رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد «الوفد».. روح بشرية في الشارع

بوابة الوفد الإلكترونية

خلا المقهى من رواده، لم يتبق سوى ثلاثتنا، أنا وشريف وإسلام الصناديلى، كانت الجلسة فى بدايتها مشوبة بصمت حذر، لم تكن عادة شريف هى الصمت، كان يشغله أمر سلمى، ابنته الوسطى، يشفق على أسلوب العقاب الذى فرضه عليها، يؤلمه ذلك الجفاء المصطنع، قال إنه يتألم فى صمت لأنه عاقب ابنته بالتجاهل كونها استخفت بالمذاكرة، لم يكن من الطبيعى أن يتحدث شريف عن أمر يخصه، لكنى استشعرت فى صوته درجة من درجات الحزن. ومع مداومة الصحبة لم يتحدث صديقنا عن فتياته إلا وتلمع عيناه كأنما لا يريد من الدنيا سوى سعادة الزهرات الثلاث ملك وسلمى ونور. أراهم أناجيل مملكته الخاصة. إلى جانب رفيقة العمر أمهم، وكعادة إسلام بحسه الطفولى رغم عمله الشاق، فإنه بدا هذه المرة حالما، متذكرا والدته التى رحلت، يكن لها من الحب ما يجعله فى قمة الضعف والصفاء الإنسانى. إسلام بهيئته التى تبدو منها بكارة الحس العفوى، يود كسر حالة الصمت، بينما يخيم السكون فارضاً سطوته على المكان والمقاعد التى خلت من روادها.

قطع شريف الجلسة بصوته عن المأساة التى سيطرت على تفكيره منذ يومين، مأساة ذلك الطفل الذى لا يحمل اسماً أو هوية، الطفل الذى وجده شاباً صغيراً بجوار محل لبيع الطعام، وجده حافياً، فذهب لأبيه يخبره بأنه عثر على الطفل، فلم يكن من الأب إلا أن ذهب بالطفل والفتى لقسم الشرطة لتحرير محضر العثور على طفل. شدنى الفضول أن أعرف ما يدور داخل هذا الإطار، قاطعت شريف الذى كان يتحدث بنبرة بها شغف لتقديم العون لذلك الطفل. ترك إسلام الصناديلى الهاتف من يده، استحوذ الطفل على جلستنا بقصته، الطفل الذى لم نعرفه، صرخ شريف موقظاً عامل القهى من سباته.

ألست صحفياً وتود تقديم مساعدة لروح؟... دعنا نذهب الآن للأسرة التى عثرت على الطفل وآوته لعام كامل وتعثروا الآن مع الأوراق ومواد القانون فى الوطن. قاطعت شريف: لكن الساعة الآن قاربت على الثانية بعد منتصف الليل، دبت روح إنسانية غمرت ثلاثتنا، أراد شريف اقتناء لعبة كهدية تدخل البهجة لروح الطفل، لكنها الثانية بعد منتصف الليل.

ثلاثتنا فى السيارة، اتصال هاتفى بين شريف والحاج مسعد أبوليلة، المكان قرية نفيا التابعة لمحافظة الغربية، الزمان الثانية والنصف بعد منتصف الليل، الحدث الحقيقى هو ما سنعلمه من الأسرة التى احتضنت الطفل.

نفيا، أذكر هذه البلدة المستقرة على طريق القاهرة، قرية صغيرة، لكن المعلم الذى تحتفظ به الذاكرة هو مقام سيدى قمر الدولة، الحدوتة الأكثر شهرة وتداولاً بين سكان هذه البلدة الصغيرة، سر الاسم «قمر الدولة» الاسم الذى احتفظ بمكانة خاصة فلا يجرؤ أحد على تسمية ابن من أبناء البلدة بهذا الاسم، قالت الحكايات القديمة، إن كل من حملوا هذا الاسم توفاهم الله صغاراً، وكان لسيدى قمر الدولة فى نفسى مهابة، كونه أحد تلامذة السيد أحمد البدوى.

يستقبلنا الرجل فى منزله، يتحدث عن البدايات للعثور على الروح الإنسانية المعذبة، لطفل صغير لم يكمل عامه الثانى، عثر عليه فتاه الأكبر محمد بجوار مقهى ومحل بيع أطعمة، حافياً وزاحفاً ملقى دون عناية، لكنه شده بكاؤه، فالتفت له، حمل الشاب الذى على مشارف العشرين من عمره الطفل الذى بلا هوية ولا اسم، ترجل فى منطقة شارع حسن رضوان بمدينة طنطا حيث محل والده، يبحث عمن يهتم لأمر الطفل، دون جدوى، ليعود الفتى محملاً بطفل بلا اسم ولا أهل، يعود به إلى محل والده، فيندهش الأب، لكنه يتفحص الطفل، فيجده محروقاً بأعقاب سجائر فى يده وقدمه، ولأنه طفل لم يكمل عامه الثانى، استدعى الرجل شرطة النجدة التى حررت محضراً بالعثور على طفل، ملقى فى الشارع، وتعهد الرجل باصطحاب الطفل لمنزله، على أن يعاود فى الغد للنيابة.

