رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الروح المصرية في زمن العظماء.. "أبي كما لم يعرفه أحد"

بوابة الوفد الإلكترونية

بقلم:  د.عادل ضرغام

في (أبي كما لم يعرفه أحد) للأديب المحاور خيري حسن يتأسس الهدف الأساسي في اختيار النماذج الكاشفة في مجالات عديدة، للكشف عن الروح الحقيقية للشخصية المصرية، التي حيرت الباحثين في نزوعها وفي ردود أفعالها المختلفة نظرا لميراثها الطويل الممتد، من التاريخ القديم إلى اللحظة الراهنة، فلا يوجد باحث مهما كان لديه من مصادر وقدرة على التحليل أو قدرة على التنبؤ أن يتوقع طبيعة ردود الأفعال للمصريين، فهم يقدمون دائما ردود فعل مغايرة للمتوقع والسائد، ويفتحون نافذة للضوء في أحلك اللحظات من خلال وسائل يجيدون صنعها، والالتفاف حولها حتى تخف حدة الألم، وفي لحظات الفرح تدمع أعينهم فنجدهم يخافون قائلين (اللهم اجعله خيرا) مترقبين أن تتبدل الأحوال ويأتي الحزن بديلا عن الفرح. وفي تبدل الأحوال من النقيض إلى النقيض من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة للمرض، ومن السلطة إلى فقدانها يتمحور جزء كبير من هذا الكتاب في معاينته لنماذجه المقدمة، وفي كل حالة يتجلى الرضا التام، ففي لحظات القوة والضعف نجد للمصريين حضورا لافتا يتسم بالقوة والتسليم، وحتى في لحظات الخنوع الكاملة نجد لهم حضورا فاعلا من خلال وسائلهم المعهودة في ذلك السياق، حيث يتحول هذا الخنوع ويتلاشى أثره على أقدام النكتة الموجعة التي تثبت للمصريين هشاشة تستجدي بنيانا يتكون بالتدريج، فكأن هذه النكتة تضع قشرة على الجرح المنفتح، فتؤدي دورها في بداية الالتئام على المدى الطويل. ما قدمه خيري حسن يرتبط باختيار نماذج فاعلة، ربما تكون أكثر النماذج كشفا عن هذه الروح، من خلال حوار مع أحد أبناء هذا النموذج، وبعض النماذج المقدمة تحتل الصف الأول في مجالاتها، وبعضها في مساحة الريب بين الصف الأول والثاني.  فالمتأمل للنماذج التي توقف عندها الكاتب، وحاول أن يمسك ويجلي روحها لتكون جزءا من الروح المصرية في تشكلها المستمر المنفتح للحذف والإضافة بوصفها شخصيات تشكل أيقونات صافية لها بريقها المبهر يدرك أن الكثير منها يتجذر في المسافة بين الصف الأول والثاني، بالرغم من أن تحديد هذه الصفوف نسبي، وتتكاتف عوامل عديدة لتشكيل حدودها وملامحها، منها ما يعود إلى طبيعة الشخصية، ومنها ما يعود إلى طبيعة الدور الإعلامي ودرجة الارتباط به. إن فنانا مثل توفيق الدقن أو محمود شكوكو إذا نظرنا إليهما في إطار المجال العام وهو الفن فإننا سنجد صعوبة في وضعهما في إطار الصف الأول، ولكن إذا نظرنا إليهما في إطار النسق الذي وضعا فيه من خلال حضور القدرة على الاختيار أو غيابه على مدار تاريخهما الفني، فإن كل واحد منهما يشكل قمة في مجاله، ومن ثم فإن هذا التحديد الصارم لن يكون مجديا في الوصول للروح المصرية، بل على العكس فاستكانة الروح المصرية لا تتشكل حدودها في إطار تأمل نماذج الصف الأول بكل ثوابته وتجلياته المحددة، وإنما تتشكل في ظني في إطار الصف الثاني وحركته الدائبة والمستمرة للانتقال، وكأن في هذه الحركة ميلادا للسمات الإنسانية والإصرار على الوصول والرضا والقناعة، والرغبة في الارتباط بالمجموع والانطلاق من خلاله.

يمارس خيري حسن أساليب عديدة للمفاجأة والدهشة في هذا الكتاب، فالحوار أساسا محاولة لدمج وعيين، وعي المحاور ووعي الشخصية التي تحاورها، في إطار لحظة زمنية معينة للوصول إلى رؤية منطقية تبرر الفعل ورد الفعل، ولكن خيري حسن يدخل لمحاوره من خلال توجه غير معلن، ومن ثم في بنائه لحواره المقدم للقارئ يحاول أن يشعرك أنه بناء لم يكن مقصودا على هذا النحو، ولكن التأمل الطويل يصل بالقارئ إلى آليات محددة استخدمها، منها آلية التقطير والتوزيع، فهو لا يقدم لك الشخصية في لقطة واحدة مزدانة بالصفات، وإنما يقطر  هذه الصفات بالتدريج مما يولد نوعا من التشويق، ويمارس دورا مهما في جزئيات توزيع الحوار، فهناك التقديم والتأخير في كل حوار، لكي يظل هذا الكتاب محتفظا بوهجه، وقدرته الفاتنة على جذب المتلقي للنهاية.

