رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

أحمد غزالى: «السادات» منع أبى من دخول السويس.. وكان يرسل لها السلام كل صباح

أحمد غزالى
أحمد غزالى

أرسلنا إلى الصعيد.. وبقى وحيدًا يحرس المدينة من الصهاينة

رفض الزواج فى أوائل عمره وقال: «أنا تزوجت مصر»

أسس فرقة «أولاد الأرض» ليشعل حماسة المواطنين ضد العدو

رفض نقله للمستشفى العسكرى.. حتى لا ينام على سرير جندى مصاب

 

 

- «غنى يا سمسمية.

- غنى لكل عامل.

- فى الريف وفى المعامل.

- بيأدى الواجب كامل.

- واديله وردة هدية».

***

على أنغام السمسمية، فى حى الأربعين بمدينة السويس عام 1948، يغنى سكان الحى، ويرقص أهل الشارع، وتزغرد أم العروس، أما العروس نفسها، فهى فى حالة قلق، وترقب، وخوف. العريس لم يصل بعد!

أهل العريس فرحون، ويتبادلون التهانى، ويرقصون بـ«العصا» فى الشارع، بينهم رجل اشتعل رأسه شيباً، وظهره على مشارف الانحناء، لكنه بصحته وقوته وفى يده عصا يتكئ عليها، ويواصل -وهى فى يده- تحركه بين المعازيم وعينه على مدخل الشارع فى انتظار وصول العريس، الذى يرفض الزواج من الأصل. الحاج «أحمد» والد العريس أرسل أبناء عمومته حتى يأتى بـ«غزالى» للعروس، ولتكتمل الفرحة. وصلوا إلى الساحة الشعبية بجوار مبنى المحافظة، أبناء العم والأصدقاء وأبناء الجيران، قالوا له: فرحك يا غزالى! وهو يبتسم، ويقول: «اذهبوا أنتم.. وأنا سألحق بكم»!

بعد فترة عادوا وقالوا: «مش فى دماغه» الزواج والفرح والعروس، فهو ما زال يواصل تدريبه على رياضة المصارعة هناك.

***

اشتاط الأب غضباً، ذهب بنفسه إليه.. لمحه الابن من بعيد.. ترك الحلبة ونزل إليه.. الأب: «يا أحمد العروس فى انتظارك». يرد: يا أبى قلت: لا أريد الزواج!

لماذا يا ابنى؟ يسكت قليلًا ويركن بظهره على حائط خلفه، ويقول: كيف أتزوج، والإنجليز يأكلون طعامنا، ويسرقون أحلامنا، ويمرون بأحذيتهم الثقيلة الكئيبة على فرحتنا كل صباح، ويقهرون بداخلنا الحرية كل مساء! يهز الأب رأسه -فهو قبل ابنه رجل تربى على شعارات ومكتسبات ثورة 1919- ويرد: نعم.. أشعر بإحساسك وبألمك وبوجعك، لكن ما علاقة الزواج بالاحتلال؟ رد الشاب «غزالى» -الشهير بعد ذلك بـ«الكابتن»- وملامحه تدل على حالة انكسار بداخله، وحبات العرق تظهر على جبهته، وفى عينيه دمعة حائرة يقاومها حتى لا تسقط أمام أبيه، ثم يقول: يا أبى.. كيف أنظر لعيون زوجتى كل يوم، وأنا أرضى محتلة؟ كيف أنجب أطفالاً قد يحرمهم المحتل من أن يذهبوا كل صباح إلى طابور المدرسة؟ يصمت الأب قليلًا، ثم يقول: وأنا أقول لك من أجل أن نطرد العدو المحتل، يجب أن تستمر الحياة، ولكى تستمر الحياة، يجب أن تتزوج ونفرح معك، وغدًا سيأتى الفرح الكبير، يوم أن نطرد الإنجليز من بلادنا.

***

طال بينهما الحوار، واشتدت المناقشة، وفى لحظة أدرك الأب حالة ابنه، فقرر أن يتركه، ويعود هو للفرح، ويعقد القران كوكيل عنه، ليضعه أمام الأمر الواقع.. وقد كان!

