رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد...نسرين

بوابة الوفد الإلكترونية

يقولون إن من لاصقت المرارة فمه لا يمكنه التفريق بين الحلو والمالح، تصير كل الأطعمة بها هذا الحس من المفعول المر، صار مزاجى مراً، كل الانفعالات الإنسانية التى أكون فيها بموقف المفعول به والمفعول فيه تشوبها مرارة لاذعة فأمست جميعها متشابهة فى الطعم، ذلك الطعم المر.

منذ شهرين فقط كنت ابتهل إلى الله أن يكون هذا الشاب هو نصيبى من الحياة، بت أطوف داخل دائرته أثناء فترة العمل ووقت ببقائنا معاً داخل المؤسسة التى نعمل بها، كنت أتطلع إليه مفتونة، أتقرب منه دون استحياء محاولة فض بكارة تلك الروح الغريبة المغتربة، بينما هو كثير الصمت مقل فى الكلام والحراك، واجماً بعض الشىء وتكسو كل ملامحه ذلك الحزن الريفى الممزوج بقلة الحيلة، لكنه فتننى بتعامله مع عينة الأطفال التى نتعامل معهم داخل المؤسسة التى نعمل بها، اللوحات الإنسانية شديدة التعقيد والتركيب، أطفال «الأوتيزم» التوحد. وقد طفت فى عينى ذكرى قديمة لذلك المجذوب الذى كان يسكن بمدينتى الصغيرة «زفتى» يجوب حواريها ويلف فى شوارعها، وكانت النسوة تمسح ميادين مدينتى الريفية بحثاً عنه، وبيد كل امرأة طفل تحمله، رغبة أن تلتقى ذلك المجذوب فيخبط بكفه على ظهر الفتى المحموم فيقوم معافى بإذن الله. كنت أرقب الظاهرة بعين متمردة على الواقع مستهجنة لأفعال تلك النسوة، وقتها كنت طالبة بالمرحلة الجامعية، أقف منتظرة سيارة الأجرة والتباع بصوته الجهورى ينادى «طنطا الجامعة» فننحشر جميعنا داخل السيارة استعداداً ليوم شاق من التحصيل العلمى والمعرفى.

فى هذه المرحلة الزمنية من عمرى والتى فات عليها سنوات قاربت العشر، كنت أتلصص على السيدات التى تلف فى الموقف بحثاً عن «عطية» المجذوب الحافى صاحب العصا والصفارة، ينتظرونه فى الصباح لأن لا أحد يعلم أين ينام ليلته، كذا لا أحد يعرف أين يمضى بقية يومه، لكنى أتذكر ذلك اليوم من أيام عمرى الماضية والمنفلتة من حبات الزمن، كانت سيدة تبكى وتسأل كوماندا الموقف عن عطية المجذوب والطفل فى يدها يبدو على ملامحه الصفرة والهزال، لحظتها جريت على السيدة «عطية مين وكلام فارغ مين وديه المستشفى دكتور يكشف عليه».

- ردت السيدة: سبينى يا بنتى فى حالى أنا طول الليل فى استقبال المستشفى والولا هيروح منى.

التفتت السيدة وراءها، كانت تلك الكومة البشرية فى جلبابها المتسخ، وعصاه قد شقت الأرض وأعلنت عن ظهوره، صرخت السيدة:

– الحقنى يا عطية الولد بيموت...

كانت الكلمات تخرج من فمه مبعثرة، جمل تلغرافية شديدة التعقيد وعصية على الفهم، لكنى مازلت أتبين بضع كلمات نطقها ذلك اللغز الإنسانى وصاحب السر الإلهى على الأرض، خبط المجذوب على ظهر الفتى العليل، صرخ فى السيدة «سبتيه ياكل سم فران يا بنت الكلب».. وشرع يهزى بكلمات أخرى لا أفهمها ولم أتبينها، خبط الرجل خبطة ثانية على ظهر الغلام «سم اطلع... بإذن الله» ثم اختطف عطية الغلام من يد السيدة ووضعه على الأرض وداس بقدمه على بطنه، فسال براز الطفل مع صراخه، وقتها كانت زغرودة السيدة هى ما تبقى فى ذاكرتى وقد أطلق عطية المجذوب صفارته وجرى كأنما يدارى كرامته بالاختفاء والاستحياء من الله.

صار عطية المجذوب، حالة إنسانية طالما توقفت عندها دون تفسير، وحين كانت تصحبنى توهة العقل كنت أقلب فى الآيات الكريمة لسورة الكهف وأسبح بروحى فى آيات الله تصف حال ولى الله الخضر عليه السلام: «فوجدا عبداً من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً».

