رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

""مرزوق""... الحلقة الأخيرة

بوابة الوفد الإلكترونية

انتصبت العايقة فى وسط «الدقة» بجلباب ابيض طبعت عليه الأيدى خمسة أصابع بدم اليد. لكنها لم تكن أصابع بكر لصبى أو فتاة. وسط «دقة الزار» التى أقامتها العايقة بخرابة الأسيوطى ثبتت النسوة طاسة كبيرة من النحاس الأصفر تفوح منها أدخنة مخيفة وطقطقات لأشياء مبهمة تضعها السيدة التى بعين واحدة على النار. نسوة الحارة يطفن بشكل منتظم وبحركات جسدية مشحونة حول الضريح النحاسى مع خبطات الدف التى يقرعها زينهم وصليل الصاجات التى تطلق شخللتها جوا من البهجة يأتنس به الأسياد.

اشترط المرسال الذى أوفدته العايقة إلى سهام زوجة «مرزوق» أن يأتى «مرزوق» دقة الزار بجلباب أبيض بزعبوط ومطرز بصلبان مذهبة قادما من أول الحارة منتصبا كملك مخترقا الزقاق ومارا على نسوة الحارة وصبيتها. وأن يكون حليق الذقن والعانة والإبط. قال المرسال «إذا ارتدى «مرزوق» ما أمر به الأسياد فلن يبدو عليه غضب وسيسير فى الحارة كملك متمايع المشية. وانتهت شروط المرسال بشرط أخير أن تسير سهام وراءه حاملة طبقًا به ملح وورد وماء نقعت قيه أزهار البردقوش وجذور عشب القديس مارى جرجس ولا مضض من أن تطلق سهام زغرودة من آن لآخر».

مر «مرزوق» على النسوة اللاتى حوقلن فى سرهن وهن ترينه. كان كمن يتقدم إلى عرس وقد ألقيت تحت أقدامه الورود. رأته الحاجة أم على صفية متبخترا فى مشيته وتخفى ابتسامته آثار زراق دام لسنين تحت عينه. ممتطيا حذاءً جلديا من الشمواه. تشى مشيته بأن أميرة تتقدم عرسها.

وعند حافة الخرابة القديمة التى أجاد عبده الفراش إعدادها بالعروق الخشب والسجاجيد والبسط جرت العايقة بصدرها الذى تهدل وحطت بفمها على يد «مرزوق» كمن ترجو رجاءً: «الرضا يا ست البنات.. نورتى الحارة يا ستنا وتاج الدقة».

انتهى دور الوصيفة الزوجة عند تخوم الخرابة القديمة متفحصة النسوة اللاتى ينتظرن انتهاء العايقة وتدخل واحدة تلو الأخرى لتقدم الولاء للجنية التى تسكن زوجها.

نظر «مرزوق» إلى العايقة واستنطقته الجنية فقال بصوتها على لسانه: «تكرم صاحبة الدقة والضيافة».

انتشت العايقة برضا الجنية فأشارت بيده لزينهم الذى خبط الدف بحماس فتحركت معه سائر الفرقة منطلقة بلا تدرج فى صعود الإيقاع. دفعة واحدة من الصفع والاها زينهم على خد الدف الذى توهج وتوهجت معه صلصلة الصاجات فدب حماس غير مألوف طافت به العايقة لفات ولفات حول الضريح النحاسى بينما تخرج يد السيدة التى بعين واحدة وتطلق على الصينية الأشياء التى ارتفع صوت طقطقتها ثم غيرت من دورها وقبضت على ظهر العايقة كرجل يحتضن امرأة ويده على ثديها والعايقة تترنح وتدور.. بينما يقف «مرزوق» متمايلا كمن يستمع للحن أذاب وجدانه.

فتحنا المدرسة... مدرسة كويسة

حساب وهندسة..

والعشق مريسة.... على القلب له سلطان...

يبقى الأسير ولهان... هايم ورا غربته.... بين العباد حيران

تنساب الكلمات التى تنطلق من الدقة، وكلما جاء لفظ العشق تحرك «مرزوق» بيده مطوحا ذراعه يمينا ويسارا.

اقتربت صباح من بدن ابن آدم المسكون بالجن ويدها اليمنى قابضة على سكين تلمع حدته مع أضواء الدقة وباليسرى تقبض على الديك الأسود بعرفه المزركش تتمايل مع كلمات زينهم الطبال واليد تنسلت فتأتى برقبة الديك عند قدم «مرزوق» وكأنها تتلذذ بفعل إزهاق الروح، انفجر الدم الذى روى الجلباب الموشى بالصلبان المذهبة فكأنما روى الروح التى تسكن الجسد الآدمى.. فوجدت النسوة «مرزوق» يقتحم الدقة ويقف أمام الطاسة النحاسية التى ينطلق منها البخور وراح يتمايل دائرا مع النسوة اللاتى تشجعن فى حضرة الجنية ايرينا أن تطوف. صرخت العايقة صرخة مخترقة الحواجز والجوف «الوليد يا ستى.. الضنى يا إيرينا... البطن ملعونة بيسقط حملها».

واستدارت العايقة مواجهة «مرزوق» وأخذت تلاعب بطنها التى تلامس عورة ابن آدم ويدها هائمة مع براح زينهم الذى يواصل إشعال الدقة.