طار الخبر لـ«غزالى» فى مكانه، فلم يجد أمامه -فى ظل نظرية الأمر الواقع- إلا أن يترك حلبة الرياضة، ويعود إلى حلبة «الفرح»! ومن لحظة ظهوره على مدخل الشارع، ارتفعت الفرحة، ولملمت العروس فستانها، وصعدت تجلس، وأخذت مكانها فى «الكوشة»، وهو رويدًا رويدًا بدأ يستوعب الموقف، وبدأت أنغام السمسمية التى يحبها تتسرب إلى أذنه وقلبه وهو على مدخل الشارع. وبصعوبة مر من الزحام، وصعد وجلس بجوارها، والأهل والجيران والأصدقاء يغنون له ومعه حتى يهدأ، ولا يترك مكانه.. وبجواره بدأت العروس بصوت منخفض -هى الأخرى- تنظر له.. وتغنى وراء نغمات السمسمية مع «المعازيم»:

- غنى يا سمسمية.

- غنى ودقى الجلاجل.

- مطرح ضرب القنابل.

- راح تطرح السنابل.

- غنى يا سمسمية.

«مبروك.. الكابتن غزالى تزوج»!

 ***

فى سلسلة حوارات «أبى الذى لا يعرفه أحد» غادرت القاهرة، واتجهت إلى محافظة السويس، بلد الغريب، كما يطلق عليها، هناك أصل المقاومة، هناك مصنع من مصانع الوطنية، هناك كان يوجد رجل حفر اسمه مع نبلاء هذا الوطن، الذين عاشوا من أجل مجده وعزته.. فى السويس كان يوجد «الكابتن غزالى»، وما زال صوته واسمه وعشقه للوطن مرسوماً على حيطان المدينة، وفى عيون أطفالهم. يحفظ أشعاره وأغانيه وكلماته كل أهل السويس، وصلت فى الموعد المتفق عليه بينى وبين أكبر أبنائه «أحمد»، وجدته يجلس فى مكان أبيه، مكتبة فى شارع «؟؟ » الكبار والصغار يترددون عليها، يتعلمون ويسمعون ويرسمون بأحلامهم وكلماتهم لحناً جديداً من ألحان المقاومة، فربما -فى يوم ما- يخرج من بينهم بطل جديد يصنع ويشارك فى تأسيس فرق تقاوم العدو. نعم.. مات الكابتن غزالى.. لكن العدو لم يمت. العدو الذى ظل يحاربه لسنوات طويلة حتى يفارق ديارنا، ولا يلوث هواءنا، ولا يشرب قطرة ماء من نهرنا.. هو حاول.. وجاهد، وكافح وكتب وغنى ذات يوم:

- فات الكتير يا بلدنا.

- مش باقى إلا القليل.

- بينا يالا بينا.

- نحرر أراضينا.

- وعضم أخواتنا.

- نلمه ونسنه.

- ونعمل منه مدافع.

- وندافع.. ونجيب النصر.. هدية لمصر.

 ***

بابتسامة استقبلنى ابنه أحمد، جلست بين الكتب، على الحوائط رسوم وصور كلها تعبر عن مصر. بعد دقائق جاء عامل المقهى المجاور بفنجان القهوة والماء المثلج وقدمهما لى، دون أن أطلب، ودون أن أعرف أنه عرفنى بالشكل -كما قال ابنه- وبالتالى ضيوف الكابتن غزالى -حتى بعد رحيله- هم ضيوف أهل السويس جميعاً. شكرته وتناولت فنجان القهوة، وعينى على صورته المعلقة أمامى.. وابنه أدار «كاسيت قديم» بجوارنا على أنغام السمسمية، وقال: نعم.. رحل أبى.. لكن مكتبه ومكتبته ومشروعه الذى عاش من أجله، ما زال قائماً، ونحن سنكمل مسيرته، هو كان يعمل على زرع بذرة الوطنية وحب الوطن والحفاظ على تراب البلد فى عقول وقلوب الأطفال والنشء والشباب، كان هنا فى هذا المكان يأتى له الجميع يستمعون له، ويستمع هو لهم، يشجع من لديه موهبة، ويقدم له ديوان الشعر، والكتاب والرواية، وأى نشاط. يقف بجواره، ويدعمه، ويسانده، حتى تنمو الموهبة داخل أى شاب يأتى ويعرض موهبته عليه، وكان دائمًا يوقظ الحس الوطنى بداخلهم، ويحفز حب الوطن فى عقولهم. وظل هكذا حتى أجبره المرض على ملازمة الفراش فى البيت، وعندما كانت تتحسن حالته الصحية، كان يغادر سريره ويجلس فى الصالون، وحوله الزوار من كل الأعمار، يتحدث معهم عن مصر، لدرجة أننا بدأنا نشعر بأنه يتحسن صحياً، كلما جاءت سيرة مصر فى الكلام.

