رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

صور.. "الأراجوز" شخصية أعادت عمر الشريف للسينما المصرية

بوابة الوفد الإلكترونية

أراجوز .. أراجوز .. إنما فنان

فنان .. أيوه .. إنما أراجوز

طفل صغير لا يتعدى عمره السبع سنوات، يمر فى منطقة الكيت كات فى شمال الجيزة على الجانب الغربى من نهر النيل، يسمع كل يوم صوتاً من قريب يتمنى أن يراه، لكن ملهى كبيرٌ التف حول الصوت منعه القرب، وعندما ذهب ناحية المدخل، لم يكن الدخول متاحاً له، ربما كان ممنوعًا دخول الأطفال دون ذويهم، أو أن مثلاً لم يكن الطفل يملك القروش الثلاثة ثمن التذكرة وقتها، فهو لم يُصرح يوماً بالسبب الذى جعله يتسلق الشجرة، لكن الأكيد أن فرج الله قريب، فعندما خرج الطفل للشارع مرة أخرى، حنّ الله عليه بشجرة عالية، ساعدته خفة الجسد الصغير ورغبة القلب الكبيرة على تسلقها، ليرى عرضاً فنياً كان يقدمه الفنان الراحل محمود شكوكو، وعندما سأل من حوله؛ "هى العروسة اللى فى إيده دى بتتكلم أزاى؟" جاءته الإجابة؛ "ده الأراجوز".

و يجوز يا زمان أنا كنت زمان

غاوي الأرجزة طياري .. يجوز

إنما لما الكيف بقى إدمان

باجي أبص لشيء واحد أرى .. جوز

عاش بعدها الطفل سبعين عاماً كاملة، لم يستطع يوماً الفكاك من أسر هذ العروسة، كما لم ينته وجود "شكوكو" فى حياته بعدها لسنوات كثيرة، فقد ظلَّ الطفل ومن بعده الصبى ثم المراهق ومن بعدهما الشاب، فى الجرى خلف محمود شكوكو وأراجوزه، من مسرح لآخر ومن حفل لثان ومن سرادق لسرادق، بعدها كان الشاب قد عرف ما الذى يريده من الحياة، وعلِم أنه لا حياة له سوى بصحبة الأراجوزات.

سعى "مصطفى" للقاء"شكوكو" حتى نجح مسعاه، والتقاه فى مقهى ''التجارة'' بشارع محمد علي، وطلب منه أن يصطحبه معه فى إحدى حفلاته كمساعد له، على أن يتولى تدريبه. أتصور أن الأمر كان ميسراً ومحمودًا من الفنان الكبير، لأن فى هذا الوقت كان قد بدأ أغلب الفنانين فى التنكر لأراجوزيتهم، متجهين نحو المسرح فى نظرة شبه دونية لفن الأراجوز.

وقتها سأله معلمه؛ هل أنت جاهز لتحمل الأمانة؟ توقفت أنفاس الشاب؛ ودار فى عقله السؤال قبل أن يجيب؛ أمانة إيه؟ لتتلقفه ضحكة عالية من الفنان محمود شكوكو وهو يقول له بصوته الفريد:" ماتخفش .. ماتخفش.. الأمانة دى حتة حديدة صغيرة هتحطها فى بؤقك وهى اللى هتخليك تتكلم بصوت الأراجوز".

أراجوز .. وشجيع .. والدنيا ميدان

فارس .. حارس .. واقف ديدبان

بذكاوتي  أخلي الخلا بستان

حكاية الشاب مصطفى عثمان الذى ولد فى القاهرة عام 1935، والذى لم يصرح يوماً  لأحد ما الذى دفعه لتغيير اسمه الحقيقى إلى الاسم الذى عُرف به طوال حياته وهو  "عم صابر المصرى"، استمرت مع عرائسه وأراجوزه طوال ثمانية عقود حافلة، ولم تنته إلا أول أمس، عندما رحل بعد صراع قصير مع المرض، وبعدما أصبح أشهر لاعب أراجوز فى مصر والعالمين العربى والأوروبى، وصار معروفاً باسم "عم صابر المصرى" شيخ الأراجوزية وصانع الحكايات.

