عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الحِلْم سَيِّدُ الأَخْلاقِ

الدكتور إبراهيم البيومى
الدكتور إبراهيم البيومى إمام وخطيب مسجد السيدة زينب

إِنَّ الإِنْسَانَ وَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي جَنَبَاتِ هَذِهِ الحَيَاةِ، فِي صَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ، وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، وَعِنْدَ أَهْـلِهِ وَجِيرَانِهِ وَإِخْوَانِهِ، رُبَّمَا مَرَّتْ بِهِ المَوَاقِفُ العَصِيبَةُ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ إِلَى الغَضَبِ، وَلَوْ تَابَعَهُ لأَدَّى بِهِ إِلَى المَهَالِكِ، فَيَحْـتَاجُ إِلَى أَنْ يَمْـلِكَ نَفْسَهُ وَيَتَزَيَّن بِثَوْبِ الحِلْمِ حَتَّى يَتَّسِعَ عَفْوُهُ لِلْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالرَّفِيعِ وَالوَضِيعِ، وَالمُتَعَلِّمِ وَالجَاهِلِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا وَصَفَ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ الَّذِينَ يُبَوِّئُهُمْ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؛ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ: : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، فَهُمْ يَكْظِمُونَ غَيْظَهُمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى إِنْفَاذِهِ، وَيَعْـفُونَ عَنِ النَّاسِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الانْتِقَامِ، وَتِلْكَ خِصَالُ المُحْسِنِينَ، الَّذِينَ استَوْجَبُوا مَحَبَّةَ رَبِّ العَالَمِينَ،

بهذا بدأ الدكتور إبراهيم البيومى إمام وخطيب مسجد السيدة زينب حديثه حول الحلم سيد الأخلاق وأضاف قائلا:

 وَقَدْ أَوْصَى اللهُ نَبِيَّهُ بِالعَفْوِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ رسول الله : ((مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْـفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، وَكَذَلِكَ بَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّ القَوِيَّ حَقًّا هُوَ مَنْ قَاوَمَ الغَضَبَ وَدَفَعَهُ، وَلَيْسَ الشَّدِيدُ هُوَ الغَلِيظَ الَّذِي يَصْرَعُ الآخَرِينَ، يَقُولُ صلي الله عليه وسلم : ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْـلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ))، وَعِنْدَمَا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي، قَالَ لَهُ: ((لا تَغْضَبْ))، فَكَرَّرَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي، قَالَ لَهُ: ((لا تَغْضَبْ))، فَكَرَّرَ الرَّجُلُ طَلَبَهُ ثَلاثًا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي، قَالَ: ((لا تَغْضَبْ))، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ رَسُولَ اللهِ  أَنْ يُوصِيَهُ بِوَصَايَا عِدَّةٍ، وَالرَّجُلُ يَسْـتَزِيدُهُ مِنَ الوَصَايَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ  لا يَزِيدُهُ إِلاَّ أَنْ يُحَذِّرَهُ مِنَ الغَضَبِ، وَذَلِكَ لأَنَّ الغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، يَدفَعُهُ إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ حُدُودَ اللهِ، وَأَنْ يَظْلِمَ عِبَادَ اللهِ، وَأَنْ يَقْتَرِفَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَلَوْ مَلَكَ نَفْسَهُ عَنِ الغَضَبِ لَصَلَحَتْ سَائِرُ أُمُورِهِ.