 ***

اسمه: محمد أحمد غزالى، ولد فى صعيد مصر فى 10 نوفمبر 1928 ورحلت الأسرة إلى شمال مصر، واستقرت فى محافظة السويس. درس تعليمه الأولى فى مدارس المدينة. جاء للقاهرة، والتحق بمعهد «ليوناردو دافنشى» حيث كان يحب الرسم والتصوير، رفض قرار القيادة السياسية بالتهجير لظروف حرب الاستنزاف، وانخرط فى المقاومة الشعبية، وكوّن فرقة «أولاد الأرض»، التى كانت تلهب حماس المقاومة والجماهير، لف بها على كل محافظات مصر التى جاء إليها السوايسة مهجّرين، له من الأبناء أربعة، هم: (أحمد - طه - محيى - ناصر).

 ***

عدت للابن، وسألته عن نشأة أبيه وبداية التكوين، قال: نحن أسرة جاءت من الصعيد، وبالتحديد من مدينة «أبنود» بمحافظة قنا جنوب مصر، أبوه جاء إلى مدينة السويس، كعادة أبناء الصعيد، الذين هاجروا طلبًا للرزق، وكعادتها مدينة السويس استقبلته مثل غيره من الغرباء، لذلك يطلق عليها «بلد الغريب»، عاش جدى هنا ورزقه الله بأولاده، وكان أبى من الصغر مهووساً بالعمل العام، وكان وقتها هذا العمل ينصب فى الكفاح ضد الإنجليز، تعلم أبى فى سنواته الأولى، واتجه إلى ممارسة الرياضة لبناء جسده، ونظرًا لعدم وجود أى عمل فى المدينة، كان يعمل مثل غيره فى معسكرات الإنجليز. كان يعمل خطاطاً ورساماً، وهذا العمل كان يؤديه من أجل «لقمة العيش» كما يقال، لكن كان يرجع للبيت وهو حزين وغاضب، وسبب

هذا الحزن والغضب، كيف يعمل فى معسكرات الاحتلال التى تحتل أرضه؟ فكان يأتيه الرد من داخله، ويدفعه إلى أن يفكر بالليل وهو شاب صغير، عن كيفية البحث عن وسيلة للمقاومة، وسيلة يعوض بها ما فعله بالنهار بالعمل معهم.. وذات مساء، التقى بمجموعة تشكلت لمحاربة معسكرات الإنجليز، وتهاجمها بالليل.

قلت له: إذن، كان يعمل بالنهار مع الإنجليز وبالليل يضرب معسكراتهم. قال: نعم! ثم جاءت مرحلة ما بعد ثورة 1952 وساند الثورة، ووقف بجوار حلم التحرير والعروبة والقومية ومشروع عبدالناصر، وظل على ذلك حتى جاءت هزيمة 67 وانكسر بداخله الحلم، يومها كان لديه زوجة وأولاد وكان جدى عاد إلى مسقط رأسه فى الصعيد، فقرر أبى أن يتفرغ للمقاومة، وذات يوم جاء بسيارة نصف نقل وطلب من أمى -رحمها الله- أن تنقل عفشها وتضع معها أولادها، وتسافر إلى والده بالصعيد، حتى يتفرغ هو للدفاع عن مصر، وسافرنا إلى هناك، ودخلنا المدارس، وظل هو يتنقل للدفاع عن المدينة بمجموعات شعبية كوّنها، ليحرس مبانيها وشوارعها، وأثناء ذلك كوّن فرقة الأرض، التى غنت للمقاومة ولبيوت وشوارع السويس.

 ***

- والله.. والله.. والله

- هترجع تانى لبيتك

- ولغيطك يا خال

- وهتلقى الرملة خضرة

- على طول القنال

بعد سنوات الحرب، عدنا إلى محافظة الدقهلية وعشنا هناك، قبل أن نعود للسويس بعد انتهاء الحرب، وفى عام 1972 قرر الرئيس السادات نقل أبى للعمل فى وزارة الزراعة فى القاهرة ومنع دخوله السويس، وبالفعل عاش أصعب أيام حياته، وهو بعيد عن السويس. وأذكر أنه كان هناك فى مدينة نصر-شرق القاهرة- مكتب تصاريح لدخول السويس. وكان أبى يذهب كل أسبوع ويقدم طلباً للدخول، وفى كل مرة كان يرفض طلبه، فيعود وهو حزين، لكن كان ينتظر بجوار الأوتوبيس، الذى سينقل من تمت الموافقة عليهم ويطلب منهم، والدموع فى عينيه، أن يحضنوا حيطانها ويسلموا له على هواها وترابها، ثم يبكى ويمسح دمعته ويعود من حيث جاء. قلت له ومتى عاد للسويس، قال: عاد فى 1975 فى احتفالية مهيبة حضرها قيادات المحافظة ورجال المقاومة الذين كانوا معه منذ بداية العمل ضد المحتل، سواء كانوا الإنجليز أو الإسرائيليين.

