العرب.. وظاهرة التجريح
لقد فكرت مليا بأن أكتب مقالا بل سلسلة من المقالات تعالج ظاهرة التجريح والنقد الهدام ومقارنته بالنقد البناء بعد أن إزدادت إنتقادات الهدم من أجل الهدم والتجريح والتلويح على صفحات الجرائد والفيس البوك. وخصوصا بعد أن إستمتعت بقرائة كتاب (العرب وظاهرة التجريح)
وقرأت هذا الكتاب فى زمن عجيب ووقت غريب أسميه زمن ( مابين الديكتاتورية والديمقراطية ) والكثير سيتعجب من هذا الزمن أو هذا التوقيت أو هذا الإسم وسيسألون أنفسهم أين أو متى كان هذا الزمن العجيب وهو مابين الديكتاتورية والديمقراطية... ومن أجل أن أزيل هذا العجب قبل أن يتحول الى غضب.. وأرفع هذا الغموض لإزالة القيود وأقول هذا الزمن هو الثمانية عشر يوما الأولى من الثورة المجيدة والتى قضيتها بميدان التحرير متصفحا لهذا الكتاب أحيانا فى بعض أوقات الفراغ بعد الإنتهاء من الإجتماعات السياسية.. واللقائات الثورية.. خلف المنصة الرئيسية.. أو داخل الصينية.. أو أمام الشركات الدولية.. أو بسفير السياحية أو الأماكن العلاجية.. للإسعافات الأولية.. أو بميدان التحرير عامة مع العقول التحريرية.. للخروج بنتيجة ثورية.. أو خطة فورية.. بطريقة سرية.. وأحيانا علنية..
بداية لا بد أن نتفق جميعا في كوننا بطبيعتنا البشرية نحب المدح والإطراء، ونسعد بالمجاملة ونفرح حين يشار لنا بالبنان عما أتممناه من بنيان والإشارة الى ماقدمناه من إيجابيات.. والفخر بما نقدمه من إنجازات.. أو نسلكه من نجاحات.. بل وتطرب آذاننا لسماع مثل تلك الكلمات.. أو تلك الصيحات.. التى يهتز لها الوجدان ويفرح لها الإنسان.. إذن.. لماذا كل هذا الضيق والتضييق والضجر والغضب والسخط ؟ لماذا هذا الحزن واليأس والألم الكبير الذي ينتابنا إذا ما وجهت إلينا كلمة نقد؟ لمذا نعتبر كلمة نقد كلمة مهينة ؟ بل هى كلمة ثمينة لأنها تساعد على التقدم , ولماذا نعتبرها إهانة ؟ بل هى والله إستهانة إذا إعتبرناها إهانة لأن النقد إعانة, فهو يعيننا على ما سهونا عنه أو ينبهنا بما أهملناه أو أسقطناه أو شوهناه متعمدين أو غير متعمدين, ويعتقد الكثير أن النقد فضيحة بل هى كلمة صريحة, ولكن للأسف ساد النقد الهدام في مجتمعنا واستشرى فى أذهاننا وكان سياسة تعلم أعطت إنطباعا سيئا لسياسة النقد وهو النقد البناء، بل والبعض منا قد يأخذه على محمل شخصي فيصبح أسيرا لأفكار وهمية.. فتضيع أوقاته وتصبح حياته مشغولة بخلافات غير ضرورية.. لأن عقله مشغول بأمور سطحية.. لتمتد سلسلة من الهموم والإتهامات فتصبح حياته عبثية.. لأن الهدف الأسمى والرسالة الأعلى غابت في غياهب الجب, لأن قبولنا لمقترحات الآخرين والسماح لهم بتوضيح وجهات نظرهم ووجوه القصور لدينا، يجعلنا نشعر بأننا نظهر بمظهر الضعيف أو السخيف, أما الاستبداد بالرأي والتمسك به يجعل الكثير من الناس يبدون وكأنهم أقوياء صامدين كأشجار السنديان التي قاومت العواصف مئات السنين ولكن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس تؤكد أن قبول النقد يمنحنا القوة؛ لأنه يساعدنا على إنجاز شيء قبل وقوعه أو إعمار شئ قبل إنهياره, و يفتح سبيلاً للتوقف عن السير في نفق مظلم، فى أوله مفسدة وفى آخره مهلكة, وأكبر مثال على ذلك هو سقوط الاتحاد السوفيتي بتلك الصورة المريعة والمهينة ومن غير سابق إنذار، وذلك يقدم حكمة بليغة بالغة غاية فى البلاغة للمستبدين بآرائهم الرافضين للإصلاح والتجديد، والذين إستخفوا بنصائح ونقد أهل البصيرة والعلم والمعرفة والخبرة لأن الخبرة والتخصّص شرط أساسي لجعل النقد بناء. والشهوة القويّة لممارسة النقد للأسف الشديد أصبحت عادة ويظنها الناقد سيادة وهى سزاجة، لأن