رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المخرج عادل أنور يكشف أسرار الأيام الأخيرة فى حياة اسلطان الضحك

المخرج عادل أنور
المخرج عادل أنور

- عايز أروح.. ماتروحش!

- فين الفول.. فين الطعمية؟

- فين الفجل.. فين الكرات؟

- إن كان كده.. شرط البهوية؟

- يحيى العدس عشر مرات!

- عايز أروح.. ما تروحش!

.. وبعد 59 عاما و8 شهور و9 أيام بالتمام والكمال اروحب الفنان إسماعيل ياسين، وذهب إلى رحاب ربه، بعد رحلة حياة مؤلمة فى سنواتها الأولى. وضاحكة وجميلة فى النصف الثانى منها. ثم ما لبثت أن عادت إلى سيرتها الأولى، حيث الحزن أصبح عنوانا لحياة هذا الفنان البسيط فى شكله. والعميق فى قوله. والجميل فى ضحكه. الأيام مرت به، حتى وصلنا إلى أواخر الستينيات، لنجد الحزن تحول إلى ألم. والألم تحول إلى متاهة، وما بين الحزن والألم، والمتاهة، عاش - أو بمعنى أدق - اتاهب سلطان سلاطين الضحك فى أيامه الأخيرة، ليجاور الاكتئاب، ويصاحب االعتمةب بعدما استولى نظام الرئيس جمال عبدالناصر - بقصد أو بدون قصد - على ممتلكاته، وأمواله، تحت زعم تهربه من الضرائب!

هو الذى تبرع - مع صديقه الكاتب الراحل أبوالسعود الإبيارى - بمبلغ 2000 جنيه و750 مليماً، مساهمة منهما فى بناء البلد، واستكمال وسائل الدفاع عن الوطن المفدى، كما جاء فى خطاب الشكر الموجه لهما من رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 25 فبراير عام 1956 وحمل توقيع الرئيس جمال عبدالناصر، الذى جمع - فى ذلك الوقت - ما بين الوزارة والرئاسة. ورغم هذا التبرع وهذه الشهادة، تم الحجز على ممتلكاته!                         

●●●

«لقد فوجئت بمصلحة الضرائب تطالبنى بمبلغ 31 ألف جنيه - كان ذلك أواخر عام 66 - كقيمة متأخرات ضرائب من عام 1950. وعندما قرأت أسماء الأفلام التى زعموا أننى مثلتها - هكذا قال إسماعيل ياسين وهو «يفضفض» مع الكاتب الراحل رشاد رشدى - دهشت لأنها أسماء أفلام لم أمثلها أصلا! وكانت عناوين مؤقتة لأفلام أخرى سبق ودفعت عنها الضرائب. ورغم ذلك قاموا بالحجز على بيتى وسيارتى، حتى رصيدى فى البنك، حجزوا عليه، لدرجة أننى فى يوم عيد الفطر، كنت أسير فى شارع سليمان باشا - يقصد شارع طلعت حرب الآن - وجيبى ليس به «قرش صاغ» واحد! وكان حسابى فى البنك وقتها 300 ألف جنيه تقريبا. وبجرة قلم، أخذتهم مصلحة الضرائب، وتركت لى جنيهين فقط!».

