رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

البحث عن أثر شيوخ الإسلام بدار قبطي.. ماذا اكتشفنا فى جرجا؟

جانب من الجولة
جانب من الجولة

من الصعب أن تترجل على قدميك بمدينة جرجا ــــ نحو 520 كيلو متر جنوب العاصمة القاهرة، فى وقت الظهيرة خاصة فى الشوارع التي تعج بالمتاجر والأسواق، المركبات الصغيرة الهندية المنشأ "التوك توك" كثيرة العدد وتخلتط بالكتل البشرية فى الشوارع بشكل تبدو  فيه تجربة الترجل الأقدام بالنسبة للغرباء عن المدينة التاريخية مغامرة مرهقة، فقد ضربت العشوائيات المدينة ذات التاريخ الممتد من العصر الفرعوني إلى العصر المملوكي ـــــ العثماني.

 

فى جرجا يسمون النيل بحرًا ككثير من سكان بلاد الصعيد. كنت أسئل عن  شارع الكورنيش المطل على نهر النيّل وصحح ليّ التسمية سائق المركبة! هناك تتراص بشكل عمودي ثلاث قصور قديمة عنوُن اثنين منها لافتات حديثة إنهما من أملاك ورثة جورجي بك مشرقي ومن الواضح إنه كان من طبقة أعيان الإقليم ويُلاحظ مدي الإهمال والإتلاف الذي حل بالقصرين المتجاورين مقارنة بالقصر الثالث المجاور لهما والذي يبدو حجم الإهتمام به وكأنه مأهول بالسكان.

على باب القصر الثالث ذو الباب الحديدي، كان يقف المحامي محسن وديع ــــــ وكيل العائلة ومدير أملاكها،  ويظهر من خلفه لافتة من الرخام الأبيض كُتب عليها.. قصر فخري بكّ عبد النوّر، شيُد سنة 1906، كان أريج الزهور يفوح من داخل حديقة القصر ويُنبه الزائر إنه فى طربقه إلى حديقة غنّاء، يبذل رجلان طاعنان  فى السن جهود يومية كبيرة للحفاظ على النباتات وريّها وتقليمها ورغم كبر عمرهما الذي قضياه فى القصر فإنهما كانا يتحركان فى خفة وهدوء ويمارسان عملهما بدأب شديد، فى الداخل كانت هناك ثلاثة كلاب حراسة تولي الرجلان إبعادها عنا ولكن واحدًا منها أصر أن يرافقنا، فى جولتنا فى الحديقة المُبهرة.

 

يحيلك باب القصر الخارجي إلى باب القصر أو السراي الرئيسي، وفى تلك اللحظة ستستدعي ذاكرتك فورًا الصورة الشهيرة للخديوي عباس حلمي باشا، فى 9 فبراير 1910 عند زيارته للقصر وصاحبه فخري عبد النوّر ومنحه رتبة البكوية بعدها، فمازالت تفاصيل الصورة القديمة موجودة رغم مرور 113 سنة على إلتقاطها! بما فيها درج السلم وسوره المكون من 5 كتل مربعة متراصة فوق بعضها على كل جانب، والباب الخشبي المؤدي إلى داخل القصر! 

يتوسط القصر الرئيسي الحديقة ويتألف من 4 طوابق بما فيها البدروم، ويتعامد الباب الخارجي للقصر مع الباب الداخلي، وإلى الجنوب من منشاة القصر يقع مبني صغير منفصل من طابق واحد  يتكون من 5 عقود بنائية يتوسطها المدخل الرئيس، وكان هذا المبني ديوانًا لموظفي دائرة أملاك فخري عبد النور، ويحيط بالمبنيّن حديقة كبيرة محاطة بسور مرتفع.  

