رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد.. المعذبون

بوابة الوفد الإلكترونية

تتملكنى رغبة لا أعى تحديدًا سر مصدرها ولا منبعها جراء زيارة المستشفيات، إذ تتبدى الذات الإنسانية فى أوهن صورها وأكثر تجلياتها ذبولًا وضعفًا، حيث اللاجبروت واللاسلطة واللانفس، تتعرى تلك الذات من مصادر الوقار والتفخيم المصطنع يصدق عليها القول القرآنى «ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانية» لتبدو تلك الذات فى حلة المرض بشكل جديد ومتفرد، متجردة من كل الأمنيات عدا أمنية واحدة هى أمنية الصفاء مع الله.

بعض الحالات المرضية تتخلى أن تكون رغبتها للسماء هى الشفاء، رأيت بأم عينى رجلًا يطلب فى دعائه بصوت جهورى أن يغفر له الله ويقبله على سوءته وعلته، وعلمت من الممرضة التى تتابعه أن حالته المرضية حرجة وأن «المرض الوحش» بالتعبير الدارج للمواطن المصرى البسيط قد تمكن من أحشائه، واستبد بجهاز الهضم لدى ابن آدم، وأن المريض نفسه يعلم أنه فى عداد الأربعين يومًا الذى هو ضيف فيها على الدنيا...

دعنى أصحبك عزيزى وأخى القارئ هذه المرة داخل معهد الأورام، وتحديدًا بالقسم الجامعى بمستشفى الفقراء بجامعة طنطا، ولأنك– عزيزى القارئ- دائمًا تتحمل معى قدر رهقى بك، فتحملنى هذه المرة، ربما كانت التجربة أكبر من استيعابى فقررت رغمًا عنى أن أشاركك فيها كوننا أشقاء دون أن يدرى كلانا فى اقتسام اللوحة الإنسانية التى آراها وأقتسمها معك.

وكعادة البدايات ما تكون عصية على الطرح، أو تكون عصية على الترجمة الحرفية لأحرف تحملها كلمات لتعبر عما أود أن أفصح لك به، لكنى سأجعلك– عزيزى القارئ- لتقف بجانبي، فى الدور الأول من المبنى الذى يمتلأ بأناس من مختلف الأعمار، كان حظى قد دفعنى لأقف أمام المصعد، يحمل المصعد مجموعة من البشر، أو شئت أن تسميهم الكتل الأدمية، ليصعدوا فألمح رقم 3 باللغة اللاتينية هو الدور الذى يتوقف عنده المصعد، ثم يمكث قليلًا، ليهبط خاويًا، من دون ما صعد به من أجساد أولاد آدم.

غير أن الدوامة الأولى قبل امتطاء هذا المصعد هى دوامة الشباك المعقد، حيث شباك العلاج على نفقة الدولة، على المريض هنا أن يقدم أوراقه إلى لجنة ثلاثية، ومن ثم يتم الطواف فى دوامة الموظفين، هؤلاء الغليظة قلوبهم، حيث كنت شاهدًا أيضًا على تعامل موظفى الشباك مع تلك الأرواح التى هدها الخبيث وسرى فى البدن وأطفأ شمعة الروح.

كان أخى الأكبر هو الممسك بالملف فى انتظار الموظف الذى سيستعلم عن قرار اللجنة، ومن ثم يتم إرسال البيانات عبر السيستم لإتمام العلاج على نفقة الدولة وأخذ جرعات العلاج الكيماوي، الموظف سيرسلك إلى القاهرة ثم تعود من القاهرة لتكتشف أن الموظف قد تراخى فى عمله ولم يرسل البيانات على السيستم، ثم تأتى للموظف فى قسم العلاج على نفقة الدولة، ليخبرك بأن السيستم معطل وأن الضغط عليه كبير، ولا تعلم أين الحقيقة من الكذب، وربما يوارى الموظف سوءته بالتحجج أو أحيانًا يترك المكتب لك ويمشى لتضرب رأسك فى الحائط.مثلما فعل أمامى وأشهد الله بهذا وكذا المسئولين وأولى الأمر فى بلادنا.

الموظف اسمه أحمد وعلى ما أعتقد اسمه أحمد طالب أو أحمد أبوطالب، شاب قروى فى منتصف الثلاثينيات من عمره، وكنت أتمنى أن تكون تربية القرية قد أكسبته رحمة فى القلب تجاه المرضى الذين لا حول ولا قوة لهم فى انتظار سريان الكيماوى الذى شبهه أحد الأطباء الأصدقاء بحقنة مية النار فى الجسم.