كانت حياة عم صابر سلسلة من التعليم والتعلم، فبعد لقائه بالفنان"شكوكو" بدأ في التنقل بين موالد مصر؛ محاولاً السيطرة على مفاتيح هذا الفن على يد كبار لاعبي الأراجوز فى مصر، خاصة شارع محمد علي حيث أصبح لاعباً محترفاً للأراجوز، بصحبة المشاهير وقتها ومنهم؛ نعمة الله العجمي ومصطفى الأسمر وأحمد زوربة.

عندما تصفو النوايا للأهداف.. تكون مكافآت الحياة مدهشة. وظهور الدكتور نبيل بهجت قبل 20 عامًا، في حياة العم صابر، كانت مكافأة الحياة له، لم يكن يتوقع الرجل أنه سوف يأتى عليه يوم ويجوب العالم مع أراجوزه الصغير وهو الذى تجاوز الخمسين، ولا أن اسمه سوف يكتب فى الكتب التى سوف تترجم لأكثر من لغة، أو أن صوره سوف توضع على طاولة حكام منظمة"اليونسكو"، ليأخذ عقولهم، ويُدهشوا بفنه ويضعوه فناً عالمياً على خارطة فنون العالم.

وبالطبع أن هذه الحظة لم تكن فاصلة فى حياة"عم صابر" فقط، إنما امتدت لتصير لحظة تاريخية فى حياة عرائس "الأراجوز" ذاته وعشاقه ومتابعيه، لتتخطى الحفاظ على هذا الفن، وتمتد لخلق جيل جديد من المحبين والمتابعين له، فى هدف محددٍ وناجح من أجل رد الاعتبار لهذا الفن الذى يُعد أرهاصات المسرح الأولى.

مقهى"التجارة"؛ هذا المقهى فى شارع محمد على يأبى أن يخرج من حياة الأراجواز، فبعدما شهد مقابلة الفنان"شكوكو" وعم صابر المصرى من أكثر من نصف قرن. كان من نصيبه أيضاً لقاء عم صابر مع الدكتور نبيل بهجت أستاذ المسرح بجامعة حلوان، ومؤسس فرقة "ومضة" لفنون خيال الظل والأراجوز؛ لتبدأ بعدها رحلة تاريخية للفرقة التى تجولت في 22 دولة عربية وأوروبية؛ ومنها فرنسا وإيطاليا وأمريكا وتونس والإمارات والبحرين والكويت وغيرها.

ولتُقدم لعم صابر أثناء هذه الرحلة تكريمات عديدة كان منها؛ تكريم الهيئة العربية للمسرح عام 2015م، وتكريم الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة عام 2016م و غيرها كثير، لكننى أثق أن دوى ضحكات الأطفال وقهقهاتهم، ونظراتهم المتعلقة بعرائسه كانت أهم ما مُنح هذا الرجل من جوائز .

أراجوز أنا .. وأقدر أرى أرى إيه؟

أراضيكي بعقلي .. وبجنوني

والحكايات عن أصل ظهور الأراجوز فى مصر متعددة، فهناك منْ ردها إلي أصل فرعوني بمعني صانع الحكايات، وكان يسمى "إرجوس"، وهي تعني حرفيًّا "يصنع كلامًا معينًا"، ومنها اشتقت كلمة "أراجوز"، وهو اسم يعود إلى العصر العثماني، حيث كان يسمى وقتها "قراقوز" أو "الأرا أوز"، وتعني الـ"عين السوداء"، وسُمي بهذا الاسم ليعكس فكرة النظر إلى الحياة بمنظار أسود، وازدهر هذا الفن الساخر في أواخر العصر المملوكي ، بينما فسرها آخرون علي أساس أنها تحريف لاسم  الحاكم "قراقوش".

