عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الشرطة المصرية تاريخ حافل بالوطنية

بوابة الوفد الإلكترونية

هاجس الأمن بدأ مع ظهور بواكير الحضارة المصرية القديمة

الشرطة حظيت بمكانة خاصة ومشاعر احترام وهَيْبة

مهمة الشرطة أصبحت فرض تطبيق القوانين والحفاظ عليها

النظام الإدارى المصرى اتسم بقدر هائل من الثبات تاريخياً

فقهاء المسلمين اشترطوا فى صاحب الشرطة أن يكون حليماً مهيباً دائم الصمت طويل الفكر

كيف كانت لأول دولة وأمة فى التاريخ أن تقف على قدميها، بغير أن تكون وظائفها الحيوية كدولة ناهضة، كاملة، متكاملة، إذ كيف يمكن لدولة أن تقوم وتعيش وتواصل الحياة دون أن تكون لديها كل متطلبات الدولة التى هى مرادف الاستقرار، أى كيف تقوم دون أن يكون لديها ما يحفظ أمنها الداخلى، وما ينظمه من لوائح وقوانين، ومن ينفذه ويفرضه، بمعنى أن تتوافر لها كل أدوات الضبط السياسى والاجتماعى بالمصطلح الحديث.

ولقد كانت خصوصية مصر أو بعضها فى التواصل والاستمرارية والاستقرار بمفهومه الأوسع أمناً داخلياً وخارجياً، أو أمناً قومياً فى الحقيقة، هى التعبير المباشر عن قوة الشعور الوطنى وعمق جذور الانتماء.

وقد كانت مصر حقاً، المكان والمكانة، السائدة لا المتنحية، الثابتة لا المتغيرة، الراسخة لا المهتزة، صاحبة دور حضارى بغير انقطاع، وحكمة دون استعلاء، وقيادة دون وصاية، وتجديد دون تفريط، وإبداع دون تقليد، رسالتها التوازن والعدل والسلام فى الأمس واليوم والغد.

فى حلقات متتالية نستعرض دور الشرطة المصرية عبر التاريخ الوطنى، احتفاءً بذكرى عيد الشرطة الشهر الجارى.

لعل ظهور مخازن الغلال المجمعة فى التخطيط المعمارى للقرى فى مصر، خلال الألف السادس قبل الميلاد، يشير بوضوح إلى وجود تنظيم أمنى دقيق يضمن حراسة هذه المخازن، وحمايتها من مخاطر السرقة أو النهب، ولعلها- أيضاً- أقدم إشارة لوجود شرطة مصرية، فى هذا الزمن السحيق.

الحقيقة أن هاجس الأمن، قد ولد فى مصر القديمة سابقا على ولادتها، بل كان واحدا من أهم عوامل ولادتها المبكرة، فقد واكب الحس الأمنى بأبعاده الاجتماعية، بداية ولادة وظهور بواكير الحضارة المصرية القديمة، ومنذ العصر الحجرى، وبالتالى قبل أن يبدأ عصر التوحيد، الذى بدأ معه فى الظهور، نظام عسكرى وأمنى واضح، فى شكل وحدات عسكرية منظمة مسئولة عن صيانة الأمن داخلياً وخارجياً، فقد كانت الشرطة لم تزل جزءاً من القوات المحاربة، لم تنفصل عن قوات الجيش أو عن المؤسسة العسكرية، ورغم إنضاج مفهوم مبكر لترابط أبعاد الأمن الداخلى والخارجى، فقد أصبح للأمن الداخلى وحدات وفرق خاصة به، وظيفتها تقتصر على توفير الحماية داخل الوطن، وذلك بسبب تعاظم التهديدات والمخاطر الخارجية.

وقد اتسع جهاز الشرطة بعد استقلاله عن الجيش، ومع تعدد مهامه ووظائفه، فى إطار نمو وظائف وحاجات الدولة المصرية القديمة، حيث أصبح جهاز الشرطة تابعاً للوزير مباشرة فى العاصمة، إلى جانب وجود قوات شرطة محلية فى كل إقليم، تتفرغ منها وحدات أصغر، وهكذا، لتتم تغطية خريطة مصر حتى التجمعات السكنية البالغة الصغر، وفق تراتبية تنتهى القيادة فيها عند رئيس شرطة الإقليم، الذى يتبع حاكم الإقليم مباشرة، إذا لم يكن الأول يجمع بين المنصبين، وفى الحالتين فإن جميع رؤساء شرطة الأقاليم يقعون تحت رئاسة الوزير، باعتباره مسئولا عن كل الأنشطة الإدارية والأمنية للدولة.

