عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

يوم أنشدت مصر: بلادي بلادي لأول مرة

بعد احتلال بريطانيا لمصر بعشر سنوات ولد الطفل سيد درويش البحر، بحي كوم الدكة في الإسكندرية كما هو معروف أي أنه فتح عينيه ووعيه علي بلاده رازحة تحت يد الإحتلال وكان ثمة طابية محطمة في حي كوم الدكة يراها الطفل ليل نهار ويجعل منها مرتعاً لألعابه. منظرها كان يشبه النصب التذكاري تفوح منه رائحة التاريخ، يبدو وكأن يداً مجهولة صنعته عمدا وعلي ذلك النحو لكي يجسد معني أو رمزاً معيناً.

وكأنما كان ذلك الرمز هو الشفرة السحرية التي وصلت إلي عقل الطفل ووجدانه، فراح يسأل عن تاريخ هذه البناية المحطمة. فعرف أن الإنجليز هم الذين دمروها أثناء اقتحامهم للبلد الأمين. فانطبع ذلك المعني في وجدانه شامخا لا يريم.

وكان ذلك الرمز وحده كفيلا بأن يخلق من سيد درويش جنديا عظيماً يثأر لبلدته وحيه ذاك الصغير في قلب الإسكندرية. لكن طاقة البطولة والجندية العظيمة التي كمنت بداخله وشرعت تنمو، تحولت إلي سلاح من أعتي الأسلحة وأنعمها في نفس الوقت إنه سلاح الموسيقي الغنائية. فلم يكن غريبا أن عرفت أغنيته طريقها مباشرة إلي قلوب الجماهير لأنها نبعت في الأصل من إحساس قوي بالنبض، الحقيقي القوي للجماهير في مصر من أقصاها إلي اقصاها قبل اختراع وسائل الاتصال الحديثة ذات التقنيات الحالية.

وفي واحد من أجمل الفصول الصحفية التي كتبها الشاعر كامل الشناوي عن سيد درويش، يقول ان سيد درويش أراد ان يعبئ الشعور ضد العدو بالكلمة »فوجد أروع الكمات تنطلق من فم مصطفي كامل .. ثم من فم سعد زغلول .. أو أراد أن يعبر بالصوت الحلو فاتجه إلي تنقية من البطء والفضول والتكرار، وحولها من وسيلة لتزجية الفراغ والانجذاب والتطريب، إلي حافز يهز المشاعر ويلهب العواطف... وهو يجدد مفهومه للالحان، ويحاول أن يضع كتابا عن الموسيقي.. إلخ«.

ولكن ما السر في أن ذلك الشاب الأزهري الذي لم يدرس الموسيقي دراسة منهجية ولم يحترف العزف علي الآلات الموسيقية، تصبح ألحانه وكأنما هي صوت الشعبي الأصيل؟ لقد كانت مصر في ذلك الوقت مرتعا للأغاني الخليعة  المنطوية علي أخبث المعاني وخسيس الأغراض، حتي أني من  كان يستمع إلي تلك الأغنيات من المثقفين يتصور أن الأغنية في مصر لن تقوم لها قائمة بعد أن فقدت احترامها في ربوع حي روض الفرج ومسارحه الفارغة من المحتوي. ولم يكن من المعقول أبدا أن الجمهور العريض الذي امتلأت آذانه بأغنيات من قبيل »يا حليله يا حليله أهو وحده جاني الليلة« و»إرخي الشارة اللي في ريحنا« و»بعد العشا يحلي الهزار والفرفشة« ، يمكن أن ينقلب في يوم وليلة مرددا وراء سيد درويش أغنيات جديدة كل الجدة من قبيل:»ضيعت مستقبل حياتي« و»زوروني كل سنة مرة« و»طلعت يا محلا نورها« و»قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك« و»اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم« بالإضافة إلي أغنيات علي لسان الشيالين والسقايين وبقية الطوائف المهنية الأخري. كان حال الأغنية في ذلك الزمان يشبه الأوضاع المتدنية للمجتمع حيث يسود الهزل ويتفشي الفن الرخيص. فهل تفجر فن سيد درويش في وجدان المصريين والعرب لأنه كما قال كامل الشناوي كان يريد أن يهز المشاعر ويلهب العواطف.. الرأي عندي أن سيد درويش أراد أن يعبر عن نفسه فحسب دون تفلسف.

