رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

سهير المصادفة أركولوجيا السرد

سهير المصادفة
سهير المصادفة

استطاعت المبدعة المصرية سهير المصادفة على امتداد ما يناهز العقدين أن تؤسس مشروع رؤائيًّا له ملامحه المميزة، ما يجعل لها شخصية إبداعية تمتلك خصوصية تعبيرية في كتابتها، فتأتي روايتها السابعة، الحديقة المُحرَّمة، لتضيف إلى سفرها الروائي ولتراكم منجزها الكتابي نصًا مهمًا. في سرد المصادفة ثمة تراكب نوعي في مستويات السرد وكذا في دلالات الحكاية المنتجة عبر أكثر من مستوى تأويلي بين دلالات مباشرة وأخرى رمزية بعيدة مفتوحة على تنويعات متعددة لمعاني الحكاية ما يجعل له تكوينًا أركولوجيًّا متعدد الطبقات السردية والتأويلية.

اقرأ أيضًا.."السرد والتاريخ من التوثيق إلى التخييل" إصدار جديد عن هيئة الكتاب

دكتور رضا عطية

في رواية الحديقة المُحرَّمة يمزج السرد الواقعي بالغرائبي، والحدث الحكائي بالأمثولي في تركيب خاص يجعل لسرد المصادفة كمياءه المائزة، عبر تلك المراوحات بين الحدث الواقعي وما يبدو لأن يكون أقرب إلى حدث أسطوري وغرائبي:

"ألْهم حيّ"... طارت الصّيحة من لسانٍ إلى لسانٍ، كانت تدقُّ الأبواب فتفتحها؛ لتوقظ النّائم، وتنبّه الغافل.ومع ارتفاع صوت الشّيخ أحمد زيادة بأذان الظّهر، انقلب نجع الزّرايب من أقصاه إلى أدناه، هجّ الأهالي من بيوتهم، وظلّوا واقفين أمام بيتنا حتّى غروب الشّمس، يتفرّجون علينا وكأنّهم يشاهدون فيلمًا سينمائيًّا مسلّيًا.

لم يحدث شيءٌ غير عاديّ في هذه البقعة المنسيّة على خارطة الكرة الأرضيّة؛ لينقلب النّجع فوق رؤوسنا هكذا، فالسّماء كانت في مكانها رماديّة ومتجهّمة كعادتها، والأرض تنفث حرارتها وذبابها اللّحوح في وجوهنا، وخوار البقر كما هو رتيب ومملّ بنغمته الواحدة.

أتى النّاس من القرى القريبة، وتحوّل فضاء البيت الكبير من الهدوء والعزلة كمنطقةٍ عصيّةٍ ومحرّمٍ الاقتراب منها إلى ما يشبه سيرك الغجر؛ فالصِّبية الصّغار الذين كانوا لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب منه، يتسلّقون الآن مثل القرود أسواره العالية ونخله وشجرة التّوت العجوز، ويهلّلون للضّباط أثناء خروجهم ودخولهم من البوّابة الكبيرة، والنّسوة يهرعن إلى بيوتهنّ ليُحْضِرْنَ ما تيسّر من أطباقٍ بها بقايا طعام، يأكلها أزواجهنّ وأطفالهنّ بسرعة؛ ليواصلوا الفُرجة حتّى لا يفوتهم مشهدٌ واحدٌ من فيلم فضيحة هذه العائلة الغامضة أو "المفتريّة" كما كانوا يصفونها فيما بينهم سرًّا.

في سرد سهير المصادفة ثمة بنية "نووية" للأحداث، حيث حدث كبير يبدو صادمًا أو مدويًّا في آثاره، يستتبعه مجموعة أخرى من الحداث والمواقف، كعودة "ألهم" بطل هذه الحكاية، بعد غياب امتد لأربعين عامًا في بقعة نائية، حيث جبال "المطاريد" والمارقين من قبضة العدالة والملاحقة الأمنية والثأر أيضًا، وما نتج عنه من أحداث تابعة كاستعجاب أهل القرية لعودته وسعيهم للفرجة عليه. لكن ثمة حركة بندولية بين تمددات الأحداث تصاعديًّا نحو الأمام والنمو المتواتر من الآني إلى التالي من ناحية، والارتداد الذي يستعيد الماضي وحكاية "ألهم" وهربه وقصة حبه من ناحية أخرى.

ثمة إحكام في صياغات المصادفة السردية وتشكيلها لمشاهد حكايتها حيث الحدث الرئيسي كعودة "ألهم" إلى بيت العائلة والأحداث الأخرى التي يقوم بها الفواعل الثانويين الذين يؤدون دورًا أشبه بمجموعات "الكومبارس" في خلفيات المشاهد السينمائية، كتجمهر الأهالي للفرجة على هذا الحدث الكبير ورُبَّما الصادم بالنسبة لهم.