الناقد يظن ببؤسه أن هذا النوع من النقد يمنحه تفوقاً لا عائقا على المنقودين، ومن ثم فإن كثيراً ممن يوجّهون نقدا لازعا غير بارعا لاسعا غير نافعا إلى غيرهم لا يملكون المعرفة بحقيقة صغائر الأمور التي ينتقدونها، وكثير من هؤلاء يعتمد نقدهم على أخبار صحفية.. أو برامج إعلامية.. أو تحليلات سياسية.. أو تقارير دبلوماسية.. يقرؤنها أويسمعونها أو يشاهدونها في القنوات الفضائية.. ومن هنا فإن انتقاداتهم كثيراً ما تكون سطحية.. لأنها فورية.. ودون دراسة موضوعية.. أو دلائل علمية.. أو أنها تعبر عن وجهة نظر ضعيفة وأحيانا غير شريفة أو ممتازة لأنها منحازة, ولا أدرى لماذا ومصر المحروسة مليئة بالنخبة المدروسة,, فمن اذن المسؤول عن هذه الحالة ؟
يوجد في الجاهلية أدب مختص بل متخصص في التجريح وهو شعر الهجاء، ومع إختفاء الجاهلية بظلامها وقدوم الإسلام بنوره وجماله ومحبته ومظلته حاول الإسلام أن يشذب هذه الحالة من التفاخر والهجاء المتبادل، وهو مأخوذ على العرب حتى هذه اللحظة، وكتاب (العرب وظاهرة التجريح) تحدث عن مثل هذه الأمور, وبعد قرائتى لهذا الكتاب أحب أن أطرح سؤالا لماذا تتمركز هذه الظاهرة عند العرب تحديدا أكثر من الآخرين؟ وتمضي السنوات.. وتمر الفترات.. وتنتهى الخطوات.. وتنصرم الأعمار.. ويختفى الأبرار.. ويموت الأخيار.. وتدفن الأسرار.. وتأتي أجيال جديدة.. وعقود مديدة.. وعهود عديدة.. وعقول فريدة.. والنقد الهادم ما زال مستمراً والأوضاع على حالها بل تزداد سوءاً وهدما و فساداً، ولكن الإسلام قام بتهذيب هذه الحالة فقال تعالى: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَان) وقال الإمام جعفر: ( من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقطه من أعين الناس أخرجه الله من ولايته الى ولاية الشيطان ). أما عن النقد البناء فهو نقد مفيد سديد مثلج ومنتج من أجل البناء لا الهدم, نقد يقوم به البناؤون أنفسهم من أجل التصحيح والتصريح والتوضيح, وهنا تكمن مشكلة كبرى ألا وهى صم بكم عمى فهم لا يسمعون أي نصيحة، ولكنهم للأسف الشديد
وفي ظل أجواء ماقبل ثورة 25 يناير العظيمة التي لم يكن لها صلة بالديمقراطية كانت سياسة” الانتقاد” التي كانت في واقع الأمر ليست نقدا, بل كانت إستراتيجيات حصار ودمار وعزل وفصل.. وإقصاء وإفشاء.. وتفكيك وتشكيك.. وسياسة ترتقي إلى مستوى السب والقذف والشتم أكثر منه إلى الحد الأدنى من النقد أو الى درجة الهدم, وهي في أحسن الأحوال تنتمي إلى توبيخات مرضية ذات صبغة سياسية, تعبر عن حالات غير معلنة من الإفلاس السياسي وتدني الهيبة الاجتماعية والتي تقوم على خلفية التفكك القيمى والتدهور الإنسانى والخلل الشخصي والضعف المتأصل والعنف المتواصل للمكانة التاريخية والدينية لمن لا يريد لمصر وشعبها خيرا.
ولاشك أن النقد البناء أحد نتائج إرتقاء النقد , والنقد من أكبر الدلائل على التطور الفكرى والتقدم الحضاري,لأنه فى نقده يعتمد على البناء وليس الهدم ويسلك طريق المناقشة و المشاركة ,لكي نخرج فى نهاية المطاف بنتيجة منطقية.. بعيدا عن الطبقية.. والألفاظ السوقية.. والتقاليد العرفية.. أو الشعارات الدينية.. أو الإنتمائات الحزبية.. أو الإتجاهات السياسية.. وبذلك نستطيع أن نساعد الكتاب والمؤرخين والمفكرين و السياسيين والدبلوماسيين و المسؤلين على تحسين إبداعاتهم,ويساهم النقد في تطوير الأداء ليرتقي بالمتلقى... وأنهى مقالى بالحلقة الأولى من هذه السلسلة بقوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم, وكان الله سميعا عليما.
المستشار بالسلك الدبلوماسى الأوروبى ورئيس الإتحاد الدولى للشباب الحر [email protected]