تحضرني الآن ذكري لقاء تم بين سيد درويش ومصطفي بك رضا في معهد الموسيقي الشرقي وكان درويش حينذاك مجرد شاب جريء يقتحم عالم الغناء بألحان جريئة غزت أفئدة جميع طبقات الناس منطلقة من مسارح شارع عماد الدين التي فتحت ذراعيها لهذا الشاب الواعد الذي بعث الحياة في المسرح الغنائي. فاتصل به مصطفي بك رضا ورجاه أن يلتحق بالمعهد. وفيما كان سيد يسير مع زكريا أحمد وبديع خيري ويونس القاضي في شارع عماد الدين في ليلة رأس السنة 31 ديسمبر سنة 1922، قال سيد انه في طريقه إلي المعهد. فقال زكريا حصل إيه هناك؟ فقال سيد: سأنضم إلي المعهد قال زكريا: علي فكرة مصطفي بك رضا له رأي في أغانيك. يعني ايه؟! هكذا تساءل سيد في دهشة. فقال زكريا: أعضاء المعهد كلهم مش معترفين بموسيقاك ومصطفي بك أولهم!. فانطلق سيد إلي المعهد، اقتحم مكتب مصطفي بك رضا، سلم وجلس بين الجالسين دارت المناقشات حول تطور الموسيقي المصرية ومستقبلها قال مصطفي بك لسيد: إذا كان التجديد هو تقليد الموسيقي الغربية فما أسهلها!.. فرد سيد: إنني لا أقلد أحداً انني أعزف مشاعري أعبر عن الفعل بأنغام لها وحدة وجود وهدف. سأله مصطفي بك: هل سمعت شيئا من الموسيقي الغربية؟ قال سيد: سمعت. فانبري مصطفي بك يعزف علي آلة القانون لألحان أوبريت كارمن. فلما انتهي من عزفها قال لسيد: ما الفرق بين هذه الموسيقي وموسيقاك؟ قال سيد: هذه موسيقي نيريه مؤلف كارمن أما موسيقاي فهي موسيقي سيد درويش. فضحك مصطفي بك ساخرا. فما كان من سيد إلا أن ضرب بيده فنجان القهوة الساخن فوق المائدة احتجاجا علي السخرية، ثم نهض ومشي غاضبا وهم في أثره يسترضونه ويعتذرون. وقال لهم سيد درويش: أنتم تعيشون في الماضي وأنا أعيش عصري وأنظر إلي المستقبل.

هذه القضة التي رواها كامل الشناوي أيضا تدل دلالة قاطعة علي أن سيد درويش كان حريصا كل

الحرص علي تفرد موسيقاه وحرصه علي شرقيتها، ولم يكن يجب أن يكون مقلداً والسير في ركابه.

والواقع أن سيد درويش لم يكن يرفض الاستفادة من الموسيقي الغربية علي أي نحو، ولكنه كان ملتزما بالوجدان المصري الخالص، بأنغام معينة تدور في وجدانه، استقاها من معاناة الناس وآلامهم وأحلامهم وعواطفهم المصرية البواحة الفواحة. فلقد عمل في طفولته نقاشا ونجاراً وشيالاً، مارس معظم الحرف، اكتوي بنار العوز والتوق والشوق والهجران والحرمان وذل الفقر ومرارة الإستبداد. كان ملآناً بإيقاعات تلخص الواقع الفعلي، فكان وجدانه وليس عقله هو الموجه الأعظم له، ليحول هذه الإيقاعات الحياتية إلي موسيقي غنائية، موسيقي تنبع من حسه هو، تمثله هو، مفرداتها مفردات حياة الناس من حوله.