وهكذا حظيت الشرطة فى مصر القديمة، سواء بالنسبة لوضعها فى النظام الإدارية للدولة، أو بالنسبة لصورتها عند المصريين، بمكانة خاصة، ومشاعر احترام وهيبة، وضمت تخصصات محددة، فهناك شرطة للمعابد، وشرطة للنهر، وشرطة للمقابر، وشرطة متخصصة فى استخدام الكلاب فى أعمال المطاردة والحراسات والتأمين، بل كانت هناك فرق شرطة مركزية، يتم دفعها لمواجهة الأحداث الأكبر والأهم «قوات أمن مركزى»، وليست ثمة تقدير محدد للأعداد التى ضمها جهاز الشرطة فى مصر القديمة، ولكن الواضح من تعدد التخصصات، وشمولية الجهاز الإدارى، وتوسعه، وتفرعه، حتى مستوى الوحدات الدقيقة، أن الأعداد كانت كبيرة وتتوافق مع الوظيفة الأمنية المسندة إليها، فى ضوء وفرة الإنتاج القومى، وقد تعطى أعداد قوات الجيش التقديرية من قبل المؤرخين، مؤشراً موازياً على أعداد المنخرطين فى جهاز الشرطة، فإذا كان «هيرودت» يقدر قوة مصر العسكرية بنحو 410 آلاف جندى، فإن «ديودور» يقدر جيش رمسيس وحده بنحو 600 ألف جندى.

ولقد تم سن القوانين مبكرا، وأصبحت مهمة الشرطة فرض تطبيقها والحفاظ عليها، منذ الأسرة الخامسة من الدولة القديمة، إلى جانب جهاز ونظام قضائى متكامل، وربما كانت كلمة «ماعت» التى صاغها المصرى القديم، والمتعددة المعانى، فهى تشمل العدل والنظام والقانون، تعكس عمق مفهوم الأمن فى الحضارة الفرعونية، لقد كان أشهر نص قانونى صدر فى مصر الفرعونية، هو قانون «بوخوريس»، الذى ظل العمل به ممتداً لتسعة قرون متصلة، بل فى وجود الاستعمار البطلمى والرومانى، بينما كانت الأحكام رادعة، فعقوبة جريمة الاختلاس هى القتل، وعقوبة الشهادة الزور، تتراوح حسب درجة خطورتها، بين القتل وإنزال المسئول الكبير أو صاحب المكانة إلى خادم أو عبد، أما جريمة الرشوة، إذا وقعت من الوزير أو القاضى، فعقوبتها هى تنزيله من منصبه إلى درجة عامل زراعى أجير.

وقد تجدر الاشارة هنا إلى أن العدل وقيمه المتعددة، قد شكلت خلال رحلة المصريين عبر التاريخ، أكثر القيم التصاقاً بوجدانه، وليس ثمة تفسير لذلك سوى أن المصريين أنفسهم، هم الذين اهتدوا إلى مفهوم العدل، وهم الذين صاغوه قيمة عليا، وترجموه إلى قوانين، وابتكروا أدوات الضبط الاجتماعى، المسئولة عن وضعه بحزم، موضع التطبيق العملى.

عندما انزلقت مصر من امبراطورية كبرى إلى مستعمرة، بعد أن تفككت مركزية الدولة القديمة، ولحق بها كثير من الوهن، كانت لا تزال من الناحية الاستراتيجية، محور ارتكاز الإقليم، بل كانت لا تزال تشكل قمته التاريخية، وقلبه الجغرافى، وهكذا أصبحت بحكم ما اعتراها، مطمعاً ملاحقاً، وجائزة كبرى، لمن يريد الاستحواذ على المنطقة كلها، هكذا دخل الاستعمار الاغريقى أولا، فى صورة الإسكندر المقدونى، ومع أنه كان استعماراً بحرياً خالصاً، لكن الإسكندر بالمفارقة لم يدخلها بحرا، وإنما دخلها برا من الشرق، ولم يكن دخوله متاحا أو ممكنا، شأن كل غزوة عسكرية من قبله ومن بعده، الا بعد أن اكتنز فى عضلاته، قوة مضافة، نتيجة توسع البطالمة، الذى أخذ شكل امبراطورية فتية فى غرب آسيا، والمفارقة الثانية فى ذلك- أيضاً- أن مصر التى وقعت تحت سطوة هيمنة عسكرية بطلمية، أوقعت البطالمة تحت سطوة أقرب ما تكون إلى التعبير عن هيمنة حضارية مصرية، كما كان الوضع فى كل حالة سابقة ولاحقة، ولذلك لم يغير البطالمة، ومن بعدهم الرومان والبيزنطيون ثم العرب، طرائق الحياة المصرية، ولا نظم الإنتاج، فلم تكن حياة المصريين اليومية، بقواعدها المتأصلة والمستمرة قابلة للتغيير أو التبديل، فضلا عن نظم الزراعة والرى، التى تركت على حالها يديرها المصريون بأنفسهم.

