عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حين يخشي الطغاة أنامل رسام وحنجرة مغني!

في أول رسم له بعد الاعتداء الإجرامي عليه في قلب العاصمة السورية دمشق، رسم فنان الكاريكاتير السوري اللامع «علي فرزات» صورة شخصية له، وهو يرقد في سرير المستشفي الذي يعالج به، ينظر بغضب وقرف

، وأصابع يديه المكسورة، إلا من أصبعه الوسطي المشهرة باستقامة ووضوح ربما في وجه المعتدين والجلادين والطغاة. وكما هو معروف في التقاليد الشعبية، فإن رفع الأصبع الوسطي هولون من السباب البذىء الذي يعني الاستهزاء والاستهانة والاستهجان. نجا علي فرزات «من الموت بأعجوبة، هاجمه الشبيحة من بلطجية النظام السوري بينما كان عائدا من مكتبه إلي بيته في الخامسة صباحا، في قلب دمشق، أوقفته سيارة يستقلها خمسة من هؤلاء الشبيحة، وأوسعوه ضربا بعنف وهمجية وكسروا أصابعه، ثم ألقوا به وهو يدمي وعاجز عن الحركة في منطقة نائية علي طريق المطار، حيث التقطه عمال في سيارة نصف نقل، وأخفوه بداخلها، وأوصلوه إلي المستشفي، فتكون المصادفة أن ينقذ حياته عمال من قطاعات المهمشين والمقموعين الذين طالما ناصرتهم ودافعت عن حقوقهم رسوماته.

لم يخطئ الشبيحة هدفهم، توجهوا فورا إلي أنامل علي فرزات، مصدر فزعهم وألمهم فكسروها، تماما كما فعلوا مع ابن مدينته حماة «إبراهيم قاشوش» الذي برز في قيادة المظاهرات التي تهتف بسقوط النظام في المدينة، كما ألف وأنشد الشعارات التي تندد بنظام البعث وبحكمه الاستبدادي ومن بينها نشيد «يا للا ارحل يا بشار» فاعتقلته قوات الأمن السورية في الجمعة التي حملت شعار «ارحل» في الأول من يوليو، ولم تكتف بقتله بل مثلت بجثته، واقتلعت حنجرته التي ردد وراءها آلاف السوريين أناشيده، فأثارت غيظ محتكري السلطة ومحتقري الجماهير، وألقت الجثة، والحنجة في نهر الغاصي، حيث انتشل أهالي حماة الجثة وروو حكايته، ليصبح العالم أجمع شاهدا علي هذه الجريمة الشنعاء.

بدأ «علي فرزات» حياته العملية في صحف الدولة التي لم يكن مسموحا لغيرها بالصدور، فعمل في صحيفتي «تشرين» و«الثورة» حتي ضاقتا عليه، فهجرهما إلي غيرهما من الصحف والمجلات العربية، قبل أن يؤسس عام 2001 أول صحيفة سورية مستقلة منذ استلم البعث السلطة عام 1963 وهي صحيفة «الدومري» الساخرة التي تسلط الضوء علي العيوب السياسية والاجتماعية، وتسخر من الفاسدين والمستبدين بشجاعة واقتدار وموهبة وذكاء، وكان من الواضح من المضايقات التي تعرضت لها الصحيفة، وضيق السلطة بها، أن لاحقتها حتي سحبت ترخيصها بعد عامين علي صدورها وأغلقتها بعد الاستقبال الجماهيري الكبير لها، الذي تجلي في وصول توزيعها إلي نحو 60 ألف نسخة. و«الدومري» هي كلمة تعود فيما يظن - إلي أصل تركي وتعني الشخص الذي يضىء المصابيح في الليل. وكما أضاءت رسومات «علي فرزات» ليل سوريا الدامس، استعصت موهبته أمام الملاحقة والترصد والتضييق علي الانطفاء أو الحصار.