وفى العمل داخل المؤسسة كان فتى «يوشع»، - هكذا أسميته بينى وبين نفسى -، يوشع، فتى موسى، كنت أناديه سراً بهذا اللقب، وحفظت رقم جواله على هاتفى باسم يوشع فتى موسى، ولا أعلم لما أطلقت عليه هذا الاسم، كنت أتودد إليه عنوة رغماً عنه أثناء جلسته مع أطفال التوحد الذين نتعامل معهم ثلثى اليوم، كان يتملك مهارة خاصة فى الولوج لعالمهم، بينما أرقبه من بعيد وأحياناً من قريب لمحاولة فهم هذا البرزخ المفتوح بين فتاى يوشع وبين هذه اللوحات الإنسانية شديدة التعقيد والتركيب. وقد حدث ذات مرة أن صبياً مراهقاً ضمن حالات الفصل التى أتعامل معها، كان يومها شديد العصبية والانفعال

يعض على أصابعه وقد حاولت بما أوتيت من معرفة فى مجال التخصص أن أبدد هذه الشحنة العصبية، إلى أننى فوجئت بالصبى يقوم إلى جسدى باللكم، فما كان من يوشع إلا أن اقتحم باب الفصل مع توقيت بداية هجوم الصبى، وقتها نظر إلى الصبى الذى خر باكياً ثم جرى إليه يحتضنه، وأخذ الصبى يردد كلمات تلك الشحنة التى كان يدخرها بسبب تعامل والدته معه فى المنزل.

- سلم على عمتك... سلم على عمتك... صاصا مش مجنون... سلم على عمتك

- كان الصبى فى حالة من الترديد الآلى لمفعول الكلمات، ثم يأخذ استراحة من الترديد ليواصل البكاء، احتضن فتاى يوشع صبى الفصل الدراسى، وقام بإجراء اتصال هاتفى لأمه أخبرها أن عقاب الفتى المعنوى نتيجة زيارة عمته لهم أمس ترك شحنة سلبية من الانفعال والتمرد والسخط، وأن الأمور يجب أن تعالج بطريقة أخرى.

كان يوشع عزيزى المحرر،هو مصدر إلهامى، هو بالقطع ليس اسمه يوشع كما أخبرتك لكنى استخلصته لنفسى حاملاً هذا الاسم، كأنما كان رفيقاً فى رحلته لأحد الصالحين محاولاً التعلم أو الفهم: وإذ قال موسى لفتاة «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أو أَمْضِى حُقُبًا».

حراكه كان مصدراً لبهجتى الصغرى، حديثه ومنمنمات أفعاله وتصرفه، يوشع عزيزى الكاتب تقدم لخطبتى، وقتها شعرت بأن السماء استجابت لى، ومر شهران وربما ثلاثة، تبدل فيها حالى، حيث شعرت بقتل للبهجة التى تملكتنى فى أيامى الأولى من لقائى بيوشع، صارت اللحظات كئيبة دامية، لا أعلم سبباً لهذا التغير، ما أعرفه أننى صرت فى حالة من عدم الاستصاغة، تحول فعل الإبهار والإعجاب والافتتان لحالة من التبلد، ولا أعلم سر هذا التبلد، ولا أفهم سبب تغيره، صار حديثنا حديث أصم قتلت فيه منافذ الروح ونوافذ تجديد هواء العلاقة، صرت بين الوقت والآخر اتحجج بالهروب من تكملة الطريق والارتباط به زوجاً، صرت أشعر بأنى مدانة أو مصابة بلعنة ما لا أعرفها، لكنى على يقين أننى ربما السبب فى إفساد بهجتى، بمعنى آخر إننى هنا القاتل والمقتول، حيث القاتل لفعل البهجة مع الحبيب والخطيب ثم المقتولة بتنفيذ الجرم عليها فأضحت معتادة تذوق طعم المر فى فمها....

إننى أكتب إليك عزيزى المحرر لمحاولة الفهم... لمحاولة إيجاد تفسير لما يحدث وسر حزنى وصمتى وعزوفى بعدما كنت متلهفة للقاء الحبيب يوشع والساعى له.. أكتب إليك لمحاولة إزالة تلك المرارة التى استبدت بحياتى.. أكتب إليك قبل إقدامى على قتل من نوع جديد هو قتل تلك العلاقة فى المهد ووأدها قبل أن تصير جسداً يمشى على الأرض.

إلى نسرين صاحبة الرسالة:

ليكن موعدنا فى العدد القادم نسعى معاً لمحاولة فهم التغير وسر تبدد الفرحة، ولك ما طلبتى أن أشهر اسمك للقراء تحقيقاً لطلبك.