عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عن الثقافة والثورة.. في وداع ثروت عكاشة

جلال عارف
جلال عارف

غاب عن عالمنا الدكتور ثروت عكاشة، أعظم وزير للثقافة في تاريخ مصر، والمثقف الموسوعي الذي قدم للثقافة العربية ما لا تستطيع مؤسسة كاملة أن تقدمه من مؤلفات خالدة، والثائر العظيم الذي كان في الصف الأول من ثوار يوليو 52.

وكان المفترض أن يحتل مقعده في مجلس القيادة، لكنه ـ كالعادة ـ تحلى بأخلاق الفرسان وحل مشكلة كانت تواجه عبدالناصر، وتنازل عن مكانه لحسين الشافعي الذي أصبح بعد ذلك نائبا لرئيس الجمهورية.
في جنازته، حضر المثقفون وغاب الرسميون، ربما لأنهم لا يعرفون قيمته، وربما لأنهم بعيدون عن الثقافة وعالمها الساحر وإبداعها المجنون، وربما لأن ثروت عكاشة (بحضوره وغيابه) يفرض مقارنة بين عالمين، وبين ما حدث بعد 52 وما يحدث الآن، من زاوية تختلط فيها الثقافة بالسياسة بالثورة.
الملاحظة الأساسية هنا، أننا في يوليو 52 كنا أمام انقلاب عسكري احتضنه الشعب، وتحول بعد ذلك إلى ثورة حقيقية فجرت كل طاقات الإبداع في مختلف الميادين، فوجدنا أنفسنا أمام شعب يحارب ويتحرر، ويبني المصانع والمدارس، وينتج أفضل ما أنتجته مصر في العصر الحديث؛ في الأدب والمسرح والسينما والغناء والموسيقا، وينشر ذلك كله في أنحاء الوطن العربي، ليتجمع الشمل ويتوحد الوجدان ويتعانق المستقبل.
الآن.. نحن أمام ثورة شعبية غير مسبوقة، تسقط النظام ولكنها لا تستولي على الحكم، الذي تتولاه نفس القيادة العسكرية الموروثة من النظام السابق، والتي تدير الفترة الانتقالية بطريقة تمنح السلطة للتيارات السلفية الدينية. لتجد مصر نفسها في وضع غريب، تتهم فيه القوى الليبرالية واليسارية والقومية بالكفر والإلحاد. وبدلا من إطلاق طاقات الإبداع بفعل الثورة، نجد أنفسنا أمام تهديدات بمحاصرة الإبداع ووضع القيود على حرية التعبير، الأمر الذي دعا الأزهر الشريف لإصدار وثيقة تدافع عن الحريات في وجه هذه الهجمة، كما دعا المثقفين لمحاولة تنظيم أنفسهم في جبهة واسعة للدفاع عن الإبداع!.
لم تكن حالة النهضة الإبداعية في ظل ثورة يوليو من صنع فرد أو أفراد، ولا كانت حالة منفصلة عما يجري في المجتمع، بل كانت جزءا أصيلا من مشروع قومي للنهضة الشاملة. ولكن المهم هنا، هو أن القيادة كانت تعرف قيمة الثقافة في المعركة التي تخوضها. تأمل هنا كيف قضى جمال عبدالناصر أربع ساعات مع ثروت عكاشة، حين اختاره لوزارة الثقافة عام 1958 ولم يكن له سابق خبرة في العمل التنفيذي الثقافي، ولكنه كان يعرف إمكانياته، ويعرف أنه القادر على تنفيذ ما تريده الثورة من نهضة ثقافية. ورغم تردد ثروت عكاشة في قبول المنصب، فلم يكن أمامه في النهاية إلا قبول المهمة، مستندا إلى دعم القيادة السياسية له في وجه أي مصاعب سيصادفها..
وما أكثر ما صادف من مصاعب. إن المشروع الثقافي لثورة يوليو، كان حصيلة سنوات طويلة من كفاح المثقفين المصريين والعرب، ضمن حركة الحداثة والتنوير، لكن المهم هنا أن الضباط الشبان الذين قاموا بإسقاط النظام في 23 يوليو 52، كان الكثير منهم يحملون هذا الميراث الثقافي في تكوينهم. كانوا يقرؤون ويثقفون أنفسهم، ويتناقشون في الأفكار والثقافات المختلفة والفنون والموسيقا العالمية. ولهذا ما أن تولوا السلطة حتى سعوا لثورة ثقافية تحمل أفكار التنوير وثقافة العصر، وتذهب بها للقرى والنجوع، ولا تبقيها للنخبة فقط.
كان ذلك، بينما تولى الأمور بعد ثورة يناير العظيمة، عسكريون متفرغون لمهنتهم بعيدا عن الاهتمامات السياسية والثقافية، وتيارات سلفية تريد إعادة إنتاج الماضي، وتغلق أبواب الاجتهاد.. والإبداع، بل وتريد محاكمة مبدع عظيم مثل نجيب محفوظ بأثر رجعي، لتغتاله ميتا بعد أن فشلت محاولة اغتياله أثناء

