عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

صاحب رسائل إخوان الصفا مازال لغزًا

رسائل إخوان الصفا
رسائل إخوان الصفا

«يَسّر الله على من يَسّر علينا»، هذا الدعاء هو أول ما خطر ببالى عندما وقع نظرى على عنوان «تيسيرالتراث»، والذى مدتْ محاسنُ الصدف حبالَ الوصل بينى وبينه مصادفةً، فى يوم كنتُ أُعيدُ فيه ترتيب بعض أرفف مكتبتى الخاصة، أو على وجه الدقة أرفف «النيش» الذى تحول رغمًا عنى وعنه إلى مكتبة، بعدما زاد عدد الكتب فى المنزل على المعقول، ما جعلنى أتخذ قرارًا سألت الله أن يُعيننى عليه وهو تجهيز دفعات من بعض الكتب وإهداؤها لمن تجد الكتب فى نفسه ووقته هوى، لكن ليس هذا هو السبب الوحيد لإعادة ترتيب الكتب فى هذا التوقيت تحديداً، فقد كنا وصلنا لأحد أواخر نهارات رمضان الذى انتهى منذ أيام، وكان التهذيب والتشذيب لزامًا لكل خلية فى المنزل استقبالًا للعيد السعيد، فهذا ما وجدنا عليه أمهاتنا، كما أننى انتهزت الفرصة لأبحث لابنى عن رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية الرائعة «آليف شافاك»، والتى طلبها منى كثيراً، لكن الحقيقة أن كل هذه الأهداف تلاشت، ولم أعد أذكر منها شيئاً، عندما وجدت بين يدى الإصدار الأول لسلسلة «تيسير التراث» والتى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب، وقرأت على الغلاف «رسائل إخوان الصفا»، بتوقيع للكاتب الفرنسى «جيوم ديفو»، يحدث هذا فى الوقت الذى بدأت فيه كتابة سلسلة عن الصوفية؛ يا الله!! «رسائل إخوان الصفا» ميسرة بعيون فرنسية!! فتربعتْ قدماى على الأرض، وظللت أتابع الكتاب من صفحة لصفحة، حتى سمعت المؤذن يرفع أذان المغرب، دون أن أعثر لابنى على إليف شافاك، ولا أن أجهز قائمة الكتب لمنْ يريدها، ولا حتى أن أجهز طعام الإفطار لأسرتى!!

ولمنْ لديه الوقت والرغبة أن يعرف عن إخوان الصفا ورسائلهم، فهى فى أصلها تتكون من اثنتين وخمسين رسالة، طُبعت فى القرن العاشر الميلادى، أو الحادى عشر، احتوت على عناصر من الصوفية والمعتزلة وغيرها من المذاهب، وجاءت فى خمسة حقول معرفية، هى الرياضيات والمنطق والتى احتلت الرسائل من الأولى إلى الرابعة عشرة،

والطبيعيات من الخامسة عشرة إلى الثالثة والعشرين، والروحانيات من الرابعة والعشرين إلى الواحدة والثلاثين، والإلهيات من الثانية والثلاثين إلى الواحدة والأربعين، والعلوم الشرعية من الرسالة الثانية والأربعين إلى الثانية والخمسين، يضاف إلى ذلك رسالة الفهرست وهى مقدمة الرسائل والرسالة الجامعة التى تلخص الرسائل كلها، وتقع الرسائل الأصلية فى أكثر من ألفي صفحة. بينما كتاب «جيوم ديفو» الذى يسرها لنا لا يتجاوز عدد صفحاته 240 صفحة من القطع المتوسط، وفى تصورى أن «ديفو» استطاع بالفعل تيسير «رسائل إخوان الصفا».

لذلك وجدت أنه علىّ أن أبحث أولًا عن اسم المؤلف وعن أى معلومات تخصه، وقد صدق حدسى؛ فهو مستشرق زار مصر، وقع فى حبائلها، لم يستطع المغادرة فاستقر فيها. الفرنسى «جيوم ديفو» حصل على عدد من الدراسات العليا فى دراسة الفلسفة فى وطنه، ثم على الدكتوراه فى «رسائل إخوان الصفا»، تحت إشراف الدكتور مروان راشد من جامعة السوربون، متخذًا من الإطار التاريخى لتأليف «رسائل إخوان الصفا» موضوعًا لرسالته، ثم سافر إلى السعودية، وأخيرًا وجد مبتغاه فى القاهرة، فاستقر فيها، ويبحث «ديفو» ويكتب فى الفلسفة المعاصرة وتاريخ الفكر العربى، وهو صاحب كتاب «مدخل فى مذهب حنا آرنت» الفيلسوفة الألمانية الشهيرة، كما أنه يولى اهتمامًا خاصًا بتاريخ الفلسفة العربية، خاصة عند الفارابى.

الآن وبعد أن تعرفنا على المؤلف، نعود لرسائل إخوان الصفا، وكما يسّرها عليّ «ديفو»، سأحاول هنا تيسير هذا التيسير، ليتسنى لنا جميعًا معرفة ولو البسيط عن هذا الكنز المعرفى المعروف برسائل إخوان الصفا. فكل رسالة من هذه الرسائل تُعد مقدمة لعلم فلسفى بعينه، وعلى هذا فقد شكلت موسوعة معرفية مهمة. وبحسب ما يرى «جيوم ديفو» أنها تختلف عن مفهوم الموسوعة العلمية الذى نشأ فى القرن الثامن عشر الميلادى، إنما هى موسوعة فلسفية توافق مفهوم «موسوعة العلوم الفلسفية» عند «هيجل»، حيث ترتيبها ليس أبجدياً، لكنه ترتيب منطقى ينقلنا من علم إلى آخر، من خلال مسار ضرورى لتربية النفس وتصفية الروح.
رسائل إخوان الصفا
ولا تهتم الرسائل بتقديم علوم زمانها فقط، لكن اهتمامها الأكبر يدور حول إشكالية الاختلافات بين المذاهب الفلسفية والدينية على المستوى المعرفى، والعداء الطائفى على المستوى السياسى، لكنها لا تقف على تحديد هذه الإشكاليات وتفنيدها فقط مثلما فعل غيرها، إنما هى تقدم حلولًا لهذه الإشكاليات، وهنا تكمن أهميتها.
إن كانت تولدت لديك رغبة فى أن تعرف أكثرعن فكر إخوان الصفا، فاقرأ معى السطور القادمة بصوت تسمعه، فهى فقرة مهمة من رسائلهم الأصلية ويمكنها أن تساعدك على فهم منهج هذه الرسائل: «وبالجملة ينبغى لإخواننا ألا يغادروا علمًا من العلوم، أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم كلها، وذلك أنه هو النظر فى جميع الموجودات بأسرها، من أولها لآخرها ظاهرها وباطنها، بعين الحقيقة من حيث هى كلها من مبدأ واحد وعلة واحدة وعالم واحد».الرسالة 42.

وعلى الرغم من أن فى هذه الرسالة دعوة مفتوحة، للحب اللا مشروط للكون والبشر، ولقبول الآخر دون قيد أوشرط، فإن «جيوم ديفو» فى تحليل مضمونه لتلك الرسالة كان له رأى آخر، حيث وصف «ديفو» إخوان الصفا بالطمع فى شمولية المعرفة، فهو يرى أن الرسائل تنادى بالفضول المعرفى غيرالمحدود، وتشجعه بلا قيود تحصره داخل علم أو مذهب أو طائفة بذاتها، وقد توصل «ديفو» لذلك؛ لأن «رسائل إخوان الصفا» ليست موسوعة علمية فحسب، لكنها تحوى بين طبقاتها تفاسير لكتب سماوية، ومجادلات دينية وسياسية وقصص على لسان الحيوانات، وأيضًا أبيات شعر، بالطريقة التى تجعلنا نقول عن مؤلف رسائل إخوان الصفا، ما نقوله عن الإنسان الكامل، وهو الشىء غير المعقول.
ورغم تقديرى الدائم لقبول الآخر، إلى أننى أقف هنا مع «جيوم»، فمنْ يستطيع أن يجمع المعرفة كلها فى كتاب بشرى لا يتجاوز عدد صفحاته الألفين، وكيف له أن يشمل حكمة الأنبياء والحكماء، تحت مبرر واحد، وهو أنه كما تأتى المخلوقات كلها من خالق واحد، فالعلوم كلها تأتى من مبدأ واحد.

ربما كانت هذه الشمولية هى ما ساعدت «رسائل إخوان الصفا» على هذا الانتشار التاريخى والجغرافى الذى حظيت به، لأنها لم تغفل مذهباَ ولم تقلل من طائفة، ما جعلها مبتغى لكل من أراد الاستفادة منها ومن سمعتها

الطيبة، ولأن هذه الرسائل تجمع كل المذاهب، فقد استخدمت كل المذاهب هذه الرسائل، زاعمة أنها تنتمى إلى طائفتها، خاصة أنه لم يتوصل أحد إلى كاتبها الحقيقى، ما جعل الجميع يحاول نسبتها إلى نفسه، عن طريق تطبيق نظرياتها فى مشروعه سواء الفكرى أو الفلسفى أوالدينى، ويعد استعمال الاسماعيلية رسائل إخوان الصفا، فى مشروعهم الفكرى هو أشهر ظهور لها، بعدما جعلوا منها كتابا أساسيًا لهم.