يتوجه الحاج مسعد للنيابة التى تصدر قراراً بعمل التحريات اللازمة حول الواقعة وتعميم البلاغ على جميع أقسام شرطة الجمهورية أملاً فى العثور على أسرة الطفل أو الاستدلال على هويته، لكن بلا جدوى تمر الأيام دون أن يتقدم أحد بإثبات نسب الطفل، شهر يعقبه شهر، يدشن محمد مسعد أبوليلة صفحة للحديث عن الطفل، يستنجد بالجميع أملاً فى العثور على أهله، مر شهر شهران، تعلقت زوجة

الرجل بالطفل، قالت للرجل: «نربيه لعلنا نتقرب به لله، فيصفح عنا ويسكننا جنته، وتكون شفاعة لنا يا حاج مسعد».

سريعة هى الأيام، شهر فشهران فثلاثة ثم يمر عام، ينعم الطفل الذى بلا اسم ولا هوية بنومة حانية، يتلفظ لسانه بكلمة أمى لتلك السيدة الطيبة، التى أودعته جوارها، ترتحل معه للسوق، تأتى وتذهب به، ترى فيه زهرة صغيرة نبعت من رحم الحياة أو هدية لها منحت روحها سلاماً، قرباناً للرب فقد تعلق قلب الأم بذلك الطفل الذى لا تعرف لا أرضه ولا صاحب البذرة التى أنبتها بالأرض «قرة عين لى ولك». مر العام الأول، أراد الرجل أن يكون أهلاً للأمانة مخافة تبديدها، قرر الحاج مسعد أن يقوم بإجراء رسمى لاستخراج شهادة الميلاد، هنا كانت الطامة، حيث كان قرار النيابة العامة بإيداع الطفل دار رعاية، ويتم إبعاده عن الأسرة، ومن ثم تسميته، هنا كان القرار أشبه برصاصة فى قلب الأم، ولم يدرك الرجل أنه قد تعلق به إلا عقب ترحاله اليومى بين القاهرة وطنطا لملاقاة المسئولين عسى أن يجد حلاً عند أهل الحل والعقد. ثمة تأشيرة صريحة من النيابة العامة... «القتل المعنوى للأم»

الى أهل الحل فى وطننا...

جرت العادة أن يكتب المحرر إلى صاحب أو صاحبة الرسالة، غير أن الجملة الأولى هنا موجهة إلى أهل الحل والمسئول فى الوطن، القانون وروح القانون، والأوراق والمواد واللوائح، لكن هناك قلب أم تعلق بهذا الطفل، القانون طبقاً للمواد التى لا أعرفها وأجهلها أقر بإيداع الطفل بدار لرعاية الايتام، لكن دعنا سيدى المسئول ننظر بنظرة بها قدر من الرحمة والعدالة، إن لهذا الطفل حقوقاً فى رقبتنا جميعاً، هناك شروط يتم بمقتضاها استلام طفل أو رعاية أسرة لطفل، هذه الشروط تضمن بالفعل أو بشكل عملى حق الطفل فى حياة كريمة داخل الأسرة المضيفة، فماذا سيكتسب الطفل جراء إيداعه داخل دار رعاية نحن نعلم -ولا يجب علينا أن نضع رؤوسنا فى الرمال– قدر الإهمال فى هذه الدور، الأمر ربما يتعلق بإنقاذ روح بشرية، قدم لها القدر نوعاً من الرحمة، فلما نكون نحن من يقف سداً وحائلاً أمام هذه الرحمة؟، الطبيعى أن ينشغل الإنسان بألمه وهمه وأطفاله، لكن شاء الله أن يجعل فى قلب هذه الأسرة متسعاً لهذا الطفل، فلمَ نسدل الستار عن هذا الجانب القدرى؟!.. إذا كان الهدف من القانون هو تحقيق أكبر قدر من حياة طيبة للطفل مع ضمان جودة التربية لهذا الطفل، فلمَ لا يتم اتخاذ كافة التعهدات والمواثيق على هذه الأسرة طالما جمع الله قلب الأم وأبنائها بذلك الطفل البائس والضائع؟.. سيدى المسئول إننا أمام روح بشرية أزهقت كونها ألقيت فى الطريق بلا سند أو عون، فلمَ لا نقدم لها عوناً وفق روح القانون قبل القانون.