<>

«ابنك فى ضيقة يا أم «مرزوق» انهضى والحقيه»... عدلت هنومة من رأسها التى أسدلتها على المقام. متيقظة على الصوت الذى آتاها. هو نفس الصوت ونفس الصدى «الله يرحمك يا حاجة أم سيد». ثمة خبطة فى الصدر لا تأتيها إلا وقت الضيق والقلق. نهضت السيدة مفزوعة تعدل طرحتها فى عجل وهى تهرول ناحية الباب.

التقت بالحاجة أم على صفية أمام عتبة بنايتها جالسة «حوقلت المسنة ثم قالت ربنا الشافى يا هنومة».

جرى الجسد الآدمى ببوصلة الأم التى تستقر فى الحشا جهة خرابة الاسيوطى. آتاها الصوت الذى جاءها عند الضريح «ألا تحزنى....» وأكمل الصوت «بروح مالك الملك سأؤيدك فمعى ورد سيدى إبراهيم الدسوقى».

لطمت السيدة خدها لما رأت «مرزوق» يتبختر كسيدة والنسوة ملتفات حوله وجلبابه الأبيض مرفوع إلى الركبة. صرخت الأم «اتق الله يا عايقة».

التقت عين الأم بعين الجنية المسيحية

التى تلتبس الابن. صرخ «مرزوق» بصوت أنثوى ملكوم وقلب طاسة البخور النحاس ومزق ثيابه فبان جسد الرجل ملفوفا فى قميص نوم أبيض.

همهمت الأم متحسرة على مشهد الضنى الذى أضحى مستباحا لكل أهل الحارة. انحبست كلمات زينهم وتسمرت يده مبتعدا عن لفيف النسوة.

انزوت سيدات دقة الزار ونسوة حارتنا بعيدا بركن من الخرابة مخافة أن يمسهم الأذى بانفعال «إيرينا».

صرخ «مرزوق» صراخا متواليا بانت منه جملا مقطعة لكنها لا تؤدى إلى معنى كامل «الرحمة... الرحمة يا حاجة أم سيد.... بلاش تحرقينى... عشقاه يا حاجة»

لم تدر هنومة كيف واتتها الجرأة فوجدت نفسها تقتحم الدقة وتسحب وليدها الذى قرفص مذعورا يمرغ وجهه فى التراب. لاحت الحاجة أم سيد شفيقة كطيف لم يظهر إلا لهنومة. سحبت «مرزوق» من ياقة الجلباب الذى أضحى كالمقود وعلى قبضة الحاجة أم سيد شفيقة تحول «مرزوق» إلى طفل ينوح نواحا صامتا يبدو كزومة قط... تسحبه الحاجة صاحبة الهالة؛ يسير محاذيا هنومة التى تنعطف به مع تعرجات الزقاق والحارة.

<>

شق صوت الحاج خميس المحروق سكون الحارة منبها النيام لأداء الفريضة التى هى خير من الدنيا ومن فيها. صحت هنومة مفزوعة ودلقت فى جوفها الماء الذى تناولته اليد المعروقة من الكوز النحاس بجوار السرير.

- لك الملك والدوام يا صاحب العزة والملكوت.

قالتها هنومة وهى تنوى القيام تستعد للوضوء وأداء الفريضة. وبينما تهم بالوقوف كانت الحاجة أم سيد شفيقة تتوسط الغرفة التى يرقد فيها «مرزوق» رقدته الدائمة.

- اللهم صل على الحبيب وأهل بيته الأطهار... الله يرحم أمواتنا وأموات المسلمين.

خير يا ست الحارة يا ترى أنا فى حلم يا حاجة ولا أنا أصابنى الجنون وخفة العقل؟.

قالت الحاجة أم سيد التى صاحبها نور فى طلتها وهالة حول الطرحة البيضاء التى تنسدل على الكتف:

- صل على الحبيب يا هنومة واذكرى الذى بذكره تطمئن القلوب.

- لا مؤاخذة يا ست الحارة ريقى ناشف ومش قادرة أتلم على روحى... سامحينى يا ستنا.

تجهمت الروح التى اكتملت هيئتها وأردفت: ومن يسامح من يا هنومة... نحن غلابة والملك لصاحب الملكوت.

ردت هنومة: العفو يا ست الحاجة ده أنت الله يرحمك خيرك علينا... تؤمرينى يا ستنا.

قالت الروح التى نطقت بأمر ربها: جئت أستأذنك أصحب مرزوق معايا.. رحمة ربنا أحن عليه من قلبك يا هنومة.

خبطت السيدة التى بلا حول على صدرها وقالت: يا نهار يا حاجة.... ده عيل يا ولداه.. وعنده عيلتين يا ست الحارة.... سايقة عليك الست السيدة والحسين ترحلى دونه.

قالت الحاجة أم سيد: أنا عبد المأمور يا هنومة... والجدع اتبهدل وانبرى عوده يا أم «مرزوق».. ادع له بالرحمة يا هنومة!

<>

كان الصباح الذى أفزعتنى فيه الصرخة التى شقت كل الآذان. وهو اليوم الذى تزامن فيه الصراخ مع أجراس كنيسة السيدة العذراء التى تطل على منفذ زقاق سيدى نوح. تجمعت النسوة حول هنومة وقد قفزت من رقدتى على الشرفة أرقب جمع النسوة وهى تواسى الأم التى أطلقت زغرودتها فى الفراغ.... تجرى على لسانها جملة واحدة «خدى بالك منه يا حاجة أم سيد».