انفجرت رسومات فرزات «في وجه النظام علي شبكة التواصل الاجتماعي، مبرزا التناقض الطبقي الحاد الذي يشوه العلاقات الاجتماعية والإنسانية في سوريا، وموظفا وعيه وثقافته في فضح المفارقات السياسية التي يحملها الخطاب الرسمي، ومسلطا الضوء علي التناقضات الاجتماعية التي خلفتها سياسات النظام، فتبعث رسوماته الكاريكاتيرية علي الضحك والتأمل، وتحرض جمهوره علي الرفض والمقاومة عبر أسلوبه الرمزي الساخر، إذ تخلو رسوماته من أي كلمات أو تاريخ وتكتفي فقط بالإشارات الرمزية التي حفظها جمهوره الواسع عن ظهر قلب، وفك طلاسمها، فنجح مع فنانه في نسف الحواجز والقيود التي تضعها أنظمة الاستبداد في وجه الفنانين والكتاب والمفكرين والمثقفين، لمكافحتهم الظلم والقمع والجوع والفقر. تفشل السلطات السورية في تطويق تأثير رسومات «علي فرزات» الكاريكاتورية الملهمة، التي ساهمت في إشعال الاحتجاجات في كافة المدن السورية، إذ كان مشروعه الثاني بعد إغلاق «الدومري» هو «الصالة» التي راح خلالها يطبع أعماله علي ستائر وأشياء للزينة وعلي الأكواب والفناجين،

فتتحول كل البيوت السورية إلي معارض لرسوماته.

«أسف علي وطن يلتهم دماغه» بهذه الكلمات رثي «فرزات» زميله الفنان الفلسطيني «ناجي العلي» بعد اغتياله في العاصمة البريطانية «لندن» في حادث غامض لم تكشف تفاصيله بعد، منتصف عام 1987. جمع بين الاثنين «فرزات» و«العلي» أنهما جعلا من رسومهما الكاريكاتورية صوتا للضعفاء والمقموعين والمهمشين في كل مكان، فانطلق فنهما من سياقه المحلي إلي العالمية. وأصبح «حنظلة» الذي يقف حافي القدمين، يرتدي ملابس مرقعة، ويشبك ذراعيه خلف ظهره، ويعطي ظهره للعالم، هو طفل ناجي العلي الذي لا يتجاوز عمره العاشرة، ويتصدر كل رسوماته، كأيقونة وبوصلة تشير دوما إلي فلسطين. استوحي العلي الاسم من شجر الحنظل الذي تتسم ثماره بالمرارة، والذي يعرف في معاجم اللغة العربية «بالشجر المر» ومفردته هي حنظلة، الذي يتوق دوما إلي الحرية والعدالة والانصاف، كما تتوق رسومات «فرزات». وحين سئل ناجي العلي لماذا يبقي «حنظلة» طفلا لا يكبر، قال إنه لن يكبر أبدا، وسيظل في العاشرة حتي العودة إلي فلسطين، عندما يكبر «حنظلة» ويأخذ في النمو. رفض «حنظلة» في رسومات «ناجي العلي» الكاريكاتيرية البيروقرطية والفساد في مؤسسات الثورة الفلسطينية، وهاجم الخطاب السياسي العربي الإنشائي والذي يقول شيئا ويفعل عكسه، تماما كما فعلت رسومات «فرزات» وحين عاجلته رصاصات من كاتم صوت مشبوه ذات يوم من عام 1987 في شارع إيف ستريت في قلب العاصمة البريطانية لندن، الذي وجد فيها موطئ لقدمه، بعد أن ضاقت به كل البلاد العربية، كان قد قال قبل أن يسقط مدرجا بدمائه، أن «حنظلة» هذا المخلوق الصغير الذي ابتدعته، لن ينتهي بعدي، ولا أبالغ إن قلت إنني سأستمر به بعد موتي، وهو ما يحدث بالفعل، ذهب الطغاة المحليين والدوليين إلي ذيول التاريخ، بينما بقيت رسومات «العلي» شاهدا علي عصر يخلو من العدالة والانصاف. أنشأ «علي فرزات» جمعية في سوريا لتخليد ذكري «ناجي العلي» وكان هو أكثر حظا منه، إذ أنقذه جمهور رسوماته من موت محقق، وللموهبة الفذة التي تمتع بها كل منهما الفضل في نشر ذائقة فنية جديدة لدي متذوقي في الكاريكاتير، وإشاعة شكل مبتكر جذاب يمتلئ بالأفكار والأحلام والدلالات والرموز لمقاومة كل أشكال المظالم المحلية والدولية.

لماذا تصمت الأحزاب والقوي السياسية المصرية كل هذا الصمت البارد تجاه القمع الوحشي الذي يقوم به النظام السوري تجاه شعبه؟ ألا تستحق بسالة السوريين في الدفاع عن الحرية والكرامة مليونية للتضامن معها؟ سؤال تأخرت الإجابة عنه.