ما يستحق التوقف حقاً، على امتداد حياة المستعمرة، وسواء كنا نتحدث عن المستعمرين، إغريقيين أو رومانيين أو بيزنطيين، ومع الفوارق الكبيرة فى طبيعة الاستعمار الأول، مقارنة مع الثانى والثالث، والذى كان استعماراً استيطانياً بالأساس، بينما كان الثانى والثالث، استعمارا عسكريا، اقتصاديا استغلاليا، بالأساس أيضاً، فضلاً عن الطبيعة المشتركة بين ثلاثتهم، كأنماط مكررة للاستعمار الاستراتيجى، ما يستحق التوقف حقاً، أن الهاجس الأساسى، والهم الأول لكل واحد منها، هو الأمن الداخلى، وهو تجريد المصريين من أية وظيفة أو عمل أو دور، يتعلق بهذا الأمن، وأياً كان شكل التنظيم الأمنى، أو طبيعته، أو أدواته، أو سياسته، فإن من المؤكد أن البطالمة والرومان من بعدهم قد استمروا على أسس النظام الأمنى نفسه، الذى وضعته مصر الفرعونية، وطبقته بعناية ودقة، وان اختلفت التسميات، أو لحقت بها بعض الإضافات، فقد أضيفت فى تلك الفترة قوات الأمن المحاربة المعروفة باسم «الماخيموى» والتى كان أغلب الملتحقين بها من ذوى الأصول المهجنة، ولم تكن وظائفهم سوى سبيل للحصول على اقطاعيات زراعية، إضافة إلى مجموعة أخرى جديدة من الشرطة، كشرطة الصحراء، التى كانت مهمتها حماية الصحراء، وحماية الأراضى التى تستغل بطريقة وضع اليد، وكحاملى السوط الذين كانوا يصاحبون جامعى الضرائب، وكحاملى العصى، الذين يشبهون الخفراء، وكحاملى الخنجر والسيف، الذين ترتبط وظائفهم بالقبض على المتهمين بالجرائم الكبرى.

غير أن ترتيب الجرائم من حيث الأولوية والأهمية، ودرجة وطبيعة العقاب، قد تم وضعه على جدول من الأولوية، التى تعكس مصالح المستعمر بالأساس، فقد احتلت الجرائم ضد الخزانة العامة، أى الجرائم المتعلقة بالضرائب سدادا أو تحصيلا، صدر الجرائم، وأولويتها الأولى حتى وصلت عقوبة الإهمال فى تصيل الضرائب- لا سدادها- إلى مصادرة ثروة المسئول المهمل، ثم جاءت الجرائم ضد الأفراد فى المرتبة التالية، فجريمة الخيانة العظمى، ثم سوء استخدام الحقوق والسلطات، ثم الجريمة الدينية فى ذيل القائمة، باعتبارها لا تعنى المحتل من قريب أو بعيد.

