أن الحجاوي هو الذي قام بتهريبه أيام كان مطلوباً للمحاكمة في قضية مقتل أمين عثمان، فلم يجد مفراً من الرحيل إلي بلاد النفط في الخليج العربي لعله يتمكن من استكمال تربية عياله الذين حرموا من الرفاهية بسبب اشتغاله بالفن والسياسة سافر وهو العصري المزاج والقلب والعاطفة والثقافة كان يبحث عن هامش من الراحة لعياله، أما هو، فإنه لم يكن يجد أي راحة في أي مكان بعيد عن مصر التي دخل ترابها وهواؤها ونيلها وصخورها في تكوينه النفسي والعقلي حتي أصبح هو تشخيصاً لمصر، لقلب مصر وروحها السمحة المعطاءة.

تعرض الحجاوي للظلم بسبب ما يملكه من قدرة علي التضحية والإيثار، إذ كان يحب مصر أكثر من فنه، ويحب فنه أكثر من حبه لأي شيء آخر، أنفق عمره كله في السفر والترحال في أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها بحثاً عن مواهب يحتضنها وموضوعات يتبناها ومناطق خصبة في الأرض المصرية يعرضها للشمس والهواء.

جهوده توزعت في أكثر من مجال، فلم يتحقق لها النمو والتطور في عقول ووجدانات الأجيال الجديدة، فلو كان استمر يصدر الكتب لكان الآن صاحب أكبر رف في المكتبة العربية، سيما وقد كان من فرسان القصة القصيرة الواقعية علي رأس الجيل التالي لجيل يحيي حقي مباشرة، كما كان له باع طويل في كتابة الدراسات الأدبية والفنية بأسلوب مبتكر في موضوعات غير مسبوقة، لكنه في عز نضجه صادف مجالاً إعلامياً جديداً وساحراً، وهو العقل الإذاعي، فالتحق به، انطلق يبدع له أروع وأعمق ما أذاعه الراديو، بأنها مشاركاً بالنصيب الأوفر في صنع مجد الإذاعة، فلأول مرة وبفضله صدح الأثير بلهجات مصرية متعددة، مثلت بيئات محلية شديدة الأهمية في إثراء المحتوي الاجتماعي والحضاري التاريخي للشخصية المصرية التي لم نكن نعرف إلا القليل عن جوانبها المترامية من بلاد النوبة وإلي الإسكندرية ومن شطآن النهر إلي ضفاف البحر الأحمر، كما عرفت الموضوعات التاريخية ذات النكهة السياسية طريقها إلي المستمعين في القري والنجوع.

إمكاناته كانت بالطبع أكبر من مؤلف إذاعي يكتب تمثيليات شيقة مسلية، ولهذا جاءت أعماله الإذاعية أدباً خالصاً، وتحفل المكتبة الإذاعية بروائع الدراما التاريخية والاجتماعية الغنائية ذات مستويات شاهقة لم يصل إليها مستوي التمثيلية الإذاعية حتي الآن، سواء في اختيار الموضوعات الحيوية أو في ارتفاع مستوي الحوار أو في التقنيات الإذاعية التي كان يجيد اللعب بها فنياً حتي يضع عين الكاميرا في صوت الميكروفون فكأنك تري بأذنيك وتشاهد وتعايش المواقف الدرامية المصاغة بحرفية عالية.

بعثر الحجاوي نفسه في أحشاء مصر، صار بذرة ضاربة في أحشاء الوادي ستظل تستقطب الغاء كلما لامستها مياه التحرر الفكري والفني والسياسي.

وحينما تعود بي الذاكرة إلي سنوات التكوين في مرحلة الصبا، أتذكر مقالاته التي كان ينشرها في جريدة »المصري«، حيث كان من كتابها الثابتين، فأدرك أنه كان كبيراً منذ وقت مبكر جداً.

من حسن الحظ أجد أمامي الآن إحدي مقالاته تلك، كانت منشورة في عدد يوم الأحد 28 يناير عام 1951، وهي عن الموسيقي »ڤردي« ملحن أوبرا عايدة وأوبرا »ريجوليتو«، ونحن نعرف طبعاً ما هي أوبرا

»عايدة« بالنسبة لنا كمصريين ومن ثم يهمنا أن نعرف من هو فردي ملحن هذه الأوبرا.

أقرأ هذا المقال الآن، فإذا بي أمام مستوي رفيع جداً في التذوق الموسيقي، كأنه أحد خبرائها ودارسيها ومبدعيها.

