رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بوابة آمنة للخروج "2"

بوابة الوفد الإلكترونية

«هذه هى ليلتى السادسة، وقد تعبت من إحصاء ساعات لقائى الأخير بها، الساعات ثكلى، جريحة تمر أمام مرآة الروح نازفة، تترك بصمات من الأسى على جدار الغرفة التى أقطن فيها أعلى بناية الايموبليا بوسط البلد، أعود من عملى بدار الكتب والوثائق وسط الضجيج الذى لا ينقطع فى النهار وصخب آلات تنبيه السيارات، أعترف أنى لم أنم إلا أقساطا أو نتفا متقطعة من سويعات زمانية فى الليل، أظنها هذا الوصف الأقرب لما يمر به حسين أبو الوفا محمود .....»

لا ...قام من جلسته واعتدل بقامة بدا عليها الانهاك، مزق الورقة التى كتب فيها واكتشف عشرات من الأوراق الممزقة مكومة بجواره، امتلأت مطفأة السجائر بأعقاب لفظت أحشاءها للخارج، ومن ثم عبأ الدخان أرجاء الغرفة،  ليس لديه رغبة لفتح نافذة الغرفة، طاف الدخان بصورة عبد الناصر، كل الأحلام القديمة بددتها سحب الدخان، حتى صورة عبد الناصر، طغى عليها الدخان فباتت ملامحه مموهة غير بائنة، بائس عبد الناصر خلف هذه الكومة، لم يلق بإسرائيل فى النهر ولم يجعل للفقراء وطنًا ينعمون بخيراته،  ما الذى يدفعنى للتفكير فى عبد الناصر الآن هل هو موعد مع الهزائم المتتالية للأحلام ....؟!

لما عرفنى بها علاء ؟..وما الحكمة من هذا الوصل الذى أعقبه ذلك البتر ؟!...لما استجمعت قواى واستشعرت رغبة جارفة لأن أمسك يدها ثم أتشبث بها عقب اللحن المنسكب فى الفراغ من أناملها تداعب أصابع البيانو، سرت موسيقى «عارفة» كأنما كانت تعويذة سحرية لفت كلينا، ثم غاب كلانا عن حيز الوجود، وكان العناق، لم أسكنها بل هى التى سكنت كل خلية فى الجسد، كانت المغامرة فى العناق وكان البؤس فى ذلك العناق ثم اليتم فى الغياب، هى تشبثت بى، ثم استمسكت بها، حدث كل هذا كأنما كان حلمًا داخل حيز مختلف من الزمان والمكان، لما انسكب عطرها داخل وعاء الروح، ثم فاح عقب غيابها ؟...لما غابت ؟...لم انزوت ولم أعد أعرف لها  طريقا يصلنى بها لعلى أقف أمامها طارحا ألف ألف سؤال ؟....

أنا لم أصف الأمر بشكل صحيح، الزمن لم يمر كساعات ثكلى، الزمن توقف عند هذه اللحظة التى سكنت فيها بها، لا يمر، لا يريد أن يمضى أو يتحرك قدر ثانية، أسترجعه بألف شكل وألف زاوية للرؤية، أسترجع البصيص الأول للعين، الدمعة المنسكبة على الخد فكأنما انسالت جدولا صغيرا منبعه عينها ومصبه بعين عين روحى، حدث كل هذا فى زمن لم أدركه ولم أحصه، ما أعرفه أننى عانقتها وأنها عانقتنى، أنها تعلقت برقبتى كمن يتعلق بجذع شجرة وسط دوامات شتى لا أعرف مصدرها أو جوهرها،  كان كتاب محيى الدين بن عربى هو الوسيلة الأولى للوصل، كان شاهدا على هذه اللحظة .

مست الروح بهذا السحر والخدر والغياب والتيه ثم اختفت، انتظرت هاتفى يرن يحمل رقمها أو اسمها الذى دونته، «مارية عبد الأحد سليم .القنصلية المصرية بباريس» دونت هذا الاسم بهوية العمل كى لا يتوه عن مخيلتى، بمجرد عودتى للغرفة دونته بدفتر قديم أحتفظ به، أحفظ فيه رقم والدى ووالدتى وأختى الوحيدة، ثم ابنتى التى ارتضت أن تعيش مع أمها عقب انفصالنا، وكانت هى معهم ضمن ما تبقى لى داخل هذه الدنيا، لكنها الآن تبددت، هاتفها لا يجيب، وآليت الاتصال عليها حتى جاءنى الصوت الآلى أن الهاتف مغلق، تحدثت مع علاء همزة الوصل الأولى للقائى بها، كان يتهرب من الحديث عنها، مرة يقول ربما عادت إلى عملها بباريس، ونصحنى بألا أذهب إلى مقر بنايتها مرة أخرى، ختم كلامه بأنني«رجل كبير ولا يصح أن يقوم البواب بإحراجى »...أين اختفت ولم تترك سببا للغياب ؟!...