حياته!.
المقارنة لا تستهدف الانحياز لعصر، بل تستهدف التأكيد على صعوبة المرحلة التي نمر بها. في ثورة يوليو امتلكنا القيادة الواعية والمشروع القومي للنهوض، وامتلكنا تراثا من الفكر النهضوي وثقافة للمقاومة، وجيلا جديدا ينتظر الفرصة لينطلق بإبداعه في كل المجالات، وشبابا انفتحت أمامه أبواب التعليم المجاني والثقافة المتاحة بأسعار مناسبة، فكانت هذه الحركة الثقافية المذهلة في انتشارها وفي قيمتها، والتي استطاعت أن تقهر قيود النظام السياسي الذي اعتمد فكرة التنظيم السياسي الواحد، وسلبيات الصدام مع أجنحة عديدة من اتجاهات سياسية مختلفة.
المشكلة الآن أشد تعقيدا بكثير، رغم مناخ الحرية الذي يسود منذ الثورة، فأجهزة الدولة الثقافية مشلولة، والمبدعون يتوقعون الأسوأ في ظل هجمة تستهدف الإبداع وتريد وضع القيود عليه، وفنان مثل عادل إمام صدر ضده حكم ابتدائي بالسجن عقابا له على أفلام قدمها منذ سنوات، مثل "الإرهابي"، والعديد غيره في طريقهم للمحاكم. ولا شيء من الإبداع الحقيقي منذ الثورة حتى الآن، لكن الأخطر هو كيف يخرج المثقفون والمبدعون من هذه الحالة؟ وهل سيصمدون في وجه الهجمة المتخلفة؟ وكم سيكون الثمن الذي سيدفعونه؟
يزداد الموقف تعقيدا حين يكون علينا أن نضع في الحساب، أننا نواجه حصيلة أكثر من ثلاثين عاماً من الإهمال المتعمد للثقافة الحقيقية. تراجعت السينما والمسرح والكتاب، وتحولت قصور الثقافة التي أنشأها ثروت عكاشة في الأقاليم، إلى مبان مهجورة، لتخلي الميدان لثقافة التخلف والعداء للعلم والعقل واغتيال المواهب الحقيقية. مشكلة أخرى علينا مواجهتها، وهي أن الجيل الجديد من الشباب الذين كانوا في طليعة الثورة، هم جيل "التويتر" و"الفيس بوك" استخدموهما بنجاح، وكانا وسيلتهم في التواصل والحشد والتداول السريع للمعلومات.
والمشكلة هنا أننا أمام "ثقافة بالعرض" إذا جاز التعبير، لها دورها وأهميتها، ولكنها لابد أن تكتمل بالثقافة في العمق التي لم تتح لهذه الأجيال، والتي لابد أن تحصل عليها حتى تستطيع أن تكون لها رؤيتها للتعامل مع القضايا الكبرى. المعركة صعبة والطريق مملوء بالمصاعب والعقبات. وقد قلت للشباب بعد الثورة، إن هذه الثورة سيكتمل لها النجاح حين يكون لها وزير للثقافة مثل ثروت عكاشة. ثم توالت الأحداث، وتذكرت ما قاله الشاعر والكاتب الراحل عبدالرحمن الخميسي: كيف أغني على قيثارتي وأنا مشغول بالدفاع عنها؟!. الثورة وحدها تجعلك تعرف كيف تدافع عن قيثارتك، وكيف تغني.
نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية