عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد.. مشالى .. الطبيب صاحب السر

 الدكتور محمد مشالى
الدكتور محمد مشالى

مائة وخمسون خطوة هى الحيز الفاصل بين بيتى وبين عيادة الدكتور محمد مشالى، يفرق شارعنا عنه مطلع «دحديرة صبرى» وتعرج بسيط مؤدٍ إلى شارع جانبى. وطيلة ما انقضى من عمرى بحسابات الأيام والسنين دام الوصل بينى وبين طبيب المبالى بمدينتى طنطا سر ووصل من نوع خاص قدر لى أن أكتبه الآن.

أبتديء بالبداية التقليدية، شأنى شأن كل أطفال الحارة تصطحبه الأم أثناء مرضه لعيادة الدكتور مشالى، كوب صغير تفرغ فيه بضع قطرات من مثانتك، ثم تتمدد على ظهرك مستكينًا، فى هذه اللحظة يكون تفكير الطفل بعيدًا عن الألم والمرض وأوجاع منعت النوم عنه، متمركزًا ودائرًا فى نوع الحلوى التى سيهديها لى الدكتور مشالى، وسبحان من أودع سر الطبابة فى عبده، جرعتان أو على الأكثر ثلاث جرعات ويتم الشفاء بإذن الله. إلى هنا كان تعامل الطفل مع الطبيب صاحب الأنف البارزة واللمسة الحانية، والسر الذى لم أعرفه.

في المرحلة الجامعية وتحديدا فى الفترة الأخيرة من التسعينيات، كنت أواظب على حضور المؤتمرات الشعبية التى كانت تقيمها نقابة الأطباء بمدينتى طنطا، إما كان المؤتمر لنصرة القدس أو إرسال بعثات طبية لبعض المنكوبين، كنت أستمع إلى خطب الأطباء الرنانة، فصيل اليسار الذى جذبنى فى بداية التكوين الفكرى للطالب الجامعى وحلم البروليتاريا والمطحونين فى حياة أفضل وتطبيب مواجعهم، الدكتور يحيى شرباش بنزعته اليسارية التى كانت تجذب آذاننا ثم أشعار معين بسيسيو وأخيرا صورة المناضل الأرجنتينى جيفارا للحلم بعالم أفضل. وقتها تولد بداخلى صدام نفسى مع الدكتور محمد مشالى، ولا أعلم سر هذا الصدام النفسى الذى نما خافتًا ثم تأجج ليصبح أشبه ببركان لم أكن بقادر على تكميم فوهته، فوجدتنى، أتوجه لعيادته، أعانى من بعض آلام القولون وكان وقتها ثمن الكشف بضعة جنيهات لا تتجاوز الخمسة. لكن الحقيقة أننى لم أذهب إليه طلبًا للعلاج بقدر ما كان ذهابى هو رغبة فى المواجهة، ولا أنسى ما حييت تفاصيل هذا اليوم.

كان الوقت ليلا، دفعت رسوم الكشف خلال ذلك الرجل الطيب الذى يجلس على مكتب مستطيل ويبدو من ثيابه أنه ينتمى لقرية ريفية قريبة من المدينة، ظل هذا الرجل لعقود مصاحبا للدكتور مشالى فى عيادته، وأزعم أنه أكثر من رافقه فى عالم البشر. ودخلت على الطبيب، الذى وجدته منهمكا فى قراءة مقال فى جريدة الوفد، ودعنى عزيزى القارئ أنقل لك بمشهد تصويرى وضعية وسينوغرافيا غرفة الكشف، حيث تجد على يمينك بمجرد الدخول، أكوامًا مكدسة من الكتب في مختلف المجالات، مسرح وشعر وقصة قصيرة ورواية واجتماع سياسى وفلسفة، كل هذه الكتب المكدسة والمتراصة بشكل طولى أشبه بالعمدان، مغطاة بملاءة قماش بيضاء، فيما تتناثر مجموعة من الصحف على منضدة الكشف أمامه، كان طبيبنا يقرأ، وما إن دخلت حتى نحّى الجريدة جانبًا، وتفحصنى بعينه. كان الطبيب مقتضب الكلام جدا جدا، لا يتحدث كثيرا، يتفحصك، ينتظرك، لتخبره عما تشعر من ألم، لكننى فى هذه المرة تأملته فى وضع تأهب للمواجهة، ثم باغتنى هو:

- «مم تشتكى؟»

وكانت هذه مواجهتى الأولى معه فقلت: أسمع يا دكتور حضرتك مثقف، وأعتقد مهتم بقضايا الناس، لماذا لم تشارك فى مؤتمر الأطباء الأخير وتسعى لمد يد العون؟

أجاب الطبيب مشالى: وهل لخصت مساعدة الفقراء فى خطب رنانة على منصات أمام قنوات التليفزيون؟

قلت له: لكن الإنسان موقف وحضرتك بحاجة إلى إثبات موقف؟

قال لى: «الموقف الحقيقى أن تكون صادقا مع نفسك وتعامل ربنا، وتترجم هذا الصدق فى عمل فعلى».