  لكن يعتبر ربط كلمة أراجوز بكلمة"بقره قوز" وهو اللفظ التركي الذي يعنى خيال الظل، وهو ما يعود بالاسم إلى أصل تركى، هو الأقل سنداً ضمن التفسيرات الأخرى، والدليل على ذلك يأتى من داخل تركيا ذاتها، من خلال الرحّالة التركي "أولياجيلي" الذى أشار فى كتابه "سياحت نامة مصر" إلى أن الفنانين فى القرن العاشر الهجري فى مصر كانوا يلاطفون المرضى بدمى خشبية، لاحظوا بعدها تحسن حالتهم الصحية والمزاجية.

 وأنا أرى أن هذا تفسير يتسق كثيراً مع ما جاء به أحد علماء الحملة الفرنسية فى وصف مفصل عن الأراجوز قال فيه:"وقد شاهدنا فى شوارع القاهرة عدة مرات رجالاً يلعِبون الدُّمى، ويلقى هذا العرض الصغير إقبالاً كبيراً، والمسرح الذي يستخدم لذلك بالغ الصغر، يستطيع شخص واحد أن يحمله بسهولة، ويقف الممثل فى المربع الخشبي الذي يمده بطريقة تمكّنه من رؤية المتفرجين من خلال فتحات صُنعت لهذا الغرض دون أن يراه أحد ويمرر عرائسه عن طريق فتحـات.

وأيما كانت التفسيرات، فإن ما يهمنا هنا هو أن هذا الأراجوز كان سبباً في ظهور مسرح العرائس الشعبي، والذي تأسس عام 1960 علي يد المونولوجيست والفنان المصري محمود شكوكو الذي كان يلقب بـ" شارلي شابلن العرب"، حين كان يرتدي جلبابه وطرطوره الشهير ليقدم عروضاً مصاحبة مع الأراجوز، بعد أن تفرغ تماما في

أواخر الأربعينيات ليصنع العرائس الخشبية التي قدّم بها تلك العروض، ومن هذه العروض السندباد البلدي، الكونت دي مونت شكوكو.

وتُصنع دمى الأراجوز من الخشب إما بواسطة الفنان المؤدي أو صانع محترف، وآخر هؤلاء الصنّاع كان "محمد الفران" الذي توفي منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فأيدي الدمية ورأسها التي ترسم عليها تعابير حادة ساخرة مصنوعة من الخشب، أما الجسم فهو عبارة عن فستان من القماش أحمر اللون مطرز باللون الأصفر، بالإضافة إلى طرطور من القماش من نفس اللون، ويتحكم لاعب الأراجوز في رأس الدمية بأصبع السبابة.

وفيما يخص صوت الأراجوز المميز، فكان لاعب الأراجوز قديمًا يستعين بوضع قطعة من "النحاس" في فمه، لكنها كانت قابلة للصدأ وتسبب له مشاكل صحية، لذلك استبدلها بقطعة من "الأستانلس"، تلك القطعة يطلق عليها أصحاب المهنة "الأمانة"، وهو ما يعد من المصطلحات الخاصة بهذا الفن، أو ما يطلق عليه الناس" السيم".

و شخصيات عائلة الأراجوز كثيرة ومتعددة جميعها جميلة ومبهجة حتى وإن كانت تتبع أسلوب الكوميديا السوداء، لكن أهمها يعتبر؛ ابن الأراجوز وزوجته "نفوسة" ، السمراء "بخيتة"، الفتوة حمودة، الأقرع وأخوه، العفريت، الطبيب، الشحات.

والفقرة التى يقدمها لاعب الأراجوز يطلق عليها "نمرة"، كما يطلق على المسرح الصغير الذى يظهر منه دُمى الأراجوز "بارفان"، وتزداد مهارة اللاعب كلما كان لديه عدد أكبر من النمر وهو ما دعا عم "صابـر المصري" عندما سُئل عن عدد النمر التى يمكن للاعب الأراجوز تقديمها، أن يقول:"بتاع الأراجوز اللى بجد ممكن يخش البارفان ميطلعش منه إلاّ تاني يوم"، كناية عن كثرة النمر، بينما أجاب  اللاعب"سمير عبدالعظيم" عن نفس السؤال قائلاً إنها 18 نمرة، وتعددت إجابات لاعبى الأراجوز عن هذا السؤال، وفى النهاية حددّ الدكتور نبيل بهجت فى كتابه "الأراجوز المصري"، والذي صدر باللغتين العربية والإنجليزية عن المجلس الأعلى للثقافة، عدد النمر التي ظلت باقية حتي الآن فى 19 نمرة، ويعتبر كتاب "نبيل" هو أول توثيق كامل لفن الأراجوز .

