الجامع الكبير .. حُسْنُ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ _ وَتَوَاضُعُهُ
د. محمد سعيد رسلان
كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ _ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} «القلم: 4».
اُنْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ _ كَانَ حين يكون مُحَدِّثًا قَوْمًا، يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ فِي مَجْلِسِهِ أَنَّهُ يُحَدِّثُهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ _ يُوَزِّعُ إِقْبَالَهُ وَنَظَرَاتِهِ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى قَدْرٍ مُسْتَقِيمٍ مُتَسَاوٍ _، فَلَا يَحْسَبُ وَلَا يَظُنُّ وَاحِدٌ مِنَ الْجَالِسِينَ، أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الرَّسُولِ _، بَلْ كُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللهِ _ المقربين.
وَإِذَا صَافَحَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ _، لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ مُصَافِحِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلِّمُ - الْمُصَافِحُ الْآخَرُ- هُوَ البَادئُ يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ _.
وَكَانَ النَّبِيُّ _ لَا يَقُولُ لِشَيْءٍ: لَا، قَطُّ.
مَا قَالَ: لَا قَـطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّــدِهِ *** لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمُ _.
وَمَا سُئِلَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ؛ فَالدُّنْيَا جِيفَةٌ وَطُلَّابُهَا كِلَابٌ، وَ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ))، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ _.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ –أَيْضًا-: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)).
وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْأَحَاسِيسِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتِ الْأَحَاسِيسَ الْمُهَوِّمَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَحَاسِيسُ الْمُنْضَبِطَةُ، هَذَا الدِّينُ دِينُ الْأَحَاسِيسُ الْمُنْضَبِطَةُ.
وَانْظُرْ إِلَى رَسُولِ اللهِ _، اِمْرَأَةٌ مِنَ الْمِسْكِينَاتِ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا بِلَحْمٍ، فَهُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، تُهْدِيهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ _، فَيُطْبَخُ، وَيُقَدَّمُ إِلَى النَّبِيِّ _، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، قَالُوا: أَعْلِمُوا النَّبِيَّ _ بِمَا سَيَأْكُلُ.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى فُلَانَةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الرَّسُولِ _ لَا تَجُوزُ، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَيَأْخُذُهَا، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَقْبَلُهَا _.
مَا الَّذِي قَالَهُ الرَّسُولُ _؟
هَلْ رَدَّ هَذَا اللَّحْمَ الَّذِي جَاءَهُ هَدِيَّةً؟
قَالَ: ((هُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ، وَعَلَيْنَا صَدَقَةٌ)) _.
كَانَ النَّبِيُّ _ أَشَدَّ النَّاسِ حَسَاسِيَةً فِي مَسْأَلَةِ -قَضِيَّةِ- الْمُعَامَلَةِ، لَمْ يَكُنْ يُحِدُّ الْبَصَرَ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، يَعْنِي لَا يَجْعَلُ نَظَرَهُ شَاخِصًا فِي نَظَرِ مُكَلِّمِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَخْفِضُ بَصَرَهُ كَاسِرًا لَهُ أَمَامَ بَصَرِ رَسُولِ اللهِ _.
فَكَانَ النَّبِيُّ _ أَلْطَفَ النَّاسِ عِشْرَةً.