وفى كل عصر من أزمنة الاحتلال، كانت ثورات المصريين طابعاً مميزاً وفريداً ومتصلاً، ولكن موقف رجال الأمن من البطالمة، أخذ طابعا خاصا، فعندما اندلعت ثورة المصريين فى حامية الإسكندر ضد الملك بطليموس الخامس، انضم رجال الأمن والشرطة من البطالمة إلى الثوار المصريين، على الرغم من أن الامبراطور قد منحهم راتب شهرين مقدما، ضمانا لولائهم، ولكنهم بدأوا الانشقاق والانضمام إلى الثوار، بتسريب المعلومات الامنية لهم، ثم مساعدتهم فى أعمال الثورة ذاتها، وعندما قدر لهذه الثورة أن تفشل، كان جزاؤهم تنفيذ حكم الإعدام فيهم، جنبا إلى جنب مع الثوار المصريين، ومع استمرار وتواصل ثورات المصريين ضد البطالمة، كان الانقسام بين رجال الأمن البطالمة واضحا، فقد ظل موقفهم يعبر تارة عن الولاء للقصر، ويعبر تارة عن انتمائهم للثوار، حد الاصطفاف الواضح معهم، ولم يقدر لذلك أن يتكرر فى العصرين التاليين، الرومانى والبيزنطى، وربما يجد لتفسيره سنداً، فى أن جنود البطالمة جاءوا إلى مصر فى إطار استعمار سكنى، فخرجوا من أطرهم العسكرية الموظفة أساسا لقمع المصريين، والسيطرة عليهم، إلى حياة المصريين ذاتها، التى دخلوا إليها، وتشاركوا فيها، فانخرطوا مع المصريين فى صفوف حياتهم اليومية، وعاشروها حد الاندماج، فى ثقافتها وعاداتها ومثلها، حيث أصبحوا بالتالى جزءا من المادة الهيلينية التى امتصتها مصر، وهضمتها، ومصرتها، كعادتها عبر فصول التاريخ، ولم يقدر لمستعمرة فى التاريخ، من قبل ومن بعد، أن تفرض طابعها الوطنى، وحاجتها الوطنية، حتى على أفئدة جنود مستعمريها.

كان العصر الرومانى، عصر شدة وتسلط واستنزاف، فقد أصبحت مصر سلة خبز الامبراطورية الرومانية، ولهذا تميزت مصر عن غيرها من الولايات الرومانية، بوجود حامية عسكرية، تضم قوات أمن محترفة، لحماية الصحارى والوديان، حقيقة أن هذا النظام قد ظهر من العصر البطلمى، فى شكل قوات ثابتة ذات مهام خاصة، وأجور دورية للخدمة، ولكنه تحول مع الرومان إلى نمط مختلف، يعتمد على ذوبان هذه القوى داخل بنية الجيش، حيث تم توحيد هذه القوى، منذ أوائل الاحتلال الرومانى لمصر، ولكن دورها الفعلى، لم يظهر الا فى نهاية القرن الثانى الميلادى وبداية القرن الثالث، إضافة إلى أنه كان على الجنود بجانب مهمتهم التقليدية فى تأمين حدود الامبراطورية، القضاء على الثورات والهبات والاضطرابات، التى كانت سمة مميزة، والعمل على تحقيق الحد الأقصى من الأمن العام.

لقد تغيرت بعض معالم صور الأمن فى العصر البيزنطى، الذى لم يكن أكثر من استعمار ناهب مستغل ولص، ففى بدايته غدت المهمة

الأولى لشرطة المستعمر، جمع الضرائب باستخدام القوة، إذا لزم الأمر، فضلا عن أعمال الحراسة، وكان أهم أدواتها، الضرب والطرح- أيضاً- والوطء بالقدم وايذاء الجسد، وأحياناً القتل بطريقة غير مباشرة، وفى مرحلة تالية، تحولت مسئولية جمع الضرائب من الأمن الداخلى، إلى مسئولية جماعية تقع على عاتق سكان القرية، دون استثناء، بمعنى أن كل قرية مسئولة عن سداد الضرائب المفروضة عليها، وهى مسئولة على نحو جماعى، عن سد أى عجز فى قيمتها، ما دفع صغار المزارعين إلى التخلى عن أراضيهم طائعين لكبار الملاك، ليقوموا بسداد الضريبة باستمرار، مقابل امتلاكهم للأرض، حيث تحولت قرى بأكملها إلى حوزة كبار الملاك، عجزا عن سداد صغار الملاك للضرائب الباهظة المفروضة عليهم، وقد انعكس ذلك على صورة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التى عانت من تناقضات حادة، ومن تفشى الفقر حد بيع الأبناء تحت إكراه سيف العوز والجوع، كما انعكست على أنماط ومعدلات الجريمة، التى زاد انتشارها بشكل مريع، خاصة جرائم السرقة، ولهذا تمتعت شرطة المحتل، فى هذا العصر غالبا، بالحق فى إصدار الأحكام على المتهمين، خاصة فى توقيتات عدم انعقاد المحكمة المختصة، بل جرى وضع تنظيم غير رسمى أو معلن لجرائم السرقة، أورده أحد المؤرخين وهو «ديدور» حيث نقل أن القانون الموضوع كان يطالب من ينضم إلى صفوف اللصوص، بأن يبلغ كبير اللصوص، وبأن يتعهد ويمارس تسليمه كل ما قام بسرقته فى كل مرة، اما المسروق فعليه أن يتقدم بطلب إلى كبير اللصوص، طالبا رد مسروقاته، شرط أن يدفع مقدما ربع قيمتها.

