عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ذكريات محمد نجيب في الصعيد.. هنا منفى أول رئيس للجمهورية

محمد نجيب
محمد نجيب

المنافي، لابد أن تكون حصينة ومنعزلة وبعيدًا عن الأعين أو التشابك مع الحياة اليومية للسكان.. هذه الشروط وجدها مجلس قيادة ثورة 1952 ملائمة فى فيلا صغيرة على الطراز المعماري الإنجليزي، فى قناطر نجع حمادي، الواقعة بمركز أبوتشت حاليا إلى الشمال الشرقي من مدينة قنا، لاحتجاز الأب الروحي لحركة الضباط الأحرار بعد الانقلاب عليه.

كانت هذه الوحدة المعمارية الصغيرة التي تتخذ موقعًا حصينًا ومنعزلًا على بعد 200 متر جنوب الهويس الغربي بقناطر نجع حمادي، هي واحدة من المباني الإدارية والسكنية التي أقيمت كملحقات بمشروع قناطر نجع حمادي الذي أقيم لري نحو نصف مليون فدان بطول محافظات الوادي، ووضع حجر أسسها الملك فؤاد سنة 1928 ثم افتتحها سنة 1936.

وأسندت الحكومة المصرية الإنشاءات لشركة إنجليزية، يعرفها الباحث أيمن أبوالوفاء، أنها كانت متخصصة في إنتاج قطارات السكة الحديد وقاطرات البخار والمعابر وروافع الديزل، وهى  ذات الشركة المصنعة لبوابات محطة الكهرباء الكهرومائية الأولي بشلالات نياجرا وبوابات سد أسوان، وهذا ما يفسر النمط المعماري الإنجليزي لأغلب المباني الإدارية والسكنية بقناطر نجع حمادي القديمة. 

كان هذا الموقع هادئًا فى سنة 1954 على العكس من القاهرة، ففي صباح يوم 14 نوفمبر من نفس العام، خرج محمد نجيب رئيس الجمهورية من منزله بحي حلمية الزيتون متوجهًا إلى مكتبه بقصر عابدين، ولكنه لاحظ أن حرسه الخاص من ضباط الحرس الجمهوري والبوليس الحربي يعاملونه بفتور ولا يردون التحية العسكرية كما يجب، وكان «نجيب» يستشعر أنه لن يبقي بمنصبه طويلًا، وعند صوله للقصر حاصره 12 ضابطًا وجنديًا بأسلحة خفيفة، وأبلغه عبد الحكيم عامر بقرار إعفائه من منصبه، لتبدأ بعدها رحلة الإقامة الجبرية بحي المرج فى فيلا زينب الوكيل زوجة مصطفي النحاس أحد زعماء حزب الوفد المصري.

مر محمد نجيب بتجربة سيئة فى أول أيام تحديد إقامته يذكرها بمرارة فى مذكراته «كنت رئيسًا لمصر» التي نُشرت في سبتمبر 1984، ولكن الأيام التالية كانت أشد قسوة من سابقتها، يرويها أيضا..«قرروا سفرنا لنجع حمادي وسنقوم الليلة الساعة 6.30 بقطار مخصوص وركبنا عربة مخصوصة لا  قطارًا مخصوصًا».

أبعد الرئيس محمد نجيب من فيلا زينب الوكيل بعد عامين من إقامته وأسرته فيها  ليكون بعيدًا عن القاهرة فى سنة 1956 تزامنًا مع العدوان الثلاثي على مصر عقب تأميم قناة السويس، وكتدابير من الرئيس جمال عبد الناصر، خشية عودة «نجيب» إلى السلطة، وكانت نجع حمادي أول محطات إبعاد الرئيس الأسبق وحيدًا دون أسرته. 

رحلة القطار إلى الصعيد لم تكن مريحة لأول رئيس للجمهورية.. «دخلت ديوانًا أغلقوه من الخارج وأوقفوا على بابه جنود البوليس الحربي، ولم أستطع ليلتها أن أنام من شدة الزكام والصداع ومن قلة الطعام وكنت أري على رصيف كل محطة يمر عليها القطار عددًا كبيرًا من جنود البوليس الحربي يخلونها من الناس، وبعد 48 ساعة وصلت نجع حمادي.. وصلنا عند شروق الشمس تقريبا واتجهنا لاستراحة الري.. وكانت استراحة معقولة من دورين كانت إقامتي فيها بالدور الأعلى، وكل نصف ساعة يطمئنون على وجودي رغم صعوبة الهروب من المكان، وكنت لازالت مضربًا عن الطعام لإظهار سوء المعاملة».