إِنَّ الحِلْمَ سَيِّدُ الأَخْلاقِ، فَمَا تَحَلَّى بِهَذَا الخُلُقِ إِنْسَانٌ إِلاَّ زَانَهُ، وَمَا حُرِمَ مِنْهُ أَحَدٌ إِلاَّ شَانَهُ، وَلأَجْـلِ أَنْ يَكُونَ الحِلْمُ وَالعَفْوُ فِي الإِنْسَانِ سَجِيَّةً لا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالدُّرْبَةِ وَالمِرَانِ عَلَى كَظْمِ الغَيْظِ وَالصَّـفْحِ عَنْ أَخْطَاءِ الآخَرِينَ، فَقَدْ قِيلَ: "إِنَّمَا الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ"، وَالنَّفْسُ البَشَرِيَّةُ مُتَقَلِّبَةٌ؛ فَلا بُدَّ مِنْ تَزْكِيَتِهَا بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَفِي مُقَدِّمَةِ الأَخْلاقِ الصَّـفْحُ وَالحِلْمُ وَالعَفْوُ، أَمَّا إِذَا تَفَلَّتَتْ هَذِهِ النَّفْسُ فَإِنَّهَا تُؤَدِّي بِصَاحِبِهَا إِلَى التَّهَوُّرِ وَالطَّيْـشِ وَالظُّلْمِ. إِنِّ الحَيَاةَ فِي تَقَلُّبِ أَهْـلِهَا تُرِيكَ ضُرُوبًا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالمَوَاقِفِ الَّتِي قَدْ تَدفَعُ إِلَى الغَضَبِ وَالانْفِعَالِ، فَإِذَا لَمْ يُوَطِّنِ المُؤْمِنُ نَفْسَهُ عَلَى الحِلْمِ وَالعَفْوِ لَمْ يَستَطِعِ اتِّخَاذَ المَوقِفِ الصَّحِيحِ مِنْ تِلْكَ المَوَاقِفِ، وَلَرُبَّمَا صَبَرَ وَغَفَرَ فِي مَوقِفٍ أَوْ مَوقِفَيْنِ، وَلَكِنْ مَعَ تَكْرَارِ تِلْكَ المَوَاقِفِ الَّتِي تَستَثِيرُهُ وَتُغْضِبُهُ رُبَّمَا خَرَجَ عَنْ طَوْرِهِ وَارْتَكَبَ الحَمَاقَاتِ، لِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى ضُرُوبِ الشَّدَائِدِ، حَتَّى يَصِيرَ الحِلْمُ وَالعَفْوُ لَهُ سَجِيَّةً وَخُلُقًا وَنِبْرَاسًا يُضِيءُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا. إِنَّ المُسلِمَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَعتَصِمَ بِالحِلْمِ فِي مُعْـتَرَكِ حَيَاتِهِ اليَوْمِيَّةِ، فَمَثَلاً عِنْدَ سِيَاقَتِهِ لِسَيَّارَتِهِ فِي خِضَمِّ الزِّحَامِ قَدْ تَضِيقُ أَخْلاقُ بَعْضِ النَّاسِ؛ فَهَذَا يُزَاحِمُ، وَذَلِكَ يَغْضَبُ، وَثَالِثٌ يَنْفَعِلُ، لأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَى عَمَلِهِ أَوْ مَقْصِدِهِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَرُبَّمَا رَفَعَ صَوتَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا لا يَلِيقُ، وَهُنَا يَأْتِي دَوْرُ الحِلْمِ وَالأَنَاةِ، لَيَسْـتَلَّ مِنَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ نَزَغَاتِ الهَوَى وَطَيْـشَ الانْفِعَالِ وَالخِصَامِ. كَذَلِكَ المَرْءُ فِي وَظِيفَتِهِ، عِنْدَمَا تَزِيدُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ، وَتُرْهِقُهُ مَسْؤُولِيَّاتُهُ، فَرُبَّمَا دَخَلَ فِي شِجَارٍ مَعَ زُمَلائِهِ، أَوْ حَصَلَ سُوْءُ فَهْمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ، أَوْ لَمْ يَنَلِ التَّكْرِيمَ الَّذِي يَستَحِقُّهُ عَلَى إِخْلاصِهِ وَتَفَانِيهِ، فَهُنَا لا بُدَّ أَنْ يَتَحَلَّى المُؤْمِنُ بِالعَفْوِ وَالصَّـفْحِ، وَأَنْ يَتَّسِعَ صَدْرُهُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ مَا سَارَ نِظَامُ العَمَلِ، وَحَلَّ الخِصَامُ مَحَلَّ الوِئَامِ، وَوَقَعَ التَّقَاطُعُ مَكَانَ التَّوَاصُلِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى الحِلْمِ وَالحِكْمَةِ، وَالرِّفْقِ وَالمُعَامَلَةِ الحَسَنَةِ.

 