اما ما أضيف إلى مناصب الشرطة خلال العصر، على مستوى القرى، فكان منصبا العمدة وشيخ البلد، والأول هو المسئول عن النواحى المالية والقضائية، اما الثانى فهو المسئول عن جمع أموال الضرائب المقررة، وعن مياه فيضان النيل، والخزانة وحراس الحقول، وهكذا تحولت الاقاليم المصرية وعواصمها، إلى حكم اقرب إلى الاستقلال الذاتى، فقد قسمت مصر، لضمان أفضل صيغ لاستغلالها، إلى قطع، ثم نتف صغيرة، يسهل ازدرادها، وتحول الجيش البيزنطى، إلى قوة للأمن الداخلى، مهمتها الأساسية قمع الثورات، وتصفية كل اشكال المقاومة، واطفاء الاضطراب الكبير، الذى وصل إلى حد استقلال طيبة فى الجنوب عن الإسكندرية فى الشمال، وفى هذه المرحلة التى تداعى فيها الأمن، وحل الخوف، وأصبح القضاء نفسه سلعة قابلة للشراء، أصبح لكبار الملاك شرطة خاصة، رغم عدم وجود ولاية قضائية لهم على املاكهم، بل أصبحت لهم محاكم وسجون خاصة، بهم وبقضاياهم.

مع ضعف دور الدولة المركزية التاريخية، وتصدع الأمن على هذا النحو، بدأ ظهور دور الكنيسة فى استعادة الأمن.

ومع تدهور وانهيار عوائد الزراعة والإنتاج والاقتصاد عموماً، لم يتوقف حلب مصر، فبعد أن جف اللبن أو كاد، تواصل حلب الدم، ونزلت أوضاع الفلاح المصرى، إلى حفرة عميقة من البؤس والجوع، متواكبة مع البطش والإرهاب ومع تصدع حلقات الأمن، يبدأ دور الكنيسة المصرية فى استعادة بعض الأبعاد المفقودة، بعد أن تحول العصر مع ظهور المسيحية، إلى عصر اضطهاد دينى وحروب طائفية، فقد أصبحت القبطية المصرية، سلاحاً للمقاومة الوطنية ضد المستعمر، وغدا الصراع رغم مظهره الدينى، صراعاً قومياً فى جوهره، بل شكل قمة المرحلة الأخيرة فى حرب التحرير المصرية ضد الاستعمار البيزنطى.

تزلزلت أقدام البيزنطيين، تحت ضربات المقاومة المصرية، مع ما لحق بالأمن العام من تصدع، وما اعترى مصر ذاتها من خلال حكمهم، مع استنزاف وإرهاق ووهن، ثم ما غلب على الصراع فى مراحله الأخيرة، من اضطهاد ودموية وعنف.

ولذلك انفرد العرب عند دخولهم مصر، بالترحاب من جانب المصريين، رغم وجود بؤر مقاومة، غلب عليها الطابع السلبى، ولم يكن ذلك مرده- فقط- إلى أن المصريين وجدوا فى الفتح العربى، مخلصاً من الاستعمار البيزنطى، فمن الصعب إنكار أن مصر قد تعرضت إلى إشعاعات العروبة، قبل الإسلام بقرون، وأنها تعرفت على العرب فى غدوهم ورواحهم وسكنهم، وهم يبحثون عن الخضرة، والكلأ، فى معمور نيلها الوسع، ولا مراء أن الفتح العربى قد أكمل تعريب مصر، لكنه لا مراء- أيضاً- أن مصر قد مصرته، فقد انتقلت جذور الحضارة المصرية، التى لم يغب توهجها، إلى القادمين الجدد، فجلسوا فى مدرستها الحضارية المفتوحة، وانتقلوا بها ومعها، إلى أفق حضارى أوسع وأعمق، حتى اكتمل بمرور الوقت، توجههم إلى الاستقرار والتوطن والانصهار،

كما يروى أن أهل مصر، تشاءموا بعبدالله بن عبدالملك بن مروان، فى ولايته عليهم، وذلك أن الطعام غلا فاضطربوا لذلك، وكانت أول شدة رآها أهل مصر فبلغ ذلك عبدالله، فعزل صاحب الشرطة والقضاء.