والموظف يتبع قسم يرأسه شاب اسمه رامي.

ولعلك تسأل ما الذى دفعنى هذه المرة لأن أرتاد هذا المكان لا كتب الله علينا عزيزى القارئ ابتلاء المرض، كنت بصحبة أبي، والحق أن أبى يملك من الأبناء الكثير فلم يكن بحاجة لى لمعاونته لكنى كنت محشورًا فى المشهد، وكان أخى الأكبر كما أوضحت لك هو من تولى مسئولية إنهاء الأوراق وكنت أشاركه متنقلة عينى بين المرضى أحيانًا وبين تعاملات الموظفين مع أولئك الأرواح المتكدسة فى انتظار كلمة تبل الريق، بدأ المشهد بصوت صخب شديد داخل المكتب المستطيل، فطلب الموظف من أخى الدخول للكشف بالرقم القومى عن حالة الطلب، ثم سرعان ما علا الضجيج، ليتدخل فى المشهد مجموعة من الأشخاص، ليكشتفوا وأنا معهم أن «سبعاوى» موظف الأمن يتعارك مع إحدى الموظفات، لأنها تتعمد تعطيله، ولأن سبعاوى شاب عريض الجسم كاد سبعاوى أن يتشاجر لولا تدخل زملائه من الموظفين، استرقت السمع، فكان عتاب الموظف «باسم» لزميله أن يهدئ منه، فرد زميله بأنه صديقه فى أمن معهد الأورام ولابد أن ننجز له طلباته حتى لا يعطل هو طلباتنا، بأمر دعانى لأن أصرخ فى نفسى «هى حياة وأرواح الناس حسابات يا عالم»، وبالطبع فإن سبعاوى تدخل وكادت أن تتم مشاجرة بالأيدى بعد رفع الأصوات بسبب توقف نظام تمرير المصالح الفردي، وسط هذا اللغط كان أخى الأكبر محشورًا وكنت خلفه، نتابع الموظف «أحمد طالب أو أحمد أبوطالب» لكنه يبدو أنه أراد أن يشارك هو الآخر فى المشهد العبثى فقام برفع صوته وزجر الناس وتوبيخهم، ثم وبخنى وطردنا جميعًا من المكتب وبعلو صوته، «مش عامل حاجة وأنا أعلى صوتى زى ما أنا عايز وروح اشتكى وأنا ما يشغلنيش أى حواديت»، وطبعًا عقبها بأن ترك مكتبه وجهاز الحاسب الذى يدخل عليه البيانات، ثم ترك الجميع يضرب رأسه فى الحيط وسط صريخ وصخب من الناس التى احتسبت حظها من الدنيا والفقر والمرض لله، لأن الشكوى لغير الله مذلة.

كان ما أوجعنى هو مشهد هؤلاء البشر الذى يصعد بهم المصعد للدور الثالث ويعود فارغًا خاليًا، تركت أخي، لأعاود معرفة سر هؤلاء الناس الذين يصعدون، ومكثت هناك قليلًا، ثم سألت عاملة المصعد هى الناس بتطلع الدور التالت ليه ياستي، فردت السيدة: «بعيد عنك يابنى ربنا ما يكتبها عليك ولا على السامعين.. دول بيطلعوا ياخدوا

الكيماوى وينزلوا بعد ساعة إلا ربع». أقسم لك بالله العظيم عزيزى القارئ، لم تكن هى نفس الأجساد التى صعدت بالمصعد، رأيت بعين عينى كائنات بشرية أشبه بالقطط المضروبة على رأسها فتسير متخبطة، متلعثمة، غير واضحة الرؤية أمامهم، بيد كل واحد منهم قطنة بسيطة توارى وخزة إبرة الكيماوي، حيث الرجال فقدوا اتزانهم وبان فى حراكهم كسرة المرض، والسيدات من بؤسهن تسير لتتخبط فى جدار الممر المؤدى لخارج الباب، لا أحد ينظر منهم أو منهن لجانبه، الجميع عينه متسمرة مثبتة للإمام، السير فى خطى متبعثرة، بعض الأرواح ينتظرها مقربون مثل الأبناء أو الزوجات، وآخرون معهم الله فقط. الله وحده من يساندهم عقب حقنة مية النار التى تجتهد لوقف تمدد الخبيث فى جسم ابن آدم.