لم يذكر الرئيس محمد نجيب فى مذكراته إنه أودع بقناطر نجع حمادي التى تبتعد نحو 14 كيلومتر عن أقرب محطة قطار وهي محطة سكك حديد مدينة نجع حمادي، ويكتفي بذكر أنه أودع كإقامة جبرية في استراحة الري بنجع حمادي، ولكنه يعطي فى مذكراته أوصافًا مطابقة للفيلا السالفة الذكر والمخصصة حاليا كاستراحة لوزير الري، بقناطر نجع حمادي القديمة، من المرجح أيضا أن القطار أوقف خصيصًا بمركز أبوتشت حاليا، حيث تمر به خطوط السكك الحديدية، ثم بالسيارة إلى محل الإقامة، وقد تكون خلفيات «نجيب» المولود في السودان، عن منطقة شمال قنا غير وافية لذلك لم يدون بالتفاصيل جغرافية محل إقامته فى نجع حمادي.

بعد وصول «الرئيس» لقناطر نجع حمادي استمر في إضرابه عن الطعام الذي بدأه قبل رحلة القطار احتجاجًا على سوء المعاملة وإبعاده عن القاهرة، وطال إضرابه ليصل لـ 44 ساعة وأنهاه بكوب من

عصير الليمون، ـ  حسب ما دّونه بمذكراته، التي يتابع فيها «بعد 48 ساعة قضيتها فى هذه الاستراحة فوجئت بحضور ضابطين من البوليس الحربي هما جمال القاضي ومحمد عبد الرحمن نصير.. جاءا لينقلاني لمكان آخر، لم أعرف إلى أين ولم يقولا لي، وعندما سألتهما كان الرد بشعًا اعتذر عن ذكره، فإذا بضابط منهما يدفع يده فى صدري ويلكزني فيه.. ودارت بي الدنيا.. وهانت على الحياة.. وهممت بالهجوم عليه لكن أيدي الجنود حالت بيني وبينه».

بعد هذه الواقعة عاد الرئيس محمد نجيب ليدخل في إضراب عن الطعام مجددًا وكان يقضي أيامه فى متابعة أخبار العدوان الثلاثي، أو إرسال رسائل يشكو فيها سوء المعاملة، و أخري للاطمئنان على أسرته، فى كتابه «كنت رئيسًا لمصر» يورد الرئيس أيامه فى إقامته الجبرية بنجع حمادي فى صورة يوميات مؤرخة تبدأ هذه اليوميات يوم 3 نوفمبر 1956 وتنتهي في 18 فى نفس الشهر، وأهمها ما دوّنه يوم 18 نوفمبر 1965..  «أشعر بأنني معرض للاعتداء بالقتل فى أي وقت فأنا محظور بمعني الكلمة وهكذا يعاملونني.. وفي هذا اليوم كتبت خطابًا إلى أحمد أنور قائد البوليس الحربي عن المتاعب هنا وعن عدم الاطمئنان على أولادي حتي الآن».

وكانت من بين رسائل نجيب من نجع حمادي  للقاهرة شيكين بنكيين يذكر أرقامها في مذكراته الأول بمبلغ 160 جنيه كنفقات لأسرته، وشيك لعبد الحكيم عامر مساهمة منه في المجهود الحربي!

لم تطول إقامة محمد نجيب فى قناطر نجع حمادي بعد يوم 18 نوفمبر يقول.. «وبعد أيام حضر حسين عرفه ضابط البوليس الحربي وقائد المباحث العسكرية الجنائية، يعتذر لي عما بدر من الضابطين ويبلغني أننا سننتقل إلى جهة أخري بعد تغيير الضابطين جمال القاضي و عبد الرحمن نصير».

ومن فيلا على الطراز الإنجليزي بقناطر نجع حمادي مكونة من طابقين الأول يضم حديقة وساحة واسعة ومطبخ ومكتب وغرفة استقبال والطابق الثاني يضم 5 غرف مخصصة للنوم، إلى غرفة ضيقة بمحافظة سوهاج.. يستمر التنكيل بالرئيس الأسبق.

يقول «انتقلنا إلى بيت محامي فى طما، عرفت أنه زوج شقيقة أحمد أنور وعديل حسين عرفه وبقيت هناك 59 يومًا كاملًا في حجرة رطبة لا تدخلها الشمس، وعند النوم، أنام ومعي حراسة مشددة داخل الحجرة.. حتي حرية النوم بمفردي فقدتها».

وبعد ذلك أعيد الرئيس محمد نجيب إلى مقر إقامته مرة أخري في فيلا زينب الوكيل وظل قيد الإقامة الجبرية حتي منحه الرئيس محمد أنور السادات حريته في سنة 1971 .

مات أول رئيسًا للجمهورية بعد إنهاء الملكية بعد رحلة معاناة دونها في مذكراته بمرارة بالغة، وبقيت الأماكن التي نفي إليها شاهدة على ما تعرض له.. هنا«فيلا نجيب» .