رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ليلة صاحب الفرح

بوابة الوفد الإلكترونية

هو ينتظر هذه المناسبة التى تأتى مرة واحدة وتدوم لأسبوع فى العام الواحد مرة واحدة، يبدأ الاحتفال بها بالموكب الذى كان يتجمع الأطفال لانتظار قدومه، حاشراً نفسه وسطهم، كان يملك بنيانا ضعيفا فلا يقوى على مزاحمة أقرانه الذين فى مثل عمره، لذا كان يتسرب وسط جموع النسوة لعله يستطلع المشهد الذى ينتظره بفارغ الصبر، ولزمت الذاكرة شهر أكتوبر كموعد للاحتفاء والبهجة، حتى إنه كان دائم التساؤل عن موعد قدوم هذا الشهر، فلما كبر قليلا، ربط بين دخول العام الدراسى والمناسبة التى ينتظرها ويتوق إلى التمتع بمظاهر الاحتفال بها، حيث كان لاحتفاله طقس خاص يستمتع به بمفرده ويمارسه بين نفسه وروحه.

< موكب="">

وكأنما تنساب صوت الموسيقى العسكرية فى أذنه الآن مع أقدام الرجال تدب الأرض، جنود يرتدون حلة كاكى صفراء، وعلم مصر يتقاطع على صدورهم، صفوا فى صفوف ثلاثة طولية رأسية وأفقية بالتساوى، يمشون بخطوة مفتوحة، يتقدمون الموكب، ثم يعقبها رجال يحملون الرايات والبيارق عليها أسماء كنت أجهد فى قراءتها وأنا فى حداثة طفولتى الأولى، يتتابع المشهد ثم يبدو ويظهر الجمل الذى ننتظره جميعا، الجمل الذى يحمل الخليفة، رجل بدين يمتطى الجمل الذى يتمايل به، وأمامه رجلان على جملين يدقان ويقرعان طبولا صفراء بعصى معقوفة، يتردد نقرها فى أذنى إلى الآن، يظهر الخليفة فتنهال عليه أيدى السيدات والرجال بالملبس والطوفى والحلوى، ثم يقتحم الموكب أطفال شارعنا، رضا وعلى وبليغ ووليد سليمان للقتال تحت أرجل الجمال لالتقاط الملبس والحلوى الملقاة، محاولا فى كل موكب التركيز فى وجه الخليفة الذى كان يبدو فى ضوء الشمس شديد الحمرة، حيث توقيت الموكب كان يبدأ عقب صلاة الجمعة، ولما يتحرك الخليفة فوق جمله، تلحق به عربات الكارو لأهالى منطقة تل الحدادين بمدينتى المصغرة، يطرقون الحديد والأوانى ويطوفون مع الموكب، يطرقون كأنما يقرعون كل الأجراس اعلانا وإشارة لبدء الاحتفال بأسبوع صاحب الفرح، السيد أحمد البدوى.

فى هذه اللحظات من الذاكرة الزمنية، كان الطفل يشب على قدميه محاولا تكشف مساحة رؤية أوضح، وكانت سيدة عجوز ذات ملمح طيب ومبتسمة تجاوره، سألها فى أحد أعوام طفولته :«هل هذا الخليفة هو ابن السيد البدوى».

ردت السيدة التى من ملامحها بعض الرتوش لا تزال داخل الذاكرة: سيدك السيد البدوى لم يتزوج ولم ينجب.

يستمر الموكب فى المسير مارا وقاطعا شارع السكة الجديدة عابرا من أمام مسجد سيدى محمد البهى، ثم قاطعا دحديرة درب التراسين، منها إلى منطقة شارع البحر. وتتعاقب عربات الدفع البشرى وطرقات الحدادين، فيتجلى مشهد آخر للرجال الذى ينفخون من أفواههم النار، ورجال يلفون الثعابين حول رقابهم، يتقدمهم رجل يصيح كل ثوان «ياعم يا رفاعى مدد».

< صاحب="">

وكان صبينا فى هذه المرحلة من سنوات عمره لا يزال تلميذا فى الصف الرابع أو الثالث الابتدائى على ما يذكر، وفى فترة الصيف والإجازة الدراسية كانت تنهره أمه ليلحق بالعمل فى محل أبيه، الحق أنه لم يستشعر يوما انه ينتمى إلى طائفة الملاك وأصحاب المحل، ربما تضافرت الظروف لتجعل منه مصاحبا وملازما لكبير العمال فى هذا الوقت «عم مصطفى رحمه الله» أسألك واستسمحك عزيزى القارئ الفاتحة لروح هذا الرجل الطيب.