ألف ألف تساؤل يدب مثل حراك النمل داخل الرأس، لا إجابة شافية أستطيع أن أقدمها لوقف هذا الحراك وهذا الوخز؟...تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، غدا الجمعة، عطلة عن العمل والاستيقاظ .....لا طاقة لى أن اتحمل هذا العراك كل هذا الوقت .

جرت يده على المنضدة، سحب هاتفه، ضغط باحثا عن اسم علاء، ثم داس على زر مكالمة ...

-الو ..أيوه يا علاء أنت ناوى تنام امتى .

-عم حسين ..مساء الدماغ العالى ..أنام إيه يا راجل ..النهارده ليل المكوك الفضائى  .

- مكوك إيه يا علاء ؟ ركز معايا ؟

-يابنى انت اللى مش مركز ...المكوك ..السطوح ياعم حسين يا نايم .

-آه صح أنا ناسى ...طيب أنا فى مشاكل لو جتلك دلوقت .

-مشاكل إيه يا راجل، ما انت عارف المكوك بيحب اللمة، بس ما تقعدش تكلمنى عن الوجد والوصل بتاع الدراويش بتوعك .اركب الاسانسير وكمل هتلاقينى فى المكوك تحت التكعيبة الخشب .العيال خلاص ناموا وانا حاليا بأجهز معدات المركبة الفضائية ..

ليل المقطم،  لم التفت إلا هذا اليوم أثناء مرور سيارة الميكروباص من محطة  السيدة عائشة إلى المقطم، مسجد سلطان العاشقين عمر ابن الفارض ...ياااااه، كأنما يواسينى بألمى، وانا ذاهب لعلاء مشاركه رحلته الفضائية، على سطوح البناية التى يسكن فيها .مزين اسم الشاعر بطراز عربى منمق على لافتة مضيئة كأنما يخبرنى بدرايته بحالى،  ياااااه، أبيات عمر ابن الفارض،  ببهائها وأسرها وسحرها، أين أنت الآن مارية ؟...وأى من أبيات سلطان العاشقين أهديها إليك وأنا الوحيد اليتيم فى ليل القاهرة صاعدا إلى سفح المقطم وحدى، أى أبيات أود أن اهديها لك إذا كنت جوارى الآن؟ ..لكنك لست جوارى، طغت على الذاكرة أبيات استجمعتها بصعوبة لشاعر الحب والفناء، أهديها إليك فى مكانك الذى لا أعرفه وغيابك الذى أصاب عينى فلم تنم وروحى لم تسكن أو تهدأ ..أهدى لك هذه الأبيات :« قلبى يُحَدّثنى بأَنّكَ مُتْلِفِى  ....روحى فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِف....لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي....لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي....ما لى سِوَى روحى وباذِلُ نفسِهِ....فى حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف....فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني.....يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ»...مارية ..أمى كما ناديتك حين تعانقنا فى لقائى الأول بك، الأول والأخير أمى، أنت لست بأمامى الآن، لست بجوارى،  كيف أقدم لك روحى بتعبير ابن الفارض وأنت الغائبة، ربما يكون هذا البيت هو الأنسب، ألفه فى دثار من ثوبى وأهديه لك :«عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا ....كَرَماً فإنّى ذَلِكَ الخِلّ الوَفي»...

      •      البنزينة ...الأستاذ اللى نازل البنزينة ..

      •      أه معلش سرحت.

      •      انا بانادى بقالى ساعة .

      •      معلش انا أسف .

أغلقت باب سيارة الميكروباص، متحرجا من مصمصة شفاه الكادحين فى الليل، العيون الناعسة قاصدة بيتها، لتستفيق إلى ساقية العمل فى الصباح، عبرت الشارع فى الاتجاه المقابل، بينما ترن فى أذنى أصداء أبيات ابن الفارض، أحاول الالتفات منتبها لمرور السيارات التى تنطلق مسرعة .