يا حضرة الأراجوز قولي

 نعم يا عمدة عاوز إيه

منين يروحوا المتولي

 إمدح نبينا وصلي عليه

طب اللهم صلي عليه

 جاءت كلمات الشاعر المصري الراحل "صلاح جاهين"، في مسرح عرائس "الليلة الكبيرة" بين الأراجوز وحضرة العمدة، والتي قام بتلحينها المبدع "سيد مكاوي"، من خلال مجموعة عرائس صممّها الفنان "ناجي شاكر"، والذي تخرج من كلية الفنون الجميلة بمشروع دبلوم عن العرائس. لتوضح لنا كيف يبدأ الأراجوز عرضه من خلال الصلاة على النبى، وكيف  ارتبطت عروض الأراجوز بشكل أساسي بالشارع وبالحوارات بين البشر، من خلال التعلم القائم على السؤال والإجابة حين، وعلى المواقف حيناً آخر، ومن ثم فإن دورة الحياة هى أحد أهم الروافد التي شكّلت موضوعات عروض الأراجوز، فالموضوعات المطروحة تشكل جزءاً من حياة الجمهور، والتى تدور حول الميلاد، والتعليم، والتجنيد، والزواج، والعمل، والموت، وهو ما يُعرف بدورة الحياة. وهو ما يعزز  قدرة الأراجوز على معالجة الأمور الحياتية اليومية التي تواجه البسطاء، بشكل فكاهي ساخر، يدفع جماهيره للضحك على همومهم، إلى جانب أنه كان يمزج الكثير من المعلومات وسط تلك السُخرية، ما جعله أحد أهم وسائل نقل المعرفة عبر العصور.

دا  أراجوز  المدارس  

دا  نوارة  المجالس

فارس  ولا  زيي  فارس

أواجه لا أوالس

وتعتبر السينما المصرية مدينة لشخصية الأراجوز بالشكر؛ لأنها كانت السبب فى عودة الفنان العالمى عمر الشريف للفيلم المصرى، من خلال فكرة عرضها عليه المخرج هانى لاشين فى نهاية الثمانينات، وتحمس لها عمر الشريف بعدما قرأ الورق، وقرر التصوير فوراً، ليبدأ فى حمل شخصية محمد جاد الكريم على ظهره مع برافانه وحكاياته وابنه "بهلول"، ويظل يدور بها فى قريته ليعمل أراجوزاً فيها، محاولاً توعية الناس ومحاربة الفساد من خلال بساطة مهنته وقوة تأثيرها على الناس.

 أماشخصية الأراجوز ذاتها فعليها أن تتوجه بالشكر كل يوم للدكتور نبيل بهجت الذى رد لها الاعتبار وخلدها.  فلا جدال أنه لولا مساعيه التى توجت بالنجاح منذ أقل من عام، كان سيظل هذا الفن فى طريقه إلى الاندثار، حتى وإن كان مازال موجودًا فى نجوع مصر وقراها ، وعلى الرغم من أنه يعتبر من أشهر الفنون  الشعبية فى مصر على الإطلاق، وأحد الأشكال المبكرة للمسرح، لكنه لم يتم الحفاظ عليه ولا على تاريخه وتاريخ أربابه، إلا بعدما تم الاعتراف به رسميًّا في نوفمبر 2018 من منظمة اليونسكو كأحد الفنون البشرية الهامة التى وضعته علي قوائم الصون العاجل من خلال الملف الذي أعده الدكتور نبيل بهجت كمبادرة فردية منه لتخليد هذا الفن، فتحية له ولكل منْ أحب هذا البلد وفعل من أجله.