رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

السويس.. السكون الثائر


نعيق الغربان التى تطوف حول صورة أحد الشهداء.. يتخلل السكون المفروض من تلك الأجساد المتناثرة على حصيرة مزركشة بألوان قاتمة.. تحدق بريشها الأسود فى الأرض بحثاً عما يكف معدتها الجوع ثم تجول أعينها بين هؤلاء الذين عصوا حاجة أجسامهم من الطعام.. «إنه الإضراب عن الطعام حتى تنفذ مطالبنا أيتها الغربان».

الصمت هو محركهم فالحديث حمض مذاقه.. لحظات وتدرك أن كل شىء فى المدينة اكتسب الصمت مبانى شاهقة تؤكد نضارة طلائها حداثة عمرها وشوارع جافة حتى أسواقها هادئة.. جميعهم إختاروا السكون الثائر لتقضى الثورة أمراً كان ميؤسا.

أزيز السيارة التى تتأرجح سرعتها بغية الوصول فى أقرب وقت مع صوت عبد الحليم حافظ المنبعث من المذياع يجبرك على تذكر أبطال معارك القناة ثم أيام الهجرة بعد تدمير بيوت ظلت صامدة حتى خانها من قادوا المعركة فتهاوت منكسة جدرانها فى عام النكسة.

صور لى خاطرى طوال الطريق من القاهرة حتى أرض النضال «السويس» التى أصبحت مؤشر الثورة فى الأيام الأخيرة بدلاً من ميدان التحرير، أننى سألقى وجوهاً تاريخية تختلط ملامحها ببيوت المدينة التى حطتها الحروب مع العدو الاسرائيلى، وعزز خاطرى وحدة الجيش الثالث الميدانى التى يمر بها الوافدون بعد دخول البوابة الرئيسية للمحافظة بكيلوات محدودة.

بدون عناء تلحظ بمجرد دخول محيط المحافظة ذلك الغياب الأمنى التام الذى عاد بعد قرار اخلاء سبيل الضباط المتهمين بقتل الثوار، حتى عساكر المرور تركوا إشارتهم وحدها .. فقط تحرس دبابات وعربات الجيش المنشآت الحيوية لتعاود اللجان الشعبية عملها فى شوارع أحياء السويس الخمسة.

الوجوه المنهكة من ملامح يتسرب منها الشقاء والتى لاقيتها على عكس تخيلاتى طوال الطريق، وضعتنى مجبرة أمام حقيقة أن أهل السويس مازالوا أبطالاً ولكن ليسوا أبطال المعارك التى تمر عليها كتب التاريخ المدرسية مرور الكرام متعمدة تجاهل نضال مدينة دافعت عن وطن بأكمله.. إنهم تحولوا إلى أبطال للفقر الذى أدخلهم النظام السابق فى معتركه طوال ثلاثين عاماً وكأنه انتقام ممن حموا الوطن.

ليس مُجِهداً أن تعرف بمجرد وصولك السويس ذلك الفقر الذى تعج به المحافظة.. اختلط بذهنى ما جئت له فخصيصاً أتيت لتغطية اعتصام الأهالى وإضرابهم عن الطعام وليس لمناقشة ماهية أسباب تردى الأوضاع المعيشية فى المحافظة إلا أننى اكتشفت بعد الحديث مع بعض الشباب «السوايسة» أن ما لحظته من فقر هو محور ثورة السويس وما أوصل أهلها لما هم فيه الآن.

المبانى العالية لا تغرك فهى ليست لمواطنى المحافظة الأصليين ولكن يقطنها هؤلاء «الغرباء» كما يسمونهم السوايسة الذين أتوا من المحافظات المجاورة للعمل فى شركات البترول والقطاعات الاستثمارية الأخرى.

بعد جولة سريعة فى شوارع المدينة كان على الوصول إلى أماكن الاعتصام حيث أدركت أن الغرق فى تحليل «ديموغرافيا السويس» أو خصائص السكان سيحتاج إلى زيارة أخرى نظرا للطبيعة المعقدة لها.