إِنَّ المُسلِمَ الحَقَّ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ الأَخْلاقَ وَالعَفْوَ، وَيَبْـتَعِدُ عَنِ الانْتِقَامِ وَالظُّلْمِ، وَهَذِهِ هِيَ أَخْلاقُ الأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -، فَهَذَا يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَعْـفُو عَنْ إِخْوَتِهِ وَقَدْ فَعَلُوا فِيهِ مِنَ الكَيْدِ وَالإِبْعَادِ وَالأَذَى الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَحَسَدُوهُ وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْـلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين[([])، وَالَّذِي لَحِقَ يَعْـقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنْهُمْ لَيْسَ بِأَقَلَّ مِمَّا لَحِقَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ-، وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ الصَّـفْحَ وَالعَفْوَ قَائِلِينَ: ياأبانا استغر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين [([])؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَولِهِ: ] سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور الرحيم[([])، إِنَّهَا القُلُوبُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي لا تَعْرِفُ لِلانْتِقَامِ مَوْضِعًا، وَلَكِنَّهَا حَالَفَتِ الحِلْمَ وَالأَنَاةَ وَالعَفْوَ وَالصَّـفْحَ، وَكَذَلِكَ لَقِيَ سَائِرُ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ مِنْ أَذَى أَقْوَامِهِمْ، فَلَمْ يَضِيقُوا ذَرْعًا بِصُدُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، بَلْ صَفَحُوا وَحَلُمُوا، وَانْظُرُوا   - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى عُتُوِّ وَالِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، إِذْ يَقُولُ لِوَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ نَصَحَهُ بِكُلِّ رِفْقٍ وَأَدَبٍ: ] أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لأرجمنك واهجرني مليا  [([])، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ  - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ]   سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا[([])، وَسَيِّدُ الخَلْقِ مُحَمَّدٌ r دَعَاهُ رَبُّهُ إِلَى الصَّـفْحِ الجَمِيلِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ]فاصفح الصفح الجميل [([])، فَجَسَّدَ هَذَا الخُلُقَ العَظِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلامُ - فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، كَمَوقِفِهِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، إِذْ قَالَ لِقُرَيْـشٍ الَّتِي أَخْرَجَتْهُ مِنْ دِيَارِهِ، وَآذَتْهُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ، وَنَاصَبَتْهُ العِدَاءَ، وَدَبَّرَتْ لَهُ المَكَايِدَ: ((مَا تَظُـنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟)) قَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: ((لا أَقَولُ إِلاَّ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ))، هَذِهِ هِيَ عَظَمَةُ الحِلْمِ وَالصَّـفْحِ، وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ شُجَّ  وَلَحِقَتْهُ جِرَاحَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ قَلْبُهُ الكَبِيرُ يُرَدِّدُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْـلَمُونَ))، ثُمَّ كَانَتْ وَصَايَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - لأُمَّـتِهِ بِالحِلْمِ، يَقُولُ  : ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ

مِنَ الحُوْرِ مَا شَاءَ))، وَقَالَ       - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ((مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ أَجْرًا مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى)).

وأوضح الدكتور ابراهيم البيومى امام وخطيب مسجد السيدة زينب قائلا:

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَوَاطِنِ الحِلْمِ وَالعَفْوِ أَجْرًا وَمَثُوبَةً، عِنْدَمَا يَقْدِرُ المُسلِمُ عَلَى الانْتِقَامِ وَالعُقُوبَةِ، فَإِذَا رَدَّ غَيْظَهُ بِالحِلْمِ وَأَتْبَعَهُ بِالعَفْوِ وَكَمَّـلَهُ بِالإِحْسَانِ فَتِلْكَ هِيَ المَرَاتِبُ العَلِيَّةُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ] والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[([])، فَتِلْكَ مَرَاتِبُ ثَلاثٌ: كَظْمُ الغَيْـظِ

أَوَّلاً، ثُمَّ العَفْوُ وَالصَّـفْحُ الجَمِيلُ، ثُمَّ الإِحْسَانُ إِلَى المُسِيْءِ، لِذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَهُمُ الأَوفَى بِقَولِهِ: أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ[([])، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ المُؤْمِنِينَ: والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون[(])، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ العَفْوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ، فِي حِينٍ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ لَنَا أَنَّ العَفْوَ هُوَ قِمَّةُ السُّمُوِّ وَالقُدْرَةِ وَالقُوَّةِ؛ لأَنَّهُ عَفَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ لِنَفْسِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: ] ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور[()، وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ قُتِلَ سَيِّدُنَا حَمْزَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَمُّ رَسُولِ اللهِ r، وَلَمْ يَكْتَفِ المُشْرِكُونَ بَقَتْلِهِ بَلْ مَثَّلُوا بِجُثَّـتِهِ تَمْـثِيلاً بَشِعًا، وَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - عَلَى ذَلِكَ المَنْظَرِ المَلِيْءِ بِالحُزْنِ، فَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّ مَكَانَهُ سَبْعِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ قَولَهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فعاقبوا بِمِثْلِ مَا عوقبتم به سبب النزول[)، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّ العُقُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِالمِثْلِ مَهْمَا كَانَ المَقْتُولُ قَرِيبًا وَحَبِيبًا، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الصَّبْرِ، مُبَيِّنًا أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ مِنَ العُقُوبَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ بَلْ أَتْبَعَهَا قَولَهُ: ] واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق مما يمكرون[()، فَانْظُرُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - كَيْفَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ لِنَبِيِّهِ  بِالعُقُوبَةِ فِي هَذَا المَوقِفِ، مَعَ قُدْرَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَاخْتَارَ لِنَبِيِّهِ الصَّبْرَ وَالصَّـفْحَ وَالحِلْمَ، فَأَيُّ أَخْلاقٍ بَعْدَ هَذِهِ الأَخْلاقِ؟ وَأَيُّ مَبَادِئَ سَامِيَةٍ بَعْدَ تِلْكُمُ الخِصَالِ النَّبِيلَةِ الرَّفِيعَةِ؟

فَاتَّقُوا اللهَ - إِخْوَةَ الإِيْمَانِ -، وَرَبُّوا النُّفُوسَ عَلَى الحِلْمِ وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَالزَمُوا كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا.