وصلت المكوك الفضائى، علاء بشورت بيتى، وفانلة ممزقة من الأسفل، يجلس على الكنبة أمامه موريس تكلا، جاره الذى يلتقيان معا كل خميس لركوب المكوك، موريس يأتى بمشروبه الملكى كما يسميه، أما علاء فيكتفى بشراء قرش حشيش، هو زاده فى رحلته عبر الفضاء، بان على وجهى الوجوم، مداعبتى لموريس فقدت رونقها، كنت أمازحه :«أهلا يا مقدس» اليوم ألقيت السلام على عجل وجلست مواجها لعلاء، يمتد بصرى فى الفراغ باحثا عن قبة المسجد، كأنما أريد من صاحب الضريح مشاركتى هذا السهاد وهذا الجفاء وهذا الجوى .

قال علاء ممازحا :«إيه انت بتدور على كوكب المريخ فى الفضا ؟»

-لا ...تفتكر قبة سيدى عمر بن الفارض ممكن تبان من عندك ؟

-الله يخرب بيت دماغك ...انا طلع عينى على ما جبت قرش الحشيش خلينى اركب المكوك وأطير ما تنزلنيش ياعم المجذوب .

-ياااااه المجذوب مرة واحدة يا علاء .

-اسمع يا حسين موريس مش غريب وهاقولك لاخر مرة قدامه ...انسى الفيلم ده وشيله من دماغك ؟

-عايز أعرف ياحسين ...التقيها لأستفهم ؟

-تستفهم من ايه يابو مخ تخين .....انت مفكر الناس كلها زيك عايشة فى جو عمر ابن الفارض وعمر الخيام بتاعك ده. حسين الموضوع خد أكبر من حجمه وبقى باين عليك أنك فى ملكوت تانى .

-طيب هل عادت لباريس ؟...سألته؟

      -اسأل نفسك .....مش عملت ناصح واتصلت بالسفارة المصرية هناك وسألت عليها .

      -أنت عرفت إزاى ؟...يبقى هى كلمتك ؟

      -اسمع يا بنى ...كلمتنى ما كلمتنيش ..الموضوع ده ينتهى وتشيله من دماغك ...مارية مش شكلنا، مارية لها دوايرها، وعوالمها الى نتوه فيها، مارية حلم ليلة صيف، زى الوقت اللى انت قاعد فيه هنا فى التوقيت ده، نسمة جميلة عدت على روحك ومشيت .

      -تدخل موريس بقوله «كرياليسون»

             قاطعه علاء ...

-ما تتكلم عربى أنت كمان هو إحنا فى قداس ياعم موريس .

             قاطعه موريس ..

-مسكين حسين يا علاء يبدو أنه استبد به الهوى ...

جرى على السيجارة التى فى يد علاء، سحب منها نفسًا عميقا وكتمه لثوان فى الداخل ثم حرره للفراغ دفعة واحدة، كأن ثمة أشياء تود أن تخرج كان بحاجة لتخدير الروح كى يحررها، ثم مرة أخرى سحب نفسا عميقا وحرره سريعا هذه المرة، استشعر نوبة من الخدر الحلو، غيابا عن موريس وعلاء، تبدت له ....قادمة هى مارية، ملامحها الحلوة، قادمة من بعيد، من مئذنة سلطان العاشقين عمر ابن الفارض، قادمة بملامح بهية لكنها حزينة، كأنما تمشى بتثاقل، من آثار ألم أو تعب استبد بها، خارت قدماه، استشعر خدرا فى وسط جسده السفلى، انتوى النضال للوقوف مستمسكا بيدها، خانته قدمه، لم تزل مارية بعيدة قادمة مرة ومتأخرة مرة، مد يده يستجديها فى العجلة والقدوم،  بصت مارية بعين ألمها، لعينه، قالت فى أذنه :«كنت أود أن تستكين بتلك العين، لكنك ستعانى كلما دخلت بئر ألمها»...يتردد فى روحه البيت اليتيم لابن الفارض «عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا.. كَرَماً فإنّى ذَلِكَ الخِلّ الوَفي»  تغيب مارية كأنما قدماها تعاودان التقهقر، يسقط جسد المحب على الأرض، يسعى للزحف محاولا أن يتتبع أثرها، يستشعر أثر برودة على وجهه، تتداخل اشكال لأشخاص عدة يسعون لحمله، ربما أشباح تتخطفه أو تحمله أو تود الإلقاء به من علٍ.. يغمض عينه مستسلما للحراك الذى يهز جسده ولا يشعر به، يغلق مفتاح الذاكرة على لحظة الثبات الزمنى، مارية.. مس يدها ليده.. موسيقى عمر خيرت تنسال فى المدى حالمة وأسرة ممزوجة ببيت ابن الفارض «عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا.. كَرَماً فإنّى ذَلِكَ الخِلّ الوَفي..» يتنسم عطر مارية الذى انسكب فى روحه فسكنه ثم جذبه ثم أفناه.