ثلاثة أماكن استقر اعتصام أهالى السويس بها وهى ميدان الأربعين وأمام مبنى المحافظة وأمام مبنى الإرشاد البحرى فى بورتوفيق.

الإضراب هو الحل

حصيرة مزركشة بألون قاتمة اجتمعوا فوقها ، السواد الذى يحتل تحت أعينهم واللحى غير المهذبة تؤكد الإرهاق الذى لاقوه خلال الأيام الماضية.. جميعهم صامتون فقط الغربان بنعيقها تتخلل السكون لتبث تشاؤم يصده المعتصمون بصمودهم وحماستهم التى يكتسبونها من تبادل النظرات.. حتماً سيفعلونها وتحقق مطالبهم كما نجحوا فى جعل مَن صممت له أغنية «اخترناه اخترناه» ملقياً على سرير على بعد 453 كيلومتراً منهم يتمنى الموت.

ستة وعشرون شابا وفتاة أعلنوا إضرابهم عن الطعام أمام مبنى محافظة السويس بعد ما شعروا به من تباطؤ تكشف لهم مع الوقت أنه تواطؤ للالتفاف حول تنفيذ مطالبهم.

اعتصامهم بدأ مع الآلاف يوم الثلاثاء الماضى بحى الأربعين بعد إخلاء سبيل المتهمين بقتل الثوار بكفالة لم تتعد العشرة آلاف جنيه ولكن تصعيدهم المتمثل فى الإضراب عن الطعام أمام المحافظة لم يصدر لهذا السبب بل تولد نتيجة صمت المجلس العسكرى عقب جمعة الإصرار تجاه مطالبهم.

عشرة بدأوا الإضراب أمام المحافظة تلاهم خمسة عشر ثم بعد ذلك توالت حالات الاغماء «لن نتخلى عن مطالبنا» بحماسة يتحدث أيمن نصار ذلك الشاب الذى عرف نفسه لى باعتباره المتحدث باسم الشباب المضرب عن الطعام.

«الضباط بمبنى مديرية الأمن المجاور لمقر المحافظة ألقوا علينا زجاجات مشتعلة حينما علموا بنية اعتصامنا إلى جانب الألفاظ البذيئة والإشارات المخلة بالأداب مما دعانا إلى الرد عليهم بتكسير ثلاث عربات يملكها ضباط شرطة منها واحدة عثرنا بداخلها على مواد مخدرة قمنا بتسليمها إلى قوات الجيش»هكذا يصف نصار ليلتهم الأولى أمام مبنى المحافظة.

عزيمة المعتصمين تزداد كلما جاءتهم الأنباء عن إعلان المحافظات الأخرى تضامنها مع ثوار السويس والتهديد بالبدء فى اضراب عن الطعام مماثل فى حال عدم تنفيذ مطالبهم.

المحاكمات السريعة والعلنية لقتلة الثوار إلى جانب إقالة جميع رؤساء أحياء السويس وسكرتير عام المحافظ وباقى معاونيه من فلول النظام السابق هى المطالب الرئيسية للمضربين عن الطعام» النظام لم يسقط مع استمرار فلوله فى مناصبهم» يبرر نصار ثم ينهى حديثه بشعارهم « ينجيب حقهم يانموت زيهم».

أجواء اعتصامهم تختلف كثيراً إن لم يكن تماماً عن اعتصام التحرير فصخب الميدان يتلاشى هنا كذلك الأعداد لا تقارن بمن فى العاصمة « اللمة برضو بتفرق فى تشجيع المعتصمين» توضح هاجر محمد إحدى المضربات عن الطعام والتى تؤكد فخر أهالها بما تفعله.

يقسمون أنفسهم بين الحراسة والنوم وتكون أغانى التراث السويسى المرتبطة بآلة السمسمية هى المتنفس للمجموعة الحارسة لتبديد الوقت فى تلك الليالى شديدة الحرارة.