ومع ذلك فقد تجاوزت «رسائل إخوان الصفا» حدود الطائفة الاسماعيلية، واستطاعت أن تؤثر بأفكارها على حركات سياسية أخرى كالقرامطة، وعلى حركات دينية كالصوفية، كما أننا لا يمكن أن نغفل دورها فى تاريخ الأدب العربى، والذى لعبته بفضل قصصها، وخاصة القصة المتضمنة فى الرسالة الثانية والعشرين بعنوان: «تداعى الحيوان على الإنسان أمام ملك الجان»، والتى انتقلت إلى التراث الأدبى العالمى، فكان من نتاجها مثلًا رواية «مزرعة الحيوانات» لجورج أوريل، أما على المستوى العلمى فتعد رسائل إخوان الصفا أول موسوعة فى تاريخ العلوم الفلسفية، وقد كان تأثيرها على الفلاسفة العرب ملحوظاً.

على الرغم من كل هذا، فإن رسائل إخوان الصفا مازالت لغزًا تاريخيًا وفلسفيًا حتى الآن، حيث إن كثيرين يعتبرون مؤلفها مازال مجهولاً، كما لم يستطع أحد إلى الآن تأكيد تاريخ تأليفها على وجه الدقة.

فقد ظلت دراسة رسائل إخوان الصفا لمدة تصل إلى ألف عام على فرضية أبى حيان التوحيدى، الذى يرى أن إخوان الصفا مجموعة من علماء مدينة البصرة كانوا معاصرين له، وطبقًا لهذه الشهادة حدد زمن التأليف المشار إليه، ولم يستطع أحد التشكيك فى هذه الفرضية، لعدم وجود أدلة على دحضها، وكذلك عدم وجود بديل لها، لكن منذ حوالى أربعين عامًا فقط، بدأ الباحثون التشكيك فى صحة هذه الفرضية، بعدما استطاع الباحث اليمنى الأمريكى «عباس الحمدانى» أن يثبت تأثير رسائل إخوان الصفا على تأسيس الخلافة الفاطمية، واقترح أن وقت تأليفها يرجع إلى عام 260 هجرياً، وبناء على ذلك فإن الباحث البلجيكى «دوكلتاى» والذى تابع أبحاث «الحمدانى» أثبت استحالة فرضية التوحيدى، مستندًا إلى مسلمة القرطبى المجريطى الذى يستشهد برسائل الصفا فى كتابه «رتبة الحكيم» و«غاية الحكيم»، اللذين ألفهما قبل عام 340 هجرياً، ولذلك قال «دوكلتاى» أن القرطبى نقل إخوان الصفا من الشرق خلال سفره الذى كان قبل ذلك، من ناحية أخرى رفضت المترجمة الألمانية «سوزان ديفلد» فرضية مجموعة المؤلفين البصريين، لأن أسلوب الكتابة فى الرسائل واحد، ما يخبر بأنها لكاتب واحد وليست لمجموعة من الكتبة.

ونتيجة لكل هذا التخبط، قال «جيوم ديفو» فى كتابه: «لم يمكننا أن نحدد خطابًا متماسكًا حول تأليف رسائل إخوان الصفا، على الرغم من مرور قرنين من الزمن على نشأة البحوث العلمية بالمفهوم الحديث، إلا أن الرسائل مازالت تمثل لغزًا تاريخيًا وفلسفياً.»

وهنا تأتى أهمية رسالة الدكتوراه التى أعدها «جيوم ديفو» حول نشأة «رسائل إخوان الصفا» ومن ثم أهمية كتابه هذا الصادر عن سلسلة «تيسير التراث»، حيث يقول فيه: «أتصور أخيرًا أننى قد استطعت أن أتوصل إلى مقاربة فى رسالتى للدكتوراه حول تاريخ التأليف واسم المؤلف، ما قد يطرح رؤية جديدة حول فهم رسائل إخوان الصفا، حيث أثبت بسلسلة من البراهين وبالعودة إلى المخطوطات، أن أحمد بن الطيب السرخسى تلميذ الكندى، قد يكون المؤلف الحقيقى لرسائل إخوان الصفا، وقد كتبها عام 280 هجرياً، وقد أسس «السرخسى» عمله على المجالس العلمية لجماعة إخوان الصفا، وهم مجموعة علماء فلاسفة من مدرسة الكندى». ويضيف «ديفو»: «كان السرخسى فيلسوفًا وأديبًا مشهوراً»، وكان تلميذ الكندى المخلص، لدرجة أن الكندى كان يرسله كممثل له فى المناظرات الدينية، وهذا يبدو واضحًا فى رسائل إخوان الصفا، التى لا تحتوى إلا على أفكار الكندى بكل تفاصيلها، ومن الضرورى أن نرجع إلى الكندى لنفهم نظام ترتيب الرسائل الاثنتين والخمسين، والتى تحاكى المنهج التعليمى الذى اقترحه الكندى فى رسالته «كمية كتب أرسطو»، فكما يصنف الكندى كتب أرسطو إلى أربعة أجزاء؛ هى كتب المنطق، الطبيعيات الإلهيات والسياسة والأخلاق، ويضع فى أولها كتب الرياضيات، فإن الرسائل الاثنتين والخمسين تترتب وفقًا للترتيب نفسه، ومن ثم فستكون قراءتنا لرسائل إخوان الصفا مبنية على هذه الفرضية التاريخية».