ثم أنهى المحادثة بصوت به حزم وحسم، متهيألى نشوف أنت جاى تشتكى من إيه؟

خضعت لصوته وتمددت على الشيزلونج كما كنت أفعل فى طفولتى، وعبر تفحص من يده أخبرنى أن المشكلة فى القولونج الذى يتعصب ثم كتب لى ثلاثة أصناف من الدواء، ويشهد الله أنها وقتها فعلت مفعول السحر لمداواة وتسكين الألم.

مرت سنوات العمر وكانت التساؤلات حول ذلك الرجل تثار بشكل به من التدافع والتتابع ما لم أستطع عليه صبرا أو تحملا، والحق أننى وجدت أن أجعله الطبيب الخاص بى لكافة شكايتى وآلامى فى كل التخصصات، حساسية جلدية أذهب للدكتور مشالى، ارتفاع فى ضغط الدم أذهب لدكتور مشالى، التهاب جيوب أنفية، سعال الصدر الناتج عن التدخين، أى شكاية كانت تأتينى من جسدى كان الدكتور محمد مشالى هو المستشفى الخاص بى، وكلما ذهبت إليه كانت التساؤلات تعتصر ذهنى أكثر فأكثر، واقتربت من الرجل اقترابًا محفوف بالمخاطر، اقتراب به من التوجس والحيطة والحذر الكثير كونه مقتضبًا جدا جدا فى الحديث، أقطع الكشف وأدخل لأتفحص مجموعة الكتب التى لحقت بأخوتها ولم تلحق الملاءة البيضاء أن تداريها. لكنى لم أستطع فض السر واكتشافه.

ومنذ سنوات قاربت السبع أو يزيد التقيت بالأستاذ محمد الوصيف رحمه الله بالمقهى الأحمدى المجاور لسيدى أحمد البدوى، كنا انتهينا وقتها من حضور حضرة دلائل الخيرات، أستمتع بالنظر إلى القوم وهم فى دائرة وجدهم بذكر سيد الأنام، كنت أجد فى الجلوس ومراقبتهم نوعًا من التطهر النفسى والروحى، أنا لا أنتمى للقوم، وليس بمقدورى دفع مهر الوصال، لذا أجلس مراقبًا لهم، دون حديث، وفور انتهاء الوصيف من الحضرة اصطحبنى للمقهى لتناول قهوتى، وإذ بالدكتور مشالى يمر أمامنا، فأجد الوصيف رحمه الله، يقف ويضع يده على رأسه تبجيلا ويقول للرجل المار: «اتفضل يا سيدى محمد» يرقبه الرجل ثم يلوح له بيده ويمضى دون أن ينطق، مسرعا فى خطوة كأنما يختبيء من الناس ويتخفى وسط حراكهم.

وقد استرعانى وشد انتباهى ما فعله الأستاذ الوصيف مع هذا الرجل فبادرته بالتساؤل: «لما قلت له سيدى محمد؟»

فرد على الأستاذ: «لأن الدكتور مشالى رجل من أهل الله وأوليائه».

فبادرته بالتساؤل: «لكنه لم يحضر مثلا حضرة دلائل الخيرات مثلك؟

هنا ضحك الوصيف رحمه الله واستطرد يحدثنى «ألم تسمع قول الشاعر كل الناس مفتون بليلى ولكن ليلى مفتونة بمن؟».

قلت للوصيف رحمه الله: لا أفهمك.

فاستطرد: ما الذى يدفع طبيبًا مثل الدكتور محمد مشالى أن يظل طيلة هذه الفترة مجاورا لصاحب المقام سيدى أحمد البدوى؟

قلت له ربما ليس ميسور الحال ولا توجد بدائل لأن يقتنى عيادة فى مكان آخر، فرد الوصيف: بالعكس هو ميسور الحال جدا وأماكن الإيجار متواجدة، وهو مشهور عند كل أهالى طنطا والجميع يتمنى أن يستأجر له عيادة في منزله.