يقول معاصروه وأصدقاؤه القدامي إنه كان يحلم بالسفر إلي إيطاليا لدراسة الموسيقي دراسة منهجية علي أيدي اساتذتها الكبار. ويقولون أيضا إن حلمه في السفر لم يتحقق كل ما تحقق من حلم السفر أنه زار سوريا مع إحدي الفرق هي علي وجه التحديد فرقة سليم عطا الله وأخيه أمين وقد أفادته زيارته تلك لسوريا في احتكاكه بالفولكلور السوري. وقد واجه سيد درويش كثيرا من الصعاب القوية حتي كاد وفريسة لليأس من عدم اعتراف الناس به في بداية حياته. ولم يكن ذلك نتيجة نقص في مواهبه او ركاكة في موسيقاه، بل لأنه كان مطلوبا منه أن يغير ذوقاً سائداً راسخا، وأن يتحدي تقاليد فنية وأنغاما مألوفة، أن يقوم بثورة في عالم النغم. وقد نجح في إقامة هذه الثورة بالفعل لأنه قدم للناس احتياجات موسيقية كانت ضرورية وملحة. ويشهد التاريخ أن الخمس سنوات السابقة علي رحيله كانت من الخصوبة والحيوية علي قدر كبير جدا، حتي أن معظم الألحان التي صار لها شأن فيما بعد كانت كلها من نتاج تلك الفترة.

لم يكن فن سيد درويش منفصلا عن وطنيته بل كان تعبيرا عنها. جاءت ألحانه دفقات من الشعور تشحن وجدان المجتمع بحب عظيم لمصر وأرضها وسمائها وولدانها الأشقياء. التحمت موسيقاه بالهاجس الوطني والهم الوطني، فوصلت به إلي ذروة عالية في نشيده. »بلادي بلادي لك حبي وفؤادي«.

كان الشعب المصري في شهر سبتمبر 1923 يغلي غليانا فظيعا تكاد تحجبه تلك القشرة السطحية من اللامبالاة المتمثلة في الكباريهات والأغاني الخليعة المتفشية وكان الشعب في انتظار سعد زغلول وصحبه اللذين سافرا للتفاوض في قضية الوطن. وكان علي سيد درويش أن يعبر عن نبض الشعب المصري وعن حبه للبلاد وعن معني الوطن والوطنية.. فسافر إلي الإسكندرية مدينته الخالدة، إعتكف في بيت شقيقته في محرم بك وراح يستكتب يونس القاضي كلمات تصلح للغناء في استقبال الزعيم سعد زغلول، لكي يحولها سيد درويش إلي أنغام تحتشد بالحب والتلقائية والبساطة.. فتمخض الاعتكاف عن نشيد: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، الذي لم يشهد له حقل الأناشيد مثيلا في الدنيا كلها إلي اليوم.

وصبيحة يوم 15 سبتمبر كانت الجماهير قد حفظت النشيد عن ظهر قلب، ثم خرجوا لاستقبال الزعيم به.. وساعة الاحتفال ظهر سعد زغلول وسط هدير الجموع بالنشيد العظيم. ولم يكن سيد درويش حاضرا بينهم بجسده في ذلك اليوم المهيب. وقد انبهر الزعيم باللحن وما فيه من شعبية دافقة، فطلب رؤية ذلك الملحن الشاب ليحييه ويشكره، فقالوا له في أسف: لقد مات صبيحة اليوم!!

مات الجسد ولكن الفن لم يمت، بقي النشيد العظيم رمزا علي روح الاستقلال التي كانت تمور في صدور المصريين. وكانت عظمة النشيد إلي ذلك أنه حقق مبدأ الاستقلال موسيقياً.