رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

النجم الذى «هوى».. فى تغريبة بنى عباس!

محمد عباس لاعب الأهلي
محمد عباس لاعب الأهلي السابق

(القاهرة 1984)

«عباس.. عد إلى ناديك..وأهلك»! عباس.. هل تسمعنا؟ عد يا عباس! نحن الآن فى استاد القاهرة الدولى، الساعة الثانية بعد ظهر يوم الجمعة الأولى من شهر يناير. الجماهير تحتشد، استعدادا للمواجهة المرتقبة بين قطبى كرة القدم المصرية (الأهلى والزمالك). جماهير الأهلى تهتف لفريقها، جماهير الزمالك ترد. جماهير الأهلى تهتف لنجمها محمد عباس «الهارب» من النادى منذ أيام. منذ أسابيع. منذ شهور. الجماهير تهتف له: «عد إلى ناديك.. وأهلك». جماهير الزمالك لا ترد، بل إنها تتمنى، ألا يعود. بدأت المباراة. الهتاف يتكرر. انتهى الشوط الأول. الهتاف يتكرر. الأصوات تخرج من حناجر الجماهير مزلزلة، وهى المشتاقة إلى مهارة نجمها المحبوب «بيليه» كرة القدم المصرية حسب وصف النقاد والجمهور له صاحب البشرة السمراء، والأسنان البيضاء. والقذائف الصاروخية التى كانت تدك دفاعات كل الفرق المنافسة. الشوط الثانى بدأ. الهتاف يتكرر.. «عد.. يا عباس»! المباراة انتهت بالتعادل، وهو لا يسمع، ولا يري، ولا يستجيب، لأنه فيما يبدو كما قال البعض لم تكن تعنيه كثيرا موهبته الكروية التى فاقت أو على الأقل تساوت مع موهبة محمود الخطيب فى ذلك الزمان.

يا عباس.. أهلك.. يا تهلك والمقصود هنا بـ «أهلك» هو النادى الأهلى. لكن عباس الغاضب، التائه، المتمرد، لم يعد. ولن يعد. والنتيجة أنه «هلك».

                         هلك.. الذى هرب!

 (مصر الجديدة 1986)

- أسافر فى الصباح..

 - أسافر فى الغروب..

- هربان من الجراح..

 - ولا من الهروب.

ومن هروب إلى هروب عاش محمد عباس حياته الأولى، هاربا من بيته إلى الشارع. ومن الشارع إلى أحد أندية المصانع الحربية، ومنها إلى النادى الأهلى - وكان عمره 16 عاما!- الذى لعب له وحقق فيه عدة بطولات، ونجومية طاغية ثم تعددت مرات هروبه من النادى الأهلى واختفائه المستمر وابتعاده عن الانتظام فى التمرين واللعب. ومن النادى الأهلى هرب إلى نادى المصرى البورسعيدى. ثم واصل حبه فى الهروب واختفى عن أنظار جمهور وإدارة النادي، ولتكتمل لديه أسطورة الهرب، نجده يهرب من الزواج، ومن الاستقرار، ومن تحمل المسئولية، ومن التمارين الرياضية، ومن رفع معدلات لياقته البدنية، ومن نظرية العقل السليم فى الجسم السليم. يهرب من كل ذلك - وكأنه خائف من المساء. وخائف من الصباح. وخائف من الجراح.. نجده هاربا من الهروب ذاته- كما يقول الأبنودى فى كلماته التى غناها على الحجار على لسان «بدرى بدار» فى مسلسل ذئاب الجبل الشهير - إلى المقاهى والحانات. والليالى الحمراء فى البارات وإلى قضاء السهرات المخملية وراء الراقصات. رحلة الهروب تلك لم تتجاوز السنوات الثلاث هى عمر نجوميته الكبيرة فى عالم كرة القدم؛ ليظل بعدها يطارد الهروب ويطارده الهروب، حتى سقط فى شقة مصر الجديدة يوم التاسع من شهر فبراير عام 1986 وهو يتعاطى ويتاجر طبقا لأوراق القضية فى المخدرات.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، عندما اقتحمت مباحث مكافحة المخدرات بقيادة العقيد حمدى الجزار الشقة الوكر. كان عباس يجلس وبجواره جهاز كاسيت يأتى منه صوت أحمد عدوية وهو يغنى:

 - عمي.. يا صاحب الجمال

 ارحمنى دنا ليلى طال

 شوف لى جمال

 - على قد الحال

 - يعوض صبرى اللى طال

عمى.. يا.

 باب الشقة يستقبل ضربات متتابعة، وقوية. المحمدى إبراهيم صاحب الشقة يفتح الباب بهدوء وخوف. القوة تحاصر المكان. عباس يقف فى مكانه بصعوبة شديدة وفى يده لفافة الهيروين. قدماه القويتان تهاوتا. أسند ظهره للحائط حتى انتهت القوة من وضع (الكلبشات) الحديدية فى أيدى الأصدقاء الثلاثة (إبراهيم المحمدى ومحمد عباس ومجدى على وكان معهما 13 جرامًا من الهيروين و560 جنيها. اتهم الأول بالاتجار والثانى والثالث بالتعاطى) بعد دقائق انهار وبكى، كما لم يبك من قبل. بكى فى هذه اللحظة - بالتحديد - بعدما تذكر صوت الجماهير وهى تهتف له وتناديه: «عباس.. عد.. يا عباس»! عادت القوات بالمتهمين، مترجلة تحت حراسة مشددة من الشقة حتى صعدوا إلى سيارة الشرطة فى طريقه إلى مباحث مكافحة المخدرات بمديرية أمن القاهرة. فى سيارة الشرطة، جلس بجواره أصدقاء الدخان الأزرق، والليالى السوداء. عباس سارح. شارد. ذائغ البصر. ينظر لملامح الشوارع التى تظهر بصعوبة من نافذة السيارة ولسان حاله يقول: يا ليتنى عدت. يا ليتنى كنت. يا ليتنى مت.

