رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أسطورة الخواجة عبدالقادر الخلابة

كما فى مسلسليه السابقين «الرحايا» و«شيخ العرب همام» يواصل الكاتب والسينارست المبدع  «عبدالرحيم كمال» ارتياده لطريق جديدة للدراما التليفزيونية، يبتعد بها عن المناطق التى سبق له ان طرقها من قبل، كالدراما الاسرية التى تتخذ من المشاكل الأسرية موضوعا لها والتى برع فيها عاصم توفيق، ودراما الأجيال التى ذات الخلفية التاريخية التى برع فيها «أسامة أنور عكاشة» والدراما التى تؤرخ لسير شخصيات سياسية أو اجتماعية التى برع فيها «محفوظ عبدالرحمن»، فضلا عن الدراما البوليسية، ودراما المطاردة والمخابرات ..الخ.

وفى مسلسله الاخير «الخواجة عبد القادر» يقدم «عبد الرحيم كمال» رؤية فلسفية للكون وللحياة عبر ما يمكن تسميته «دراما الاسطورة» التى تبحر بين زمنين زمن الحرب العالمية الثانية، والزمن الراهن، وتجرى مقابلة بين نمطى الحياة فيهما. فبطل المسلسل «هربرت دوبر فيلد» «يحيى الفخرانى» مهندس بريطانى، يعيش ازمة وجودية، بين فقده لشقيقه واصدقائه فى حرب عبثية هى الحرب العالمية الثانية، وفشله فى زواجه بسبب اكتشافه لخيانة زوجته «مها ابوعوف» له مع شاب يصغرها فى العمر «سرعان ما خانها هو ايضا بدوره،،لذلك يفقد ايمانه  بكل شيء، ويدمن الخمر، رغم تحذيرات الاطباء له بالتوقف عن احتسائها، لكنه لا يمتثل للتحذير وكأنه يسعى للانتحار، ولا يستمتع بشيء فى الحياة بعدها سوى بالاستماع الى الموسيقى، وكان الشىء الوحيد الذى حرص عليه طول الوقت، هو ان يؤدى عمله فى المحاجر بإتقان وأمانة، وهو ما يدفع الشركة التى يعمل بها الى نقله الى فرعها فى السودان، وهناك يجد نفسه وسط ثقافة مختلفة، وسرعان ما يقوده عشقه للموسيقى الى الاستماع الى الشعر الصوفية الأدعية والأناشيد الصوفية، ويندرج فى صفوف الصوفيين السودانيين بمساعدة احد كبارهم الشيخ «عبدالقادر» «ابراهيم فرح»، ويبدأ على يديه الاهتمام بالجانب الروحى من الثقافة الاسلامية، حيث يدرك أن للإنسان رسالة فى الحياة هى أن ينشر المحبة والتسامح على كل من حوله، فيشهر إسلامه، ويتسمى باسم الشيخ الذى اخذ عليه العهد «عبدالقادر».
وينتقل «الخواجة عبدالقادر» الى مصر ليعمل فى فرع للشركة كانت قد انشأته حديثا، فتشتبك قصته مع  قصة اسرة صعيدية تهيمن على القرية التى يقع فيها المحجر الذى يعمل به، حيث يدمر الطمع والتسلط والصراع على المال، كل ما بينها من صلات. فالأخ الأكبر الحاج عبد الظاهر «أحمد فؤاد سليم» يسيطر على ميراث الاسرة، ويستولى على ميراث أخيه الأصغر زايد «محمد شلش»، فيهجر الأسرة ويسيح بين البلاد، ويحرم شقيقته الصغرى زينب «سلافة معمار» من الزواج، لأنه لا يريد لثروة الأسرة التى يسيطر عليها ان تنتقل الى الغرباء، بينما يشغل الخواجة عبدالقادر نفسه بتعلم اللغة العربية وحفظ القرآن، على يد صبى يتيم فقير يدعى كمال «احمد خالد»، ويتعرف الخواجة على زينب اثناء تدريسه اللغة الانجليزية لابن شقيقها، ويكتشف انها مثله تهوى الموسيقى والغناء فيشغف بها، فيتقدم للزواج منها فيتحداه شقيقها المتسلط، ويدبر له كل الحيل للتخلص منه، لكن الاثنين اللذين يختلفان فى العمر وفى الثقافة يتمسكان بحبهما الصوفى المجرد، ويفلحان فى النهاية فى إتمام زواجهما، فيشعل الاخ المتسلط النار فى عش الزوجية، ولا يجد الذين دخلوا المنزل بعد اطفاء الحريق أثرا لأى رفات لهما. وتدور الأساطير حول أنهما شوهدا بعد ذلك فى الخرطوم والقاهرة، وأن الخواجة عبدالقادر قد زار أصدقاءه فى مصر والسودان، وطلب

أن يقيموا له «مقام» وهو ما فعله تلميذه الفقير الذى ظل يتلقى معونات منه بعد رحيله، حتى أتم دراسته وأصبح مهندسا يشار له بالبنان «محمود الجندى». وحين يحاول الجيل التالى من أسرة العمدة المتسلط إزالة هذا المقام، يتصدى له اهل القرية،بينما يظهر الخواجة لتلميذه المهندس كمال، ليؤكد له أن مقامه ليس الضريح الذى أقامه له، وانه موجود في كل القلوب، وان الله يسكن فى قلب كل انسان، وهو المعنى الذى انطوت عليه كلمات  الانشودة الصوفية فى ختام المسلسل ، اذ تقول :والله ماطلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى، ولا خلوت إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى، ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا، إلا وأنت بقلبى بين وسواسى، ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك فى الكاس.
قدم المسلسل مجموعة من القيم المجردة الذى يسوقها مفهوم الثقافة الإسلامية الصوفية بما يحمله من طاقة روحية هائلة، يمجد المحبة والعدالة والتسامح والتفانى فى محبة الخالق والمحبوب، حتى ولو كانت علاقات المحبة مستحيلة وغير قابلة للتحقق والاكتمال، والمسلسل دعوة لسلة من القيم الاخلاقية  الفاضلة والرفيعة التى تعلى من الزهد والتواضع والتصدى للعدوان على الضعفاء، والجسارة فى مواجهة الظلم، مهما اختلت موازين القوى بين الظالمين والمظلومين.كما تنقل المسلسل بنعومة وذكاء بالغ  بالمقابلة التى أجراها بين من يستخدمون الدين لنشر المحبة والتسامح والعلم والمعرفة،وبين من يستخدمونه  لمصالح سياسية ضيقة تزيف الوعى لتبرر تسلطها واستبدادها ونهبها لثروات البلاد،وحرمانها للمرأة من الحق فى الميراث، تمسكا بموروثات بالية.
لم يكن بوسع هذه الرسالة السامية أن تصل  إلا عبر الجماليات المتناغمة التى تدفقت  فى المسلسل فى الأداء العبقرى السهل الممتنع لكل فريق الممثلين الذين نجحوا جميعا دون استثناء فى مواجهة التحدى الذى فرضته موهبة «يحيى الفخرانى» المتفردة التى تنمو عاما بعد اخر فى اتجاهات إبداعية خلاقة فضلا عن الموسيقى والإضاءة والملابس والتصوير وكل العناصر الفنية التى أسهمت  فى إظهار ثراء الحدث، ورفعته الى مستوى الملحمة الاسطورية، ليبقى هذا المسلسل محفورا لزمن طويل فى الذاكرة، ليحتل به المخرج المثقف الذكى والحساس «شادى الفخرانى» مكانا بارزا  يستحقه عن جدارة، فى ساحة الدراما التليفزيونية.