 ***

بعد هذه السنوات من الكفاح الميدانى، ظل الكابتن غزالى، يحافظ على دعمه لكل ما هو وطنى فى محافظة السويس، كان يساند من يعمل ومن يشكو ومن يحضر ومن يسافر.. عاش وبداخله يقين بأنه حارس السويس، والسويس جزء من مصر، ومصر كانت بالنسبة له الروح والعشق، ونحن أطفال كانت أمى تهتم بنا وكان هو يشكرها.. ويقول لها: خللى بالك من الأولاد، فتضحك وتقول له: وأنت «هتخلّى بالك من مين؟»، فيرد بصدق: من مصر يا أم الأولاد.

وكان حريصاً على أن نتعلم ونحب الوطن، ويقول: على هذه الأرض سقط شهداء على مر العصور، من أجل أن نعيش.. فلا تجعلوهم يقلقوا فى جنتهم التى رزقهم بها الله، بسبب تفريط البعض منا فى أرض الوطن.

نظرت إلى ما حولى من كتب ورسومات ولوحات.. ولاحظت أن أهالى الشارع -رغم رحيل الكابتن غزالى- ما زالوا ينظرون، وهم يمرون على مكتبته، ويلقون عليه التحية، وكأنه ما زال حياً بينهم، قلت للابن: أيامه الأخيرة كيف مرت عليه؟ قال: آخر ثلاث سنوات من حياته بدأت صحته تتراجع.. وكان البيت لا يخلو من زوّاره، وكانت مصر حاضرة فى كل أحاديثه.. لدرجة أننا لاحظنا أن صحته تتحسن إذا ما تحدث زواره عن مصر.. التى كان يعشقها وعاش لها، وفى الأسابيع الأخيرة بدأت صحته تتدهور.. وزاره فى البيت قائد الجيش الثالث بنفسه، وطلب منه أن يُنقل للعلاج فى مستشفى القوات المسلحة فى السويس، فرفض، وقال له: يا أفندم.. السرير الذى سأرقد عليه.. ليس من حقى.. هو من حق جندى يحارب الآن الإرهاب فى سيناء ويصاب هناك. ورفض بشدة نقله للمستشفى. وعندما غاب عن الوعى لعدة ساعات، قمنا نحن بنقله إلى المستشفى وهو تقريبًا فى غيبوبة.. وما هى إلا ساعات قضاها فى المستشفى وبعدها.. مات بعدما رحلت أمى التى شاركته الرحلة بسبعة أيام بالضبط.

 ***

وفى 2 أبريل 2017 رحل الكابتن غزالى.. سكت الصوت الذى زلزل الأرض.. وأزعج العدو وزرع الشوارع مقاومة.. وهدم جبال الخوف.. ونام فى الخنادق، والتحف بالسماء، وصنع بوطنيته وصدقه وعشقه لمصر رغيف خبز من دمه وعظمه وإحساسه. كان يقدمه للبلد هدية كل صباح. نعم.. مات الكابتن غزالى.. لكن يبقى صوته -مثل صوت جيفارا وعمر المختار وناجى العلى- ينادى على الحرية والوطنية والكرامة فى كل عصر. ينادى نموت ويبقى الوطن، نعم، يبقى الوطن ما بقيت منه أبراج الحمام، بجوار البندقية ومعها صوت -بالحق- ينادى على العدو.. يا أيها العدو.. هل تسمعنى؟

- أنت بترمى بإيدك قنابل

- وإحنا بإيدينا نزرع سنابل

- يللى قلوبكم البوم ساكنها

- وإحنا قلوبنا ساكنها البلابل.

- وإن كان على الأرض هنحميها

- وإن كان على بيوتنا هنبنيها

 ***

فهل يسمع «العدو» صوت الكابتن غزالى؟ أظنه سمع.. وأظنه يسمع.. لكن منذ متى كان القاتل يسمع صوت الضحية؟؟!