لقد ارتكز التنظيم الإدارى لمصر فى العصر الإسلامى، على التنظيم الإدارى ذاته لمصر، فى العصر البيزنطى، وما قبله، فقد اتسم النظام الإدارى المصرى، الذى يعود إلى العصر الفرعونى بقدر هائل من الثبات تاريخياً، كانت مصر مقسمة إلى مصر السفلى «الدلتا» ومصر العليا «الصعيد»، وينقسم كل منهما بدوره إلى أقاليم، مقسمة بدورها إلى كور، تشتمل كل واحدة منها على أعداد من القرى.

وفى بواكير الفتح الإسلامى، واستقرار حكم الولاة التابعين للخليفة الأموى ثم العباسى، كان الوالى الذى عينه الخليفة، هو المسئول عن إدارة شئون البلاد، بينما كان أغلب معاونيه الأساسيين لا يخضعون لسلطانه، وانما لسلطان الخليفة فى عاصمة الخلافة، على نحو مباشر كصاحب القضاء، وصاحب الخراج، وصاحب البريد، فالأخير يتبع الخليفة مباشرة، باعتباره يمثل جهاز المخابرات المحلى، المسئول عن إمداد الخليفة بكل المعلومات السياسية والعسكرية، أما صاحب الخراج وهو المسئول عن جباية الأموال، وتصديرها إلى مركز السلطة فى دمشق أو بغداد، فيمكن تفسير ارتباطه المباشر بالخليفة فى المركز، بالخشية من أن يطمع الولاة فى الاستقلال بولايتهم، إذا دانت لهم السيطرة المالية عليها، غير أن الملاحظ من وثائق هذا العصر، أن صاحب الشرطة «وزير الداخلية» كان يتمتع بصلاحيات أكبر، ونفوذ سياسى أقوى، بين مكونات النظام الإدارى، فى إدارة الشئون الداخلية، وهو ما يؤكد الأهمية الخاصة التى نظر بها العرب، إلى قضية الأمن والاستقرار وتماسك الأوضاع الداخلية، فقد كان صاحب الشرطة، يعد نائباً للوالى، يؤم الناس فى الصلاة، إذا مرض الوالى، ويمارس سلطة الحكم إذا خرج من مقر ولايته، أو إذا أدركته الوفاة، وإضافة إلى وظيفته فى حفظ واستتباب الأمن، فقد كان مسئولا عن تتبع الخصوم السياسيين والقبض عليهم، وعن تنظيم الأمور الدينية، وكثيراً ما يدخل فى صلب السلطة الإدارية.

كان مقر صاحب الشرطة فى «الفسطاط» وحين انشئت «العسكر» على يد أول الولاة العباسيين فى مصر، انشئت شرطة جديدة، سميت الشرطة العليا، اتخذت مقرا لها جنوبى الموقع الذى شيد فيه ابن طولون المسجد الجامع، وأصبحت هناك شرطتان، إحداهما تسمى العليا، والأخرى تسمى السلفى، باعتبار المكان لا المكانة.

كانت الشروط التى أوجب فقهاء المسلمين توافرها فى صاحب الشرطة، تنص على أن يكون «حليماً، مهيباً، دائم الصمت، طويل الفكر، بعيد الغور، وأن يكون غليظاً فى أهل الريب، وأن يكون نظره شزراً، قليل التبسم، وغير ملتفت إلى الشفاعات».

ورغم أن الولاة التزموا- غالباً- فى اختيارهم لأصحاب الشرطة، وفيما وضعوه بين أيديهم من تكليفات، وتعليمات، ووصايا بذلك، الا أن الملاحظة الأولى فى ذلك، أن ثمانية عشر والياً من ولاة مصر، قد عينوا أقارب لهم من الدرجة الأولى والثانية أحياناً، سواء كان أبناء أو إخوة، أو أبناء عمومة، فى هذا المنصب، وهو ما يعنى تقدم الولاء الشخصى على غيره من الشروط.