تبدو لغة السرد عند المصادفة مراوحية بين الوصف الموضوعي المحايد والتشعير المجازي للأشياء والعناصر والأحداث، كما في (فالسّماء كانت في مكانها رماديّة ومتجهّمة كعادتها) في تمثيل نفساني للمعطيات التي تبدو كمرآة عاكسة لشعور الذوات النفسي، فإحساس الذات الساردة، إحدى أصوات الحكاية وبطلتها بالضيق قد انعكس على وصفها للسماء الذي اصطبغ بحس رومانسي حزين وشعور قانط بتجهم الوجود، وكذلك تشبيه التجمهر الذي قام به أهل القرية بما (يشبه سيرك الغجر) يبدو صورة متوافقة مع الواقع الاجتماعي الذي تدور في رحابه أحداث الحكاية المسرودة، كما تتبدى بنية عنقودية لبعض الصور كتشبيه تسلق الصبية الصغار لأسوار البيت الكبير بأنَّه "مثل القرود" يبدو متفرعًا من التشبيه الإطاري للتجمهر ومتابعة ما يجري من أحداث في ذلك البيت الكبير بسيرك الغجر.

في هندسة سهير المصادفة لحكايتها السردية ثمة ما يشبه الدوائر المتداخلة للأحداث والشخوص:

"ألْهَم حيّ"... تتسكّع الصّيحة الفرحة في حواري النّجع، ولا شيء يدور في الأجواء سواها، فماذا حدث اليوم ليُبعثَ عمّي ألهم من موته حيًّا؟ في الصّباح مرّ عليَّ "سيكا" العبيط، وبلّغني بآخر أخبار النّجع؛

لأعيد صياغتها وكتابتها على الكمبيوتر، ثم أرسل المناسب منها؛ الذي أثق أنّه لا يكْسِر أيّ سقفٍ سياسيٍّ أو جنسيٍّ أو دينيٍّ إلى إيميل جريدتي المحليّة "صوتُ الزّرايب"، التي لا يقرؤها أحدٌ، وهذا كلّ ما أفعل في هذه الحياة، فأنا كما يطلقون عليَّ هنا: "جورنالجية".

"سيكا" هو وكالة أنبائي المتحرّكة، واسمه الأصلي جودة، وهو بالمناسبة ليس عبيطًا، وإنّما هو أكثر من رأيتهم ذكاءً وحركةً في النّجع، لا يعرف أحدٌ سِنّه الحقيقيّة؛ فهو لا يكبر مثل كلّ النّاس، وإنّما يلبس زعبوطًا يغطّي شعره وحاجبيه ويجري في غيطان النّجع وحواريه الملتوية على نفسها كالثّعابين، منذ طلوع الشّمس وحتّى غروبها؛ ليلبّيَ حاجاتِ الجميع، وقد أطلقوا عليه "سيكا" منذ سنواتٍ طويلةٍ، لأنّه يردّد دائمًا عندما يطلب منه أحدهم إحضار شيءٍ ما: "سيكا ويكون عندك".

في الصّباح، قلّد لي سيكا بلثغته المريعة مذيعي نشرات الأخبار: "طردوا السّت بخيتة التي تجري على ثلاثة أيتامٍ من عملها في الوحدة المحليّة، هي في الخمسين من عمرها، وكانت عاملة نظافة هناك، فرأى مديرها رعشة يدها، وقرّر أنّها لم تعد قادرةً على الإمساك بمقشّتها"... "مات حصان عمّ برعي العجوز، وكان ثروته الوحيدة؛ يجرّ به عربة كارّو، يحمل عليها الخضراوات من حقولنا، ويذهب بها إلى سوق المركز على بعد عشرين كيلو مترًا؛ ليلتقط رزقه هناك"... "يقول أهل النّجع: إن نيزكًا يقترب من الأرض، وعلى وشك الاصطدام بها".

في بناء سهير المصادفة لشخصياتها الروائية ثمة تنوع في أنماط الشخصيات التي تطلقها عبر فضاء حكاياتها، فتتراوح بين المارقين العتاة والمتمردين الأقرب إلى كونهم شخصية أسطورية، كشخصية "ألهم" في غيابه الطويل عن القرية لأربعين عامًا، في المقابل شخصية "سيكا العبيط" الذي هو أقرب إلى شخصية "بهلول" القرية المستوحاة من الدراما الشيكسبيرية، ذلك "البهلول" الذي يواري خلف بلاهته الظاهرة معرفة عميقة بالأشياء والأمور الخطيرة. ذلك التوازن بين الشخصيات سواء في النوع، الإناث في مقابل الذكور، أو الطبيعة النفسية للشخصيات ما بين شخصيات حادة صارمة، وأخرى ضعيفة أو مستلبة أو بلهاء، يخلق لدى المصادفة نوعًا من التعادلية الدرامي للبناء الحكائي والتكوين السردي في رواياتها.

من وسائل التشكيل الشعري في سرد سهير المصادفة ذلك التدفق المتتابع لعدد من الأخبار التي تذكرها الساردة عبر شخصية "سيكا"، فيما يُمثِّل مسارًا آخر للسرد يتميز بكون هذه الأخبار المسرودة مثل الومضات الخاطفة المتتابعة التي يكون لها إيقاعها السريع.

تبدو رواية المصادفة جامعة بين السرد الغنائي كما في بث صوت الساردة لحكايتها مازجة الحكي الإخباري بالإفضاء المشاعري، والسرد الدرامي المتشكِّل من تراكيب الشخصيات ومواقفها المتمايزة وأيدلوجياتها المتقابلة، كما أنَّ هناك حركة مراوحة بين الدلالة الأولية للحكاية والدلالة الأمثولية التي تمسي معها عناصر الحكاية بمثابة شفرة دلالية لها نسقها التأويلي الموازي.