 

 

شيُد القصر بطراز المباني الشائع فى زمن بناءه أول القرن العشرين، والذي فضلته طغمة الأعيان والوجهاء. حرص البناؤون على استخدام نمط كلاسيكي فى بناء منشأة القصر يبرز الفخامة دون التقييد باستخدام تفاصيل فنية كثيرة. يظهر ذلك فى الثلاث واجهات الرئيسية لمنشأة القصر من  الخارج التي تتشابه مع بعضها البعض حيث استخدمت العقود البنائية فى كتل الواجهات والأعمدة ذات التيجان الكورنثية، حرص البناؤون أيضا على إحداث مغايرة لكسر رتابة التشابة بين الواجهات الثلاث من خلال استخدام  3 أنماط فنية فى زخارف وتفاصيل واجهات الشرفات والأبواب فى طبقات القصر الثلاث، يُلاحظ تخصيص نمط  لواجهة الباب الرئيس للقصر ونمط ثان لباقي واجهات شرفات وأبواب الطابق الأول، وتوحيد النمط الثالث فى واجهات أبواب وشرفات الطابقين الثاني والثالث من منشأة القصر.

يحتاج إلتقاط تفاصيل منشأة القصر من الخارج إلى وقت طويل فالتفاصيل ثرية ومتنوعة رغم إنها تبدو بسيطة، هذه التفاصيل استوقفت سعد باشا زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية، ففي صيف 1910 كان سعد زغلول يقوم بجولة تفتيش على  محاكم  الوجه القبلي عندما كان وزيرًا للعدل/ الحقانيّة بعائمة نيلية، دعا فخري بكّ عبد النوّر ـــ الذي متواجدًا فى جرجا،  الوزير إلى قصره فلبي طلبه ومعه معيته .. زوجته صاحبة العصمة صفية زغلول، وسكرتيره الخاص وعدد من مسؤولي الحقانيّة.

 

سئل «الزعيم » «عبد النوّر» وهو معجبًا بتفاصيل عمارة القصر ..من بناه؟ ومن المفارقة الغربية أن فخري بكّ عبد النوّر عندما شرع فى تشييد قصره فى الأرض التي ورثها عن والده  سنة 1906، وأنفق على بنائها 10 آلاف من الجنيهات، نظم له صديقه الشيخ محمد سالم الجرجاوي، أبياتًا من  الشعر تُؤرخ لبناء القصر وتم وضعها فى أساسات البناء كالعادة المعمول بها إلى وقتنا هذا وإن إختلف المحتوي، هذه الأبيات ضمت اسم «الزعيم» ربما حكمت القافية والصدفة ذلك! تقول الأبيات.. طالع السعد وافي وبدا باليُمن بدري، و «سراي» العزّ تمت فى رُباها النيل يجري، والهنا نادي يُؤرخ دار«سعد» فيها «فخري»!.

 

كان الشغف يُعجل بيّ لمغادرة الحديقة ودخول ذلك القصر الذي مازال يحتفظ بتفاصيله القديمة التي يتجاوز عمرها أكثر من قرن من الزمان، نحو 117 سنة تقريبًا! وبروية دفع الرجل الستيني باب القصر  الخشبي لتبدأ رحلة فى عمق التاريخ.

 

يؤدي الباب إلى ردهة قصيرة على جانبيها غرفتين أحدهما غرفة إستقبال الضيوف الرئيسية إلى يمين الداخل إلى القصر، ونهاية الردهة يوجد مدخل يأخد شكل نصف الدائرة على جانبيه عمودين ويؤدي  إلى ردهة القصر الرئيسية التي تفتح عليها غرف الطابق الأول ويفصل بينها وبين الدرج المُؤدي إلى الطابق الثاني حجاب خشبي يأخد شكل نصف الدائرة فى أعلاه، ويزينه الزجاج الملون.

 

توحي غرفة الإستقبال الرئيسية للقصر للزائر إنه دخل متحفًا! هذا الإيحاء يتولد من نمط الإضاءة الخافتة وإتساع مساحة الصالون والفوتغرافيا النادرة التي تزين الجدارن والقطع النادرة المجلوبة من خارج مصر لصالح القصر ومنها المرايا والنجفة ذات القناديل،  والستائر النادرة التي لم تتغير منذ تأسيس القصر، وكذلك رسوم الجدران والسقف.

تُعرف الفوتغرافيا والبورتريهات الشخصية، المُعلقة على الجدارن مبدئيًا بسلسال عائلة عبد النوّر على مر الزمن، الجد الأكبر ثم نجله ثم حفيده «فخري» مالك القصر، ومرسوم حصول فخري عبد النوّر على البكوية من الخديوي عباس باشا حلمي.