●●●

فى هذه الحلقة من سلسلة «عشرة عمر» التقيت مع المخرج المسرحى عادل أنور، صديق المخرج الراحل «ياسين إسماعيل ياسين»، والذى تربى معه تحت سقف بيت واحد. من هنا كانت البداية للدخول إلى عالم آل ياسين (الأب والابن معا) فى محاول للكشف عن مناطق إنسانية مجهولة فى حياتهما التى تشبه - فى بعضها - السير الحياتية، الدراماتيكية المدهشة، حيث التنوع والاختلاف. والصعود والهبوط، والانتصار والانكسار! فى البداية قال: «ما أجملها عشرة.. وما أجملها حياة عشتها مع ابن خالتى وصديقى ياسين، حيث تربينا سويا، فى شقة الزمالك، بعد انفصال أبى عن أمي. يومها قررت خالتى السيدة «فوزية» أن نعيش معهم. وكان بابا إسماعيل - هكذا تعودت أناديه - لنا نعم الأب، الذى يمدنا بعطفه وحنانه وكرمه. وكان يقول: «أنتم وياسين أخوات، لا فرق عندى بينكما» وهذا يكشف لك العمق الإنسانى لهذا الرجل. ومعدنه الأصيل. وطيبة قلبه، وحبه للآخرين. ولم تكن هذه طبائعه معنا بحكم النسب، وصلة الرحم فقط؛ بل كان هذا بالنسبة له أسلوب حياة. وأنا لا أنسى ذات يوم، عند رأيت فى البيت كميات كبيرة من المانجو، يتم تعبئتها باهتمام بالغ، وشديد. يومها سألته عنها قال: هذه المانجو يحبها صديقى فريد الأطرش. وأنا جئت بها له. قلت: لكننى سمعتك تقول أنه سافر إلى لبنان.. أليس كذلك؟ رد وهو يرتدى ملابسه فى عجلة من أمره: نعم.. ولذلك سآخذها بعد ساعات، وأسافر بها إليه فى لبنان. ثم سكت قليلا.. وقال: فريد عشرة عمرى يا ابنى، وهو مريض هناك الآن، ونفسه ياكل المانجو.! وبالفعل حملها وطار إليه! قلت له: على ذكر أصدقاء العمر.. يعتقد البعض أنه ابتعد عن صديقه رياض القصبجى «الشهير بالشاويش عطية» ولم يساعده عندما جار عليه الزمن؟ رد: هذا غير صحيح بالمرة.. لسبب منطقى جدا، وهو أن الفنان رياض القصبجى رحل فى عام 1962 على ما أذكر. فى هذه الفترة كان بابا إسماعيل قد بدأ يواجه مشكلات كثيرة منها الذى طال فرقته المسرحية. ومنها الذى طال صحته ذاتها. وبالتالى حضوره على الساحة كان قليلا ومحدودا، وربما هذا جعله لم يستطع مساندته؟ لقد كان إنسانا بسيطا، وتعايش مع الفقر منذ صغره، وبالتالى لم تكن الأموال وجمعها همه الأول. وكان دائما يقول: «اللى زينا عايز إيه؟ غير أنه يعيش مستور»!

●●●

- ولد إسماعيل ياسين فى 15 سبتمبر عام 1912 م، وهو الابن الوحيد لصائغ ميسور الحال بمدينة السويس. وتوفيت والدته وهو لا يزال طفلاً.

- التحق بأحد الكتاتيب، ثم بالمدرسة الابتدائية حتى الصف الرابع. بعدها أفلس محل الصاغة الخاص بوالده نتيجة لسوء إنفاقه، ودخل والده السجن لتراكم الديون عليه.

- اضطر للعمل منادياً أمام محل لبيع الأقمشة. ثم هجر المنزل خوفاً من بطش زوجة أبيه.

●●●

- تزوج ثلاث مرات وأنجب ابنه الوحيد ياسين من زوجته الأخيرة السيدة فوزية.

السيدة «فوزية» زوجته صرحت لوسائل الإعلام بعد رحيله قائلة: (قبل رحيله قال لى أنا خايف عليكى من «ياسين» بعدى، لذلك سأكتب ما تبقى لدى باسمك) سألت المخرج عادل أنور عن هذا «الوصية» رد: لا شك أن الرجل كان يحب ابنه جدا. «وياسين» ولد وفى فمه ملعقة ذهب. وكان مثل أبيه يعطى بلا حدود، وكريما مع أصحابه بلا مقابل. وربما هذا الأسباب، هى التى جعلته يخاف على ما تبقى لدى الأسرة، فى أن ينفقه الابن بلا حساب. وكنت أسمعه يقول دائماً: «ياسين ده اللى طلعت به من الدنيا». وفرح جدا عندما التحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وحزن عندما تركها. وفرح عندما التحق بالجامعة الأمريكية وحزن عندما تركها.

وفى النهاية استقر به الحال فى معهد السينما حتى تخرج منه.

●●●

(لم أكن أملك فى طفولتى «لعبة» مثل الأطفال بسبب الفقر) كان هذا رد الفنان إسماعيل ياسين على سؤال طرحته عليه الراحلة «تحية كاريوكا» فى حوار لها معه سنة 1957 ونشر فى مجلة كان يطلق عليها مجلة «الفن». هذه الإجابة تدل على مرحلة الطفولة الصعبة التى مر بها. ومن طفولته المعذبة فى مدينة السويس إلى نجوميته التى تراجعت فى نهاية مشواره، والتى يتذكرها المخرج عادل أنور قائلا: تدهورت حالته بعد توقف فرقته المسرحية، فقرر السفر إلى لبنان بعد نكسة 67 - التى أحدثت شرخا بداخله- وظل يعمل فترة هناك، ثم فشل فى التأقلم والغياب عن أسرته بشكل خاص ومصر بشكل عام، فقررالعودة. فى القاهرة ساءت حالته أكثر بعدما رفضته السينما والمسرح معا، ولم يعد أمامه، إلا القراءة فى مكتبته الضخمة. بعد فترة - وحتى يستطيع تلبية احتياجات الأسرة - وافق مجبراً على تقديم مونولوجات قصيرة على مسارح وكباريهات شارع الهرم. وذات ليلة كنت أجلس بجواره فى السيارة فى طريقنا للمسرح، ووجدته يقول بحزن شديد «شايف يا عادل.. زى ما بدأت فقير.. رجعت للفقر وأيامه تانى» ثم دمعت عيناه!