وخلال تحدثى معهم جاء شاب مندفعاً ناحيتنا نادوه بأحمد بعد ذلك كان ممسكاً بتليفونه المحمول، من ردوده على محدثه فهمنا أن هناك مشكلة ما تحدث لمعتصمين على طريق العين السخنة قد بدأ توهم اعتصام ..التعقل كان سيد الموقف فكان عليهم التأكد من صحة خبر زميلهم الذى أكد لهم بانفعال واضح ان محدثه على الهاتف اخبره بتعرض معتصمى السخنة للضرب من جانب قوات الجيش.

استقروا على تطبيق الديمقراطية ولو بصورة مصغرة فأجروا تصويتاً على الموافقة أو الرفض لفكرة التضامن مع الآخرين.. وكان قرارهم الناتج عن التصويت هو بقاؤهم أمام المحافظة.

ميدان الأربعين.. ساحة الثوار

وكأنه صمم خصيصاً لثورة 25 يناير فجوانبه الأربعة يحدها رموز لها دلالاتها.. المسجد المطلية حوائطه بالبياض والذى كان ملجأ للثوار من رصاص الداخلية ، وقسم شرطة الأربعين الذى غطت جدرانه السواد بعد أن حرقه الثوار انتقاماً من القناصة الذين حولوا سطحه لساتر لقتل المتظاهرين بسهولة، ومقر المطافئ الذى أيضاً حرق إلا أن الأهالى عادوا ورمموه بعد الثورة .

تتوسط ميدان الأربعين صورة شاب تفضح ابتسامته المكتومة براءته كتب أسفلها الشهيد مصطفى رجب محمود استشهد يوم 25يناير، ومن ذلك التوصيف الأخير يبرز سبب اختيار السوايسة لذلك المكان

ليعلنوا اعتصامهم به فأول شهيد للثورة سقط هنا ومن هذا المكان سيأخذون ثأره أو يلحقون به.

الحر شديد لكن تتخلله نسمات تؤرجح أقمشة خيام المعتصمين المترامية فى أنحاء الميدان.. حلقات يتجمع فيها الأهالى لمناقشة قضيتهم، كل يسرد وجهة نظره ليعقب عليها البعض فيتبعها اعتراض أو تأييد من آخرين.

التفت جميع الحلقات حولى بمجرد معرفة هويتى الصحفية.. خلت عاصفة من الحديث عن دماء الشهداء ستدفعنى حتماً للبكاء إلا ما ظننته كان الخطأ لأعتب للمرة الثانية على عبد الحليم وأزيز السيارة والكتب المدرسية ، جميعها تحدثت عن شىء آخر غير تلك المطالب المعلقة خلفهما على لافتة كبيرة ، فبعيداً عن المحاكمات السريعة لقتلة الثوار وتطهير وزارة الداخلية وإقالة المحامى العام بالسويس والرعاية الشاملة للمصابين وأهالى الشهداء دار حديثهم معى حول البطالة!

عدد سنواتهم مختلف إلا أن اشتراكهم فى صفة «بدون عمل» والمقرة ببطاقة الرقم القومى يجعل ملامحهم تتشابه فتتساوى أعمارهم رغم الفارق الذى قد يصل لعشرين عاماً بينهم..

مقهى «البرلمان» هو عنوان العاطلين فى المدينة الصامتة التى حتى الآن لا أعلم كيف تثور وسط كل هذا السكون ، لا أحد من شباب السويس يجهل ذلك المقهى فمعظمهم يقضى هناك أغلب وقته لا لتشريع قوانين الدولة ولكن لتناول الشاى الممزوج بانتقاد لأحوال البلاد أيام مبارك ثم اتهامات للمجلس العسكرى الآن .