 

تعرض الفوتغرافيا أيضا أحداثًا ومناسبات منها وليمة الغذاء التي أقامها محمد فتح الله بركات وفخري بكّ عبد النور لأعضاء الوفد المصري بفندق شبرد فى صيف 1920، وتعرف الفوتغرافيا أيضا بالإستعدادت الكبيرة التي أقامها فخري عبد النوّر، أمام قصره، احتفالا بقدوم سعد زغلول إلى جرجا ضمن زيارته للصعيد بالباخرة نوبيا سنة 1921، حيث المرسي النيلي والبوابات والزينات. 

 

 

كما تبيّن الفوتغرافيا أيضا تعرض «عبد النور» لأزمة صحية كبيرة سنة 1937 ـــــــ قبل وفاته بخمس سنوات، دفعت مشغل ذكري الملك فؤاد الأول لتعليم اليتيمات بالجمالية بالدرب الأصفر، لكتابة أبيات من الشعر لتهنئة  بالشفاء من الوعكة!.

 

تحوي غرفة الإستقبال الرئيسية فى القصر عدة صور لـ «فخري عبد النور» فى مناسبات مختلفة وفى مراحل عمرية متباينة، وتُبيّن الصور المتعددة للزعيم سعد زغلول داخل الغرفة مدي التعلق الوجداني لـ «عبد النوّر» بزعيم الحركة الوطنية ومن أندرها لوحة مرسومة لسعد زغلول مؤرخة فى سنة 1920 ويظهر مرتديًا الزّي الشرفي، وتضم فوتغرافيا غرفة الإستقبال صورة نادرة أيضا لمكرم عبيد سكرتير الوفد المصري يجلس على مكتبه وخلفه

مجسم يصوّر الزعيم سعد زغلول!

 

التفاصيل فى غرفة الإستقبال الرئيسية كثيرة وهي تحرض على البقاء داخلها لاستكشافها، ولكن ماذا عن غرفة الشيخ «العدوي»؟!

سئلت وكيل الملّاك عنها ونحن على باب القصر فقد كنت محملًا بمعلومات عن حفلات تلاوة الذكر الحكيم التي كانت تُقام فى القصر  وقد خمنت أن غرفة «الشيخ» فى الطابق الأول.

 

صعدنا درج السلم المُؤدي للطابق الثاني بسرعة، وهنا ظهرت شخشيخة القصر ذات الإضلاع المثمنة التي تتخذ الشكل الهرمي وتتألف من  ثلاث طبقات من الخشب ذات نوافذ خشبية مفرغة ويغطيها الزجاج الملون، ألحقت هذه الوحدة بشكل متكرر بأخر طابق فى قصور وأبنية النُخب  فى ذلك الوقت وكان الغرض منها الإضاءة والتهوية الطبيعة للمنشأة.

 

فى الطابق الثاني فتح المحامي محسن وديع، باب غرفة وكأنه يفتح خزنة قديمة وقال إنها غرفة الشيخ «العدوي» كان هناك سريرين من النحاس فى غرفة النوم هذه، أشار الرجل أن أحدهما كان المفضل لـ «سعد زغلول»، كان سريرًا مغايرًا عن بأقي الأسرة النحاسية التي تتناثر فى غرف الطابق الثاني، بدا وكأنه تحفة فنية منقولة.

وعلى ما يبدو أن هذه الغرفة كانت مخصصة لإقامة كبار الضيوف الوافدين إلى القصر، والشيخ محمد حسنين العدوي كان وكيلًا للجامع الأزهر وهو والد الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق، ومن الواضح أن الشيخ «العدوي» المولود ببني عديّ بمحافظة أسيوط قد إرتبط بصداقة مع فخري عبد النوّر ، حتي توفي ــــــ الشيخ، سنة 1936.

 

أسس فخري عبد النوّر لمبدأ الوحدة الوطنية منذ بدء عمله العام والسياسي، و كان عنصرًا هامًا فى إنشاء الجماعة الوطنية على أساس وطيد وهي أحد منجزات الحركة الوطنية المصرية التي كان »عبدالنوّر«، أحد أهم روادها، فضلًا عن كونه من مؤسسي الطبقة الثالثة من الوفد المصري التي تأسست فى أغسطس 1922 عقب الحكم بالإعدام على أعضاء الطبقة الثانية.