عدت خطوتى مرة أخرى إلى شباك العلاج على نفقة الدولة، كاد موقف الموظف القروى يمر، غير أننى شاهدت سيدة تبكي، تبكى بحرقة، تردد فى صوت واضح «منكم لله مش حاسين باللى البنى آدم فيه.. منكم لله يا ظلمة يا مفتريين» اقتربت من السيدة، فى إيه يا أمى: «الموظفة شتمتنى ومش عايز تقولى الطلب بتاعى اللجنة وافقت عليه ولا لا»، كان صوت السيدة دافعًا ومحركًا لضميرى المهني، شدنى صوت أخى الأكبر «يلا يا دكتور خلصنا ورقنا والحمد لله»، قلت له: «توكل أنت على الله، باقى أمامى شوية شغل»، ثم توقفت أمام الشباك، وقفت سيدة فى الثلاثين من عمرها وجدتها تبكي، ليس فى الأمر ثمة اختيار لأن يكون هناك رسول يحمل آلام هؤلاء القوم، المنكسرة أرواحهم والمستبد المرض بأجسادهم وأجسادهن.

فى الدور الثانى سألت عن المدير المسئول عن هذه المأساة البشرية، وجهنى البعض للدور الثانى أعلى العيادات، الدكتور مدير العيادات بالمستشفى الجامعي، أبرزت هويتى لمديرة مكتبه واستقبلنى الرجل بحفاوة ودماسة خلق، قال لى: «المشكل إنه لا يوجد مستند رسمى للشكوى ضد أى موظف، وبالتالى لا توجد إية إجراءات، رسمية يتم اتخاذها مع الموظف، وقال لى الرجل إنه يسعى لتقديم العون لكل المرضى الذين هم بحاجة لكلمة طيبة». قلت للطبيب المدير: «سأكتب مذكرة بما حدث وبما شهدت عليه وسأدونه فى المقال الصحفى كون هؤلاء البسطاء من أهلنا بأمس الحاجة لمن يعبر عن آلمهم»، وبالفعل قدمت شكوى رسمية لموقف الموظف القروى الذى ترك مكتبه وساعات عمله وشاهدنا بصحبة إحدى موظفات مكتب مدير المستشفى مستخفًا بالجميع، ويبدو أنه استخف بالمدير نفسه فى نوع من الصلف لا أعرف مصدره أو سره.

أجريت اتصالًا هاتفيًا بالأستاذ الدكتور وليد العشرى مدير المكتب الإعلامى لرئيس جامعة طنطا، كنت قد علمت أن الرجل قد عاد لتوه من باريس مستكملًا برنامج دراسته العليا وعلى علم بأنه أستاذ لمادة الصحافة بكلية التربية النوعية، الحق أن الرجل لم يتوانَ عن الرد، أوضحت له أن الأمر يتعلق بالضمير المهنى للصحفى الشاهد على مأساة بشرية تتكرر لأصوات لا تجد مغيثَا ولا مجيبَا لها، ثم تواصلت معه مرة أخرى وألقيت الأمانة والمسئولية فى عنقه خشية أن تزهق روح معذبة فى انتظار رضا ذلك الموظف الذى ترك عمله وانصرف ليضرب أصحاب المواجع رأسهم فى الحيط.

كل هذه الآلام وما حدث من الموظف أحمد طالب أو أحمد أبوطالب وشجار سبعاوى زميلهم فى الأمن، وترك الموظف لعمله ومصالح العباد، كل هذا أعلقه فى رقبة الأستاذ الدكتور مجدى سبع رئيس جامعة طنطا، سأسأله عليه يوم الموقف العظيم كونه، راعيًا وكونه مسئولًا عن رعيته وموظفيه الذين يعيثون فى الأرض استخفافًا بالألم، وتمريرًا للمصالح الشخصية فقط، سأضع أمام عينه مشهد المسنة التى بكت واستعوضت الله لأن الشكوى لغير الله مذلة، والفتاة الأربعينية التى بكت وهى تحمل طفلها لأن أحدًا لم يعرها أدنى اهتمام، أدعوه لأن ينزل من مكتبه ليشاهد كم البؤس الإنسانى المبعثر على أدراج مستشفى الفقراء الجامعي.