رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الخروج.. قصة قصيرة

فراشتان
فراشتان

 

فراشتين تقفزان بين الحقول كانتا، تتشابك أصابع يديهما الصغيرتين كموطن تلجآن إليه كلما قسا أحدهم منتهكا سرورهما.
هاتان مريم .
الاسم نفسه تحملان ، والبراءة نفسها، تُعرفان في البلدة الصغيرة بالتوءم رغم أنهما مجرد جارتين ، لكن التصاقهما دوما وحبهما الذي يبدو جليا لباقي أطفال القرية صار دافعا لإطلاق ذلك اللقب على كلتيهما.

مريم ذاتا السنوات الخمس، تصحبهما الزقازق إذا ما انطلقتا صباح كل يوم تشاكسان الطيور وتلهوان مع أبي قردان وتطاردان الضفادع على ضفاف الترعة ، وتعودان منهكتين بعد الظهيرة لتلبي كل منهما نداء أمها لتناول الغداء ثم لا تلبثان أن تلتقيا من جديد بالشارع المتسع فتضعا خطة جديدة للهو لا ينتهي.
واليوم طال لهوهما معا، ما عاد أحد من الأطفال يبين بالشارع ، فقد بدأت شمس قريتهما بالمغيب وتوسدت السماء عين الشفق ، أخذت كل منهما فورة الانطلاق فما شعرتا بمرور الوقت  .
وكعادتهما تتقاسمان كل شيء حتى الشعور بالجوع والعطش ، الآن تشعر إحداهما برغبتها في التغوط وتخبر صديقتها فتمسك الأخيرة بطنها معلنة الرغبة نفسها ، تنظران حولهما ..ماذا تفعلان ..هل تسرعان كل إلى بيتها فتقضيان حاجتيهما ؟
لكن الأولى تصرخ في ألم ..لن تستطيع التماسك حتى تصل إلى بيتها ، فتنظر الأخرى حولها في حيرة وتبصر أحد البيوت المهجورة والذي يقصده أطفال القرية من الذكور فقط لقضاء الحاجة إذا ما داهمتهم وهم يلهون في الشارع ، فأشارت مريم إلى صديقتها مقترحة أن تقضيا فيه حاجتيهما ، استنكرت الأخرى خشية أن يراهما أحد فطمأنتها الأخرى بأنه لا أحد يسير .
بتردد تتجهان نحو البيت المهجور ممسكتين بكفيهما وكأن كل واحدة تستمد الشجاعة من صديقتها ، تتواريان خلف كومة من التراب وتشمران عن ملابسهما الداخلية وتجلسان القرفصاء متقابلتين لتقضيا حاجتيهما.

يمر الوقت ، وتنسى الطفلتان ما هما به ، يأخذهما الحديث والضحك وتبادل الحكايا ، حتى فرغت حكاواهما ، وحانت من إحداهما نظرة فضولية نحو عانة الأخرى ، مالها لا تشبهها كثيرا ؟ كيف تختلف عنها وهي صديقتها ؟
تلفت نظر صديقتها إلى ذلك الاختلاف ، فتسألها الأخرى مستنكرة : كيف؟
فتمد الأولى أصابعها وتشير إلى موضع الاختلاف ، لكن إصبعا يطول فيلمسها؛ لتضحك صديقتها هاتفة : أنت تدغدغيني .
تتصاعد ضحكاتهما مع اكتشافهما أن ذلك المكان مصدر لدغدغة تسعدهما ، فتنطلق الأصابع عابثة وتعلو الضحكات والشهقات سعيدة فرحة .
لا تدركان كم استمر عبث أصابعهما ، لكن صرخة مستنكرة تشق عباب ضحكاتهما ، وسؤالا مستهجنا من طفلة تكبرهما بخمسة أعوام : كيف تفعلان ذلك معا؟
وتصم كلمة قاسية آذان الطفلتين باتهام أصابهما بالوجوم.
لتسرع الطفلة الكبرى تغادرهما وهي تهتف كأنها تنادي أطفال القرية لتعلمهم أن مريم ومريم تفعلان ما تفعلان بنفسيهما.
وتسكن عيونهما صدمة ..ماذا تقول تلك الغبية ، بل ماذا تعنيه كلمتها تلك؟
تفيقان من ذهول أصابهما فتقصدان  لارتداء ملابسهما السفلية وقد أحستا بأن في الأمر كارثة ، ربما لا تدركان كنهها لكنها حتما كارثة.
وقبل أن تنتهيا من ارتداء ملابسهما كانت أم كل منهما تقف ضاربة صدرها وتمسك بابنتها متفحصة إياها ، حتى إذا اطمأنت ، سحبت كل منهما حذاءها البلاستيكي وانهالت على ابنتها ضربا وركلا وسبا.