سألته الوصيف مرة أخرى: «هل تعنى بأن العيادة التى تجاور ضريح سيدى أحمد البدوى بها قرب ووصل لأن الدكتور مشالى متصوف مثلا ومحب للسيد أحمد البدوى؟»

هنا ضحك الوصيف وقال: هل لا يملك الدكتور مشالى ثمن ثياب راقية ومنمقة وسيارة يشتريها؟

قلت: بالطبع يملك «فبادرنى الوصيف»: إذن لما لم يعر الناس اهتماما ويسير بهذا الشكل؟

أومأت برأسى جهلا بالجواب فأجابنى الوصيف رحمه الله: الدكتور مشالى مجذوب القلب وهو رجل رأى ما لم نستطع نحن أهل الدنيا رؤيته، هذه الجذبة جعلته فى طور تحقق الرجال فرأى الأشياء على حقيقتها، رأى أن الدنيا دار فناء ودار زخرف، استمع معى إلى قوله تعالى: «وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا فى الأرض» والرجل لا يريد علوًّا فى الأرض لأنه رأى الحقيقة بعين قلبه.

بادرت الوصيف بالتساؤل: لكن لا أحد يعرفه أو يكتب عنه أو يعلم بجهده أو مجهوداته مع الفقراء، على عكس آخرين يتصدرون المشاهد فى مؤتمرات وندوات مساعدة الفقراء.

فرد الوصيف: هذا اسمه الاخلاص مع الله، أن تفعل ما تؤمن به دون أن تنتظر مديحا من أهل الدنيا، واعلم يا ولدى، أن رفعة الذكر هى نفحة ومنحة يهديها الله لخواص عباده، تأمل معى قوله الكريم «ورفعنا لك ذكرك» هذه الهدية هى هدية من الله لخواص عباده.

استطاع الوصيف رحمه الله أن يغير زاوية رؤياى لهذا الرجل، بت أنظر إليه بنوع من الدهشة والتساؤل والرغبة، وكعادتى فى فض الأظرف المغلقة، وجدتنى أقطع كشفًا لأذهب لزيارة الطبيب الذى أناكف فيه، ولما رأيته انحنيت برأسى على يده أقبلها، لا أعلم لِمَ فعلت هذا، لا أعلم سببا جوهريا دفعنى لهذا، لكنى لا أزال أذكر نظرته لى، وقتها، نظرة دفعتنى أن أكتم فمى وألتزم الصمت، وتكررت زيارتى له وقت مرض مريم، وفوجئت مريم بأنى أقبل يد الرجل، لكنها لم تسألنى، غير أننى وقت سيرى إلى جوارها أخبرتها أن هذا الطبيب صاحب سر مع الله، وليّ مجذوب القلب، فتعامل مع الدنيا وأهلها بقانونه هو، الحقيقة التى تيقن منها، ومجاورته لصاحب المقام.

رحل الدكتور محمد مشالى، لكنه لم يمت، أثبت لى نظريته هو وفشل نظريتى أنا، «ورفعنا لك ذكرك» الهدية الربانية طيلة عطاء هذا الرجل بصدقه، القاصى والدانى ذكر الرجل، جداريته فى المغرب العربى، رثاء بابا الفاتيكان له، تكريم رئيس وزراء بريطانيا لاسمه، أقصى بلاد الله بمختلف ألسنتهم، عرفوا جارى الطيب الطبيب، صاحب السر الخفى مع الله.

منذ أيام جمعنى لقاء بالصديق شريف أنور وأعلم أنه على صلة وثيقة بأبناء الطبيب الراحل، أخبرنى أن ابنه الأكبر كان يحضر له الثياب ذات الماركات العالمية، يأخذها الدكتور مشالى ويعود ليخبر أبناءه أن أصحاب النصيب أخذوها، فكان الابن الأكبر يضرب كفا على كف جراء فعل الأب. الأمر بحاجة إلى فهم من نوع مختلف، فهم آخر بنظارة رؤية وعدسات مغايرة، ذلك الطبيب الذى رأى الحقيقة، حقيقة تلك الدنيا فتعامل بمنطق مجذوب القلب، تلك الجذبة التى لها قاموسها الخاص ومفاهيمها الإشارية العصية على الفهم. رحل صاحب السر، لكن لايزال سيل من التساؤلات يؤرق ذهنى، حيث لا مؤتمر سياسيًّا شارك فيه، لا صيحة مرتفعة للنضال من أجل الفقراء، لا أحد كان يعلم عن كهفه لولا أن أعثر الله عليه «وكذلك أعثرنا عليهم» صوتًا من نوع مختلف قاد الناس لينقبوا عنه وعن صنيعه داخل كهفه أو عيادته، صوت ليس له هو دخلٌ فى ترديده، لم يسع لتصدر المشهد، فقط تلك العطية الإلهية «ورفعنا لك ذكرك».