علاقته بالموسيقي، إذن لم تكن سطحية، لا ولا هي مغلولة في حدود المداحين وخضر محمد خضر والملاحم الشعبية الغنائية الإذاعية التي يرجع له الفضل في تقديمها للإذاعة والتأسيس لها كلون إذاعي يجد أصداء واسعة لدي جماهير عريضة من مستمعي الراديو، لم تكن علاقته بفن الموسيقي من قبيل التطفل علي موائدها الفخمة أو الادعاء بالنهم الذي نلاحظه عند بعض من يكتبون عن الموسيقي فيملأون الصفحات بالرطانة للإيهام بأنهم علي ثقافة موسوعية في الموسيقي، في حين أن جل ما يكتبه البعض منهم منقول عن دوريات أجنبية.

ما هكذا الحجاوي، إنه يكتب من داخله هو، من دائرة تذقه الخاص، مع استيعابه وفيض مشاعره، وأصالته، ويلاحظ القارئ لهذه المقالة المذكورة أن لمعة أسلوبها الأصيلة أصبحت سمة سائدة في الأسلوب العربي المعاصر.

إن تحليله لموسيقي فردي يعكس اجتهاده الخاص، هو بالطبع تحليل أدبي بالدرجة الأولي، اتساقاً مع شخصية المحلل باعتباره أديباً في المقام الأول، مزوداً بثقافة موسوعية شاملة تساعده علي أن يكون له رأي في الفن بوجه عام، محكوماً بوجهة نظر مصرية خالصة، وذلك أن الميزة الكبري في شخصية زكريا الحجاوي أنه ينظر إلي كل شيء من وجهة النظر المصرية، التي هي جماع لخبرة عميقة بالوجدان المصري والتاريخ المصري وطبيعة الشخصية المصرية وريثة حضارة نيلية زراعية عريقة تجعل إحساسها بالأشياء عموماً يختلف عن إحساس أية شخصية قومية أخري، وهذه نقطة جوهرية مهمة سوف نعرض لوجهة نظره فيها بعد قليل.

ولكن، فلنقرأ أولاً جانباً من تحليله لموسيقي ڤردي، يقول: »إن موسيقي الأوبرا قبل هذه المسرحية الخالدة ريجوليتو لم تكن إلا موسيقي تساعد علي الإفصاح عن العواطف العامة فقط، الإفصاح عن الرضا، وعن الغضب، وعن الفرح والحزن، وعن بقية هذه العائلة العاطفية التي تسبح طافية علي كل النفوس البشرية.

أما العواطف الدفينة المختبئة التي يحسها الناس ولا يكاد يبين عنها إلا الأدباء والشعراء، والقابضون علي أزمة البيان بنوع خاص، فإن ذلك لم يكن معروفاً في عالم موسيقي الأوبريت، إذ كيف يلحن ملحن الأوبرا نغمة قصيرة تجري وتركض وتختفي كالابتسامة الوامضة، كيف يلحن ملحن الأوبرا نغمة قصيرة تقف وتجمد وتتحشرج كالآهة الحبيسة في صدر المحزون، وكيف يقدر الملحن علي أن يجعل الأوتار الموسيقية تساقط دموعاً، دموعاً عاطفية رقيقة دفعت بها عاطفة إنسانية راثية، لا حادثة دامية.

أجل، إن ڤردي استطاع لأول مرة أن يكتب الموسيقي التي يحسها تدور وتدب بين حنايا نفسه الإنسانية العميقة، واستطاع أن يصغي وأن يطرق، مندساً إلي أغوار روحه، متحسساً منابت عواطفه الحقيقية، ثم متملقاً اللحظة الفنية، التي يفني فيها الفنان في جوقه ليعود من جديد ومعه صيده المتألق الفريد.

وبدأ ڤردي منذ لقي نفسه وعرف أنه إنسان، وأن الفن هو الحياة الإنسانية مصبوبة في نغم، بدأ يسلك طريقه إلي الخلود وكان الإطار الذي يشبك فيه ڤردي طابعه الإنساني، هو اللحن القصير، الغائر، الهامس، المندمج في اللحن العريض، الواضح الصائح، والمندمجين معاً بين كل فترة، في عريشة متكاملة من ألحان الكورس المضيء في المسرح، والمختفي وراء الكواليس، والذائب في كل جانب من جوانب المسرح، ووضع ڤردي ألحان عايدة الخالدة تلك التي فنيت أوبيرات عالمية ضجت لها الدنيا قبل ڤردي ولم تفن.. ولن تزول روعة موسيقاها إلي الأبد.