الآلية الثانية تتمثل في كون الحوار عند خيري حسن ليس عملية تلقٍ من الشخصية التي تحاورها، فهو في الأساس كما ظهر من الكتاب في محاولة التوجيه التي مارسها على الجميع- باستثناء عماد أبو غازي الذي لم يفلح معه هذا التوجيه- صاحب رؤية ووجهة نظر، وغالبا ما يشد المحاور "بفتح الواو" إلى هذه المنطقة بقدرة فائقة، يمكن للمتأمل أن يصل إلى ذلك من خلال جمل الربط الجزئية، مثل جملته في براءة قتلة المحجوب (العدل أساس الملك). فهو في كل هذه الحوارات صاحب رؤية، يبحث عنها في إجابات من يحاورهم. وقد تأتي نتيجة لذلك سمة ثالثة تتمثل في تحويله لإجابات الشخص الذي يحاوره من متن أساسي إلى هامش، لتتحول فاعلية خيري حسن وحضوره ووجهة نظره وتنتقل من الهامش إلى المتن، فكأنه من خلال هذه المزاوجة بين المتن والهامش يعلن الانتساب إلى هؤلاء  من جهة أولى، ومن جهة أخرى يصبح هو المحرك لحركة المعنى النامية في الحوار. ومن الآليات التي يستخدمها لكي يجعل القارئ منتبهًا ومشدودا، تتمثل في الاتكاء على البداية اللافتة من خلال جملة أو شعار أو حدث أو بيت شعري يدخل المتلقي من خلالها إلى داخل الإطار

العام للشخصية فيظل طوال عملية القراءة باحثا عن الترابط أو التبرير، ويجعله دائرا في حالة من حالات التلهف الشديد لاستكمال الحكاية أو لوضع إطار جامع لملامح تلك الشخصية، وتبرير سلوكها وردة فعلها، وهو في كل ذلك لا يهمل السياقات السياسية أو الحضارية التي كان للشخصية دور فاعل فيها، مستندا في ذلك التوجه إلى اختيار له خصوصية واضحة في الاتكاء على اللقطة الإنسانية بالغة الرهافة في كل شخصية من الشخصيات التي يتحدث عنها. فقد تحدث عنها، وكأنه الوريث الذي يفخر بانتسابه إليها، متحملا في ذلك السياق وجهات النظر المغايرة التي يمكن أن تحمل لومًا أو مشيرة إلى قصور ما أو خطأ ما.

الوصول إلى الروح المصرية ليس شيئا سهلا من جانب، ومن جانب آخر يتمثل في كون هذا الوصول إن حدث يعد شيئا نسبيا وفرديا في الأساس، فالمتأمل لهذا الكتاب وشخصياته يدرك أنه نتاج فترة محددة، فمعظمهم ولدوا وتوهج إشعاعهم ودورهم في النصف الأول من القرن العشرين، ولهذا فملامح الشخصية المصرية أخذت منحى خاصا في تلك الفترة، بل يمكن القول إنه لم يتم التأسيس لتلك الملامح إلا بعد ثورة 1919م، من حيث الاهتمام والتقعيد، ووضعها في بؤرة التركيز، والوعي بها بوصفها محركا للعمل الجماعي والتوجه الفردي، ولهذا نجد معظم هؤلاء ليسوا بعيدين عن الجماهير، بل نجدهم مشاركين في الجزئيات البسيطة، ولهذا نجد أن السمة الفاعلة لدى معظم شخصيات الكتاب باختلاف تكويناتهم الثقافية وبيئاتهم الاجتماعية سمة ترتبط أساسا بمحاولة نهوض المجتمع إلى التحديث ومغادرة سمة كانت قارة في لحظات سابقة، فهناك إلحاح كبير على أن كل هؤلاء الآباء كفلوا الحرية للأبناء في اختيار طريقهم ومجال اشتغالهم، وهذا يكشف عن وعي تام بملامح التحديث، فالحرية المكفولة هي السبب الرئيس في توليد ملامح التفرد من جانب، وتوليد حالة المسئولية عن هذا الاختيار من جانب آخر، فليس هناك سطوة فاعلة من جانب هؤلاء الآباء، وإن ظهرت رغبة في توجيه الابن أو البنت فهي رغبة غير معلنة، ولا يتم الإعلان عنها إلا بعد أن تتحد الرغبتان في إطار الحرية المكفولة للابن، فالاختيار حرية ومسئولية واكتساب معرفة وتجربة مملوءة بالقدرة على تحمل تبعات هذا الاختيار. ولأن معظم هذه الشخصيات أو الآباء كانوا نتاج سياق أو مرحلة معينة، تحفل بالجوهري الثابت أكثر من احتفائها بالشكلي المتحلل، سياق مشدود إلى القيمة دون النظر إلى المادة وفاعليتها، سياق يرتبط بمقاربة التجليات في لحظة بزوغها الأولى بعيدا عن التعقيدات التي تولدت بفعل الزمن وتمدده، نجدهم مشدودين بعفوية إلى التكوين الأولى والبدائي لكل مهنة، ففي مجال الفن- الفن الحقيقي- هناك إلحاح على أن المال لم يكن يعني شيئا لكل هذه النماذج، سواء توقفنا عند عماد حمدي فتى الشاشة الأول، أو عند محمود شكوكو، أو عند الشيخ سيد النقشبندي.

في سعي كل المجتمعات إلى التحديث هناك مرحلة تظل على سموقها في كل المجالات، وهذا السموق ربما يكون نابعا من سياقها الحضاري بصفاتها شديدة الخصوصية، ومن ثم نستطيع أن نفهم هذا التوجه المستمر نحو تلك الفترة بشخصياتها العظيمة موقنين أن تلك العظمة التي رافقتهم ربما تترك أثرا لها أو رائحة في أزمان تالية، وكأننا بذلك نريد أن نشير إلى قيمة الأثر الممتد لها، وفوق ذلك نريد أن نثبت هذه الفترة بوصفها حالة جماعية كانت قادرة على إنجاب العظماء في كل فن وفي كل مجال.