قَدْ تَنْشَبُ بَعْضُ الخِلافَاتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ تَوَافِهِ الأُمُورِ، وَعِنْدَمَا يَفْقِدُ الزَّوْجَانِ الحِلْمَ، وَيَستَولِي عَلَيْهِمَا الغَضَبُ، يَرْكُضُ بَيْنَهُمَا الشَّيْطَانُ بِخَيْـلِهِ وَرَجِـلِهِ، فَتَسْـتَعِرُ البُيُوتُ نَارًا، وَيَتَقَوَّضُ بُنْيَانُ العَلاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَتَشَتَّتُ الأُسَرُ، وَبِقَلِيلٍ مِنَ الحِكْمَةِ وَالحِلْمِ تُحَلُّ الأُمُورُ، فَإِذَا بِالغَضَبِ يَتَلاشَى، وَإِذَا بِالخِصَامِ يَنْقَلِبُ إِلَى حُبٍّ وَوِئَامٍ. كَذَلِكَ المُعَلِّمُونَ فِي حَقْلِ التَّدْرِيسِ، قَدْ يُصَابُ بَعْضُهُمْ بِالغَضَبِ بِسَبَبِ سُلُوكٍ سَيِّئٍ مِنْ أَحَدِ الطَّلَبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَسَلَّحْ ذَلِكَ المُعَلِّمُ بِالصَّبْرِ وَالحِلْمِ عَادَ عَلَى طُلاَّبِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ تَوَازُنِهِ، وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ المُؤَسَّسَاتِ وَمَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنَ المُوَظَّفِينَ، فَالحِلْمُ هُوَ الَّذِي يُحْكِمُ زِمَامَ الأُمُورِ كُلِّهَا، وَلَولا ذَلِكَ لانْفَلَتَتْ وَتَعَطَّلَ الإِنْتَاجُ، وَالمُسلِمُ أَحَقُّ مَنْ يَأْتَزِرُ بِالحِلْمِ وَأَولَى، وَيُحَالِفُ الصَّبْرَ وَالصَّـفْحَ، وَإِلاَّ مَا حَقَّقَ الغَايَةَ المَرْجُوَّةَ مِنْ إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى بَرِّ الأَمَانِ، فَالحِلْمُ سَيِّدُ الأَخْلاقِ؛ يَأْسِرُ قُلُوبَهُمْ، وَيَهْدِي ضَالَّهُمْ، يَقُولُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[()، وَهَذِهِ المَنْزِلَةُ الرَّفِيعَةُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لا يَنَالُهَا إِلاَّ أَهْـلُ المَقَامَاتِ العُلَى مِمَّنْ تَدَرَّعَ بِالصَّبْرِ وَالحِلْمِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَولَهُ:
 

وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ . إِنَّ تَجَارِبَ الوَاقِعِ تُثْبِتُ أَنَّ أَكْثَرَ المُشْكِلاتِ تَنْشَبُ بِسَبَبِ تَوَافِهِ الأُمُورِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الغَضَبِ، فَيَنْفَخُ فِيهَا الشَّيْطَانُ، فَيُوغِرُ الصُّدُورَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ وَالإِخْوَةِ وَالجِيرَانِ، فَتَتَحَوَّلُ مَحَبَّـتُهُمْ إِلَى عَدَاوَةٍ، وَصِلَتُهُمْ إِلَى قَطِيعَةٍ، وَتَظَلُّ بَعْضُ المُشْكِلاتِ رَدَحًا مِنَ الدَّهْرِ تَستَحِيلُ عَلَى الحَلِّ، وَلَوْ عُولِجَتْ فِي وَقْتِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الأَنَاةِ وَالحِلْمِ وَالصَّـفْحِ الجَمِيلِ لَتَبَخَّرَتْ فَلا يَبْـقَى لَهَا أَثَرٌ.

فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَلْنُحَالِفِ الحِلْمَ وَالأَنَاةَ وَالصَّـفْحَ الجَمِيلَ، فَبِهَا تَصْـفُو المَوَدَّاتُ، وَتَقْوَى العَلاقَاتُ، وَتَتَلاشَى جَمِيعُ المُشْكِلاتِ.