 

 في جرجا تقول الروايات الشفاهية إن الرجل كان ينتخبه المسلمين قبل الأقباط نائبًا عنها فى البرلمان حتي وفاته في صيف 1942 فى البرلمان، وكان حريصًا على التبرع بأموال لإنشاء دور العبادة  كذلك مخصصات مالية لأضرحة الأولياء يسمونها هناك «نفحات». 

 

من خلال صالة الطابق الثاني المتسعة أخدنا فى التنقل ولم تتركنا الدهشة، من غرفة إلى أخري، مرورًا بقاعة الطعام الرئيسية فى القصر ذات الرسوم والألوان التي مازالت زاهية وتتماهي مع الغرض من القاعة، حرص الفنانون على إبراز عناصر فنية على الجدران كالفواكة وأداوت المائدة وغيرها.

 

كنّا مجبرون على إطالة البقاء فى غرفة إستقبال الضيوف الثانية فى القصر والموجودة الطابق الثاني فقد زخرت بالقطع والأثاث القديم والفوتغرافيا أيضا! وهناك اكتشفنا أن شيخ الإسلام سيدي الإمام أبوالوفاء الشرقاوي، له أثر في سراي «عبد النور»، كانت صورة للإمام يظهر فيها مبتسمًا تجاور صورة فخري عبد النوّر على جدارية ملونة باللون الأخضر الفاتح!

فى أحد أيام النصف الثاني من شهر أكتوبر سنة 1921، وبينما كان القطب الصوفي الإمام  «الشرقاوي» يعقد مجلسه فى السراي والساحة الملحقة بها شمال قنا، وصلته أنباء من جرجا، مفادها أن السلطات المحلية مدفوعة من الإدارة البريطانية، حرضت بعض الأشقياء لإحراق قصر فخري عبد النوّر، وإتلاف حفل الاستقبال ومظاهره، المُعدة لإستقبال الرحلة النيلية للزعيم سعد زغلول والمارة على مدينة جرجا لزيارة قصر »عبدالنور« لتناول مأدبة غذاء والمبيت ربمّا.

 

تحرك الإمام أبو الوفاء الشرقاوي رفقة خادمه،  إلى جرجا، ولمّا وصل إلي القصر وجد أن السلطات قد أغلقته وسدت جميع المنافذ المؤدية إليه! أمر الإمام أتباعه بإزاحة ما يعوقه عن الدخول وفتح قصر  «النور» ودخله وجلس فيه، ولما سمع أهالي جرجا بما فعله الإمام توافدوا على القصر للترحيب به واكتظت الحديقه بهم، وأرسل الإمام تلغرافًا إلى فخري عبد النوّر وهو قادمًا على الباخرة نوبيا رفقة سعد زغلول ومصطفي النحاس يقول إنه ينتظرهم فى القصر!

 

وجدنا أثر شيوخ الإسلام فى الطبقة العلوية من قصر فخري عبد النور المخصصة لأهل البيت بالضرورة، ربما يُوضح ذلك مكانة الإمامين فى وجدان مؤسس القصر ومالكه.

 

قضينا وقتًا طويلًا وأرهقنا تتبع التفاصيل المعمارية والفنية و الشخوص والأحداث التاريخية بواسطة الفوتغرافيا القديمة، فى ذلك المكان النادر الذي مازال يحتفظ بعبقه وتفاصيله القديمة بشكل مُذهل، ولم نكن نريد الرحيل.

 

يُؤسس بقاء هذا النموذج النادر من قصور النخبة المصرية دون  تغيير أو إتلاف، للفكرة القائلة إن التراث هو إرث لا يجب التفريط فيه، وبالضروة لابد أن يحظي بعناية من يملكونه، أعملت ذرية فخري عبد النوّر عبر أجيالها وعلى رأسها الاقتصادي والسياسي منير عبد النور وزير السياحة والصناعة الأسبق، مبدأ الإبقاء على الإرث الحضاري وحفظت ذلك التراث الإنساني من الفناء، ليبقي مزاراً وأثرًا .