«الأغراب احتلوا البلد» هكذا فسر على محمد سبب عدم حصوله على فرصة عمل رغم بلوغه الأربعين عاماً وحصوله على شهادات خبرة من كبرى الشركات التى كان يعمل بها فى السعودية قبل أن يعود إلى بلدته السويس، فأغلب العاملين بميناء السويس وشركات البترول وغيرها بالقطاع الاستثمارى تعتمد على عمال من المحافظات الأخرى خاصة المنوفية والشرقية والإسكندرية ويرجع «على» ذلك إلى كون مدراء تلك الشركات من خارج المحافظة وبالتالى يجلبون العمالة التى تحتاجها شركاتهم من محافظاتهم ليظل السوايسة جالسين على «البرلمان» إلى أن قامت الثورة فانتقلوا إلى ميادين الاعتصام.

فهمى الدسوقى الذى نجح الجزء الأبيض من رأسه فى احتلال المساحة السوداء بعد تجاوزه السابعة والستين عاما، لا يمتلك من الحياة بعد إحالته لمعاش مبكر من الشركة التى كان يعمل بها سوى ستة أبناء لم يجدوا جميعهم عملا وبالتالى فهم جالسون على «البرلمان» مثل الباقين.

الدسوقى معتصم لدماء الشهداء ولشباب أبنائه الذى يضيع كل يوم بسبب عدم إيجاد فرصة عمل.

بعد حديثهم تبدد ذلك الاستفهام الذى داهمنى بمجرد دخولى السويس ، فأكشاك كثيرة جداً تبيع كل شىء وربما لا شىء مبعثرة فى كل شوارع المدينة «الأكشاك أعدادها زادت بصورة كبيرة جداً بعد الثورة « هكذا يصف شريف السمان أحد أبناء المحافظة الحال بعد الثورة «تحت اسم الشهيد وابن اخت الشهيد وابن عمة الشهيد أصبح الجميع يفتح أكشاك» قد يبدو الأمر مضحكاً إلا أنه يمثل مأساة محافظة كاملة.

غلق قناة السويس

الإشاعات كثيرة والمعتصمون كُثر ولكن تظل شائعة التهديد بغلق الملاحة بقناة السويس هى الأخطر ، معظم المتظاهرين يؤكدون أنها تولدت نتيجة الضغط العصبى على بعضهم فما يحدث من تأجيل محاكمات وبقاء بقايا النظام إلى جانب إهمال أهالى الشهداء يجعل أى كلام يقال له مبرره ولكن لايمكن أخذه على محمل الجد ، موقف السوايسة من رفض غلق القناة يرجع إلى إدراكهم التام للمواثيق الدولية التى تقضى بالتدخل الأجنبى لإعادة الملاحة فى حال توقفها وهو ما يرفضه أهل السويس الذين يأكدون « مهما وصل الأمر لن نتعرض للقناة» وهنا يبرز التساؤل هل يستطيع أهل السويس حقاً تعطيل الملاحة؟ وبطرحه على عدد من أبناء المحافظة أكدوا أن السيطرة فقط على مبنى الإرشاد البحرى تعنى السيطرة التامة على حركة الملاحة فى القناة.

شائعة أخرى ظهرت نتيجة الغموض حول مكان تواجد الضباط الذين تم إخلاء سبيلهم فتأكيدات شعبية ليس لها أى دليل مادى على وجودهم بمقر مركز تدريب قوات الأمن الكائن شارع ناصر ورغم كل هذا الكره الذى يحمله الاهالى لقتلة الثوار فإنهم لم يحاولوا التعرض لأى من أهالى الضباط ويلخص احد المعتصمين الأمر فى «ثأرنا مع الضباط وسنأخذه منهم فقط وليس من أهلهم».

السويس تجسد ما يعرف فى علم اللغة بالسهل الممتنع فهى هادئة تبدو مفهومة وبسيطة للوهلة الأولى ولا تتصور للحظة ما عند دخولها أنها مدينة مازالت تدفع حتى الآن ثمن حرية المصريين، لكن حين توديعك لها تحمل بشحنة ثورية تجبرك على الانحناء لذلك العلم الأزرق الذى يتوسطه ترس.