كم مر منذ تلك الواقعة ...أسبوع وربما يزيد، قضته كلتاهما حبيسة بيتها لا تعرف عيناها للشارع سبيلا.
وعندما أُفرج عنهما وسط تعليمات مشددة لكل منهما بألا

تكلم الأخرى ولا تلهو معها وإلا كان العقاب وخيما ، كانت نظرات الحسرة والخجل حديثهما الوحيد ، وإذا نسيت إحداهما وحاولت أن تقترب من الأخرى أفاقت على همسات وغمزات الأطفال من حولها فارتدت معرضة.
انفصل التوءم ، وصار التصاقهما فراقًا ، وانطفأت ضحكة عيونهما  فأصبح لهوهما تيهًا لا انطلاقا .
سنتان مرتا ولم تنس القرية ، صار اسم كل منهما يقترن بالحكاية إياها ، فازداد نأيهما كلما زاد إدراكما ووعيهما بمعنى ما قيل ويقال.

واليوم تهجر أسرة إحداهما البلدة لتستقر في المدينة بعدما نقل رب الأسرة مكان عمله إليها .
ويأخذ الحنين الطفلة نحو توءمها ، كيف تهجر القرية ولا تودع صديقتها التي لم تحب أحدًا مثلما أحبتها ، حاولت أن تطلب من أمها أن تذهب إلى بيت صديقتها لتوديعها ، لكن ترددًا أصابها عندما تخيلت ما يمكن أن يحدثه مجرد ذكر اسم صديقتها أمام أمها، وهي التي مكثت سنتين تحاول أن تمحو ذكرى ذلك اليوم من عقل أمها ، لكنها كانت دائما ما تلمحه في نظراتها المريبة إليها  كلما فُتح حديث من قريب أو بعيد يشبه ما حدث ، بل ظلت تلك الريبة تحاصرها حتى إذا حان مشهد رومانسي في أحد الأفلام ، وكأنها صارت بين عشية وضحاها لعوب القرية التي لا تأمن أمها عبثها .
أعرضت عن فكرتها وطأطأت رأسها وهي تسير بين أسرتها مارة على البيوت ليودعوهم ، كل البيوت ودعوها عدا بيت صديقتها ، ربما اكتفت أمها بهز رأسها لأم صديقتها فبادلتها الأخرى نفس الهزة وكأنها تتفهم عدم إقدامها نحوها ، ثم تدلف إلى بيتها مسرعة بينما مازال كلٌ يقف أمام بيته مودعًا.
تجاوزت أسرة مريم بيت صديقتها وكادت تغادر الشارع بأكمله ، إلا أن نظرة أمل أخير تحين من الطفلة نحو بيت صديقتها فتفاجأ بها واقفة خلسة تنظر نحوها وقد أغرقها الأمل نفسه.
توقفت مريم عن السير لوهلة وتسمرت مكانها ورنت بنظرة وداع يحدوه ألم وحسرة نحو صديقتها ولم تلبث دموعهما أن انهمرت معًا في اللحظة نفسها، ولآخر مرة تتشاركان أمرًا واحدًا .
لكن يدًا غليظة تمسك بمريم جاذبة إياها بقسوة ، لتستدير رغمًا عنها وتتوارى بين أسرتها مغادرة الشارع .