ورغم أن المحل ملك لوالده، فإنه وكما ذكر لم يستشعر أنه يملك شيئاً فى هذا المحل ولا الحق له أن يتصرف فى أى من بضاعته، والتى كانت لمن هم فى مثل عمره المبتهج والفرحة والهدية، فكان المحل هو محلاً لبيع لعب الأطفال. إلا أن ما يتجسد فى ذاكرة ذلك الطفل حتى هذا الحين من العمر الزمنى، هو فراره وقت نوبة إفطار العمال، وعقب الحصول على مصروف الإفطار، إلى صاحب المقام، وصاحب الضريح وصاحب القبة، يدخل المسجد ثم يستقر به حاله لأن يجلس داخل مقصورة المقام النحاسى، متناغما مع صوت الضجيج وصوت الحراك الآدمى، لكن ما كان يذبح روحه هو صوت البكاء ودموع النسوة التى كانت فى عمر أمه، حيث سيدة تبكى وتجاور المقام، فكان صبينا يطيل النظر إليها ويتمعن فى أحكام مشهد عينها لحظة البكاء، فيجد أن ثمة شيئاً يدفعه، لان يجاورها دون أن تستشعر السيدة شيئا من أمره كونه صبيا محشورا وسط الكومة البشرية المتواجدة، لكنه كان يقترب من الأعمدة النحاسية، وثمة تساؤلات يواجهها لصاحب

المقام، «هو أنت سامع الناس دى؟. . لما تتركهم يبكون وهل ستساعدهم؟» وفى الليل كان يعود ولا يعلم أحد شيئا عن سر ذهابه إلى تلك النزهة التى تقتطع ساعة أو ساعتين ثم يعاود الذهاب للمحل. بعدها يخلد للنوم على التزام القيام فى الصباح لمناوبة العمل مع العاملين داخل محل والده. وأثناء ذلك الاستلقاء الجسدى، يفتح صبينا عينه للسقف، يطرح التساؤلات على نفسه، «هل السيد البدوى متواجد فى ذلك القفص النحاسى الذى بلون الذهب؟» هل هذا هو بيته؟ هل يخرج للعمل مثله ثم يعاود لهذا القفص وينام فيه ؟ هل يستمع لهؤلاء النسوة اللاتى يعتصرن قلب الفتى لحظة بكائهن؟. . وذات ليلة غفا الفتى، أو الصبى أو الطفل، فوجد فى نومه أن رجلا شديد البياض والهيبة، يرتدى فرسا وعلى وجهه غطاء، اقترب الرجل الذى يشبه المحاربين من الفتى الذى أصابه الذعر، وحمله على الحصان وراءه، وانطلقا، حتى توقفا أمام ضريح صاحب المقام، لم يتكلم الرجل الذى يغطى وجهه، كانت فتحات العين من خلف اللثام تشير للفتى بأن ثمة ابتسامة داخل قلب وعلى وجه ذلك الرجل، شد الفارس الملثم على يد الطفل، الذى تصبب عرقا، وأشار فى المقام إلى فتحة دائرية وأمسك الفارس بيد الطفل ووضعها داخل هذه الفتحة، ثم قال له الفارس: «أنت تحبنى وكذا أنا أحبك. . وهذه هديتى لك، حين تزورنى أدخل يدك فى هذه الدائرة، ولا تخبر أحدا بذلك، فهذه هديتى لك».

ما يذكره الفتى عن هذا، أن أمه كانت تتمتم فى سرها، وكان يفتح عينه فيستشعر حرارة تنطلق من جوفه، بينما فاطمة أمه كانت تجاوره تضع الكمادات الباردة على وجهه، وتبكى، تخشى أن تفقد وليدها الذى خرجت به من الدنيا، صرخت فاطمة

< الواد="" فرن="" يا="" عالم،="" أنا="" هاجرى="" أروح="" بيه="">

أسدلت فاطمة طرحة شفيفة على شعرها وانطلقت بثياب البيت، تحمل فتاها، كانت فاطمة حلوة، وكانت حينما تحتضننى فاستشعر أن ثمة وطناً بأكمله يحتوى روحى فيدثرها بالسلم والأمن والسكينة. فلما انتهت فاطمة من درج البيت، وانطلقت جهة شارع البيت القديم، كانت الحاجة أم سيد شفيقة رحمها الله تجلس بجوار مقام سيدى نوح الذى يستقر بشارعنا.

تكلمت السيدة التى بلغت من الكبر عتيا :هات الواد يا فاطمة ما تخافيش، الواد فى حال مشاهدة أكبر من عمره. هاتيه.

ما يذكره الفتى أن السيدة المسنة تلقفت الولد، ربتت على صدره وقرأت: «ألم نشرح لك صدرك» ثم أنامت الصبى بجوار مقام سيدى نوح، وهمست فى أذن صبينا: «ما رأيته لا تبح به يا ابن فاطمة، فحال الرجال أسرار»، ثم التقطت حفنة من التراب، ورشتها على جبهة الفتى، وقالت: «سلام قولاً من رب رحيم». . استيقظ الفتى، نفض التراب عن جسده وجرى ليحتضن فاطمة، التى راعها أن حرارة الجوف والجبهة والجسد قد تبددت.