●●●

ومن كباريهات شارع الهرم التى شهدت مأساة أيامه الفنية الأخيرة فى الفن، إلى مدينة الإسكندرية التى شهدت أيامه الأخيرة فى الحياة. المخرج عادل أنور يقول عنها: ذات يوم وجدته يطلب منى الاستعداد للسفر إلى الإسكندرية بمفردنا، لأنه كان حزينا من أشياء كثيرة، كان أهمها رحيل صديقه المخرج «فطين عبدالوهاب». وبالفعل سافرنا. وجلست معه آخر 10 أيام أو بالتحديد آخر 9 أيام، لأن اليوم الأخير عدنا للقاهرة. فى الإسكندرية ظل طيلة الأيام يتذكر سنين عمره ومحطات النجاح والفشل والنجومية والشهرة وتقلبات الزمن. وكأنه يراجع كشف حسابه قبل الرحيل. مرت الأيام وهو زاهد فى الكلام والطعام والشراب. وأصبح فى حالة حزن دائم. واكتئاب مستمر. بعد مرور 9 أيام أصر على العودة للقاهرة. وبالفعل عدنا منتصف ليل اليوم العاشر. دخل إلى حجرته وخرجت لقضاء بعض الأشياء. وكان بالبيت خالتى وياسين.

●●●

نحن الآن فى شقته بعمارة الزمالك بجوار مسجد السلطان أبو العلا. الساعة اقتربت من الواحدة صباحا. إضاءة الغرفة خافتة. هو يجلس على سريره صامتا. بصره الضعيف زاد ضعفا. مد يده يبحث عن علبة سجائره فلم يجدها، كانت السيدة زوجته فوزية، أبعدتها عنه قبل قليل. وعندما فشل فى الوصول إليها، عاد صامتا بلا أى حركة. جو الحجرة مقبض، النوافذ مغلقة. فى الأفق شىء ما يبدو أنه هو - وهو فقط - الذى يشعر به. الدقائق مرت بطيئة. دخل خلالها ابنه «ياسين» فوجده يشعر بصعوبة فى التنفس - وهو الذى كان يعانى من متاعب فى الرئة منذ سنوات- الصعوبة تحولت إلى ضيق. والضيق تحول إلى ألم فى الصدر، هنا أدرك أفراد الأسرة، أنه يتعرض لأزمة قلبية حادة.. هرع الابن إلى التليفون، أمسك به للاتصال بالطبيب المعالج، للأسف التليفون حرارته مقطوعة ولا يعمل!

●●●

الساعة الآن تخطت الواحدة وبضع دقائق من صباح اليوم التالى 24 مايو عام 1972. الابن انطلق مسرعا إلى الشارع يبحث عن أقرب نقطة نجدة للاتصال بسيارة الإسعاف. بعد دقائق نجحت المحاولة، وقامت غرفة عمليات نجدة القاهرة بالاتصال بالإسعاف. انطلقت السيارة مسرعة تسابق الزمن. الإسعاف توقفت أمام العمارة. نزل الطبيب مسرعا وصعد مهرولا. وصل إلى باب الشقة المفتوح على مصراعيه. دخل إلى حجرته. فى هذه اللحظة كان الفنان إسماعيل ياسين قد مدد جسده الذى أصابه الوهن على السرير. أمسك الطبيب بيده؛ فوجده قد لفظ أنفاسه الأخيرة. الآن مات سلطان سلاطين الضحك. مات.. الذى أضحكنا - وما زال - يضحكنا كثيرا. والذى أسعدنا - وما زال - يسعدنا كثيرا. مات.. وهو مهموم.. ومأزوم.. ومكتئب.. وحزين. أما نحن.. فمازلنا نضحك، ونضحك، ونضحك، كلما رأيناه على الشاشة!...

.. حال الدنيا..!