  (أسوان - 1950)

فى هذه المدينة عاش رجل بسيط تزوج من امرأة من أهله. الحياة صعبة. الفقر يعيش بين الناس، ولا يسمع أنينهم. الزوجة تقنع زوجها بالرحيل للعاصمة. وبالفعل يجمع الرجل متاعه وأشياءه البسيطة، ويستقل قطار الصعيد المتجه إلى القاهرة. فى القاهرة رزقه الله، بالعمل كموظف بسيط فى وزارة الري. وثلاثة أولاد (إبراهيم - محمد - سعاد) وأجمل ما رزقه الله به هو موهبة ابنه محمد. تلك الموهبة التى أهدرها وأضاع مستقبله الرياضي، وحياته كلها بسبب أصدقاء السوء.               

 (القاهرة - 1984)

هذه النهاية المؤلمة كيف كانت؟ ولماذا حدثت؟ أبوه.. يصرح لوسائل الإعلام التى كانت تهتم بتلك الموهبة الجبارة فى ذلك الوقت قائلًا: أنا من البداية كنت ضد ابني، فى كل ما فعله مع ناديه. كيف يتمرد على الأهلى؟ لقد كان الأهلى هو بيته الأول. وعاش فيه وبين جدرانه أكثر مما عاش معنا فى البيت. نعم أنا أعرف أن المشكلة الحقيقية هو أنه تعرّف على بعض الشباب ذوى النفوس الضعيفة والأخلاق السيئة. وكم كنت أتمنى أن تحتويه إدارة النادي، حتى لا يضيع منى ومنهم، ويعود للعب مرة أخرى فى الأهلى!

 (حى المنيل 1985)

محمد عباس يتكلم: «أنا لن أعود للأهلى، إلا عندما تُنفذ شروطى وأعرف حقوقى وواجباتي. لقد لعبت 17 مباراة فى الدورى الموسم الماضي- موسم 1984- مكافأتى خمسة آلاف جنيه. لكن الإدارة لم تعطنى سوى (1700) جنيه فقط. أنا حاليا لا تهمنى الفلوس، لكن أريد من الإدارة الاعتراف بحقى فقط. وبعدها سأعود للنادي»، انتهى كلام عباس للصحافة فى ذلك الوقت ردا على الاتهامات التى وجهت له. أما شقيقه الأكبر إبراهيم الشهير بـ «حميدو» فيرد على هذا الكلام قائلا : «هؤلاء رفقاء السوء الذين زاحموا رأسه بالكلام عن الحقوق والواجبات، لذلك أنا غاضب منه، ولا أتحدث إليه إطلاقا. لقد علمته كرة القدم. وعلمته حب الأهلى، ولكن منذ أن ترك النادى وهو يفكر بطريقة عكسية».

 (القاهرة - 2019)

أجلس على مقهى فى شارع جواد حسنى بوسط البلد. الساعة السابعة من مساء ليلة السبت 13 أبريل. أجلس على الرصيف أمام شاشة التليفزيون. أنتظر مباراة العودة بين الأهلى مع

فريق «صن داونز» فى بطولة إفريقيا للأندية الأبطال. أتذكر هذا اللاعب صاحب البشرة السمراء. والأسنان السوداء. والضحكة المنكسرة، والحلم الضائع من بين يديه، والمجد الرياضى الذى عاشه، والحساب البنكى الذى توقعه، والنجومية التى كادت لا تغيب عنها الشمس. كل ذلك ضاع وأهدره بلا منطق أو سبب. المباراة أوشكت على ضربة البداية. طلبت كوب شاى بالنعناع. بدأت الآن المباراة وخيم الصمت على الرصيف والشارع الذى نجلس إليه. انتهى الشوط الأول بالتعادل. مع كل هجمة ضد الأهلى ينفعل الجمهور. فى الاستراحة اعتدل رجل ستينى العمر( اسمه عم صابر) بجوارى وأعطى ظهره للشاشة وهو حزين ثم قال: هل هذا فريق الأهلى؟ ما هذا الذى أراه أمامي؟ الأهلى عاجز عن تعويض خسارته التاريخية 5 صفر فى جنوب إفريقيا. نعم يقدم عرضا جيدا، لكن فى النهاية الكرة أهداف كما كان يقول الكابتن لطيف.

ثم تذكر بحزن واضح بطولة أندية إفريقيا لأبطال الدورى موسم 1980/1981 والتى التقى فيها الأهلى مع فريق تزامبى بطل الجابون، والتى أحرز فيها لاعب كان صاروخًا رياضيًا - حسب وصفه - هو محمد عباس، هدف الفوز وقتها. بعد دقائق بدأ الشوط الثاني. أحرز الأهلى هدفه الأول والوحيد ووداع البطولة مهزومًا بنتيجة المباراتين ذهابا وعودة. الحكم أطلق صفارة النهاية، ليغادر بعدها الرجل المقهى فى حالة حزن واضحة على ملامحه.

 (مدينة بورسعيد - 1985)

جماهير هذه المدينة العاشقة لكرة القدم، خرجت فى الصباح الباكر فى جماعات تستقبل النجم محمد عباس الذى نجح الراحل سيد متولى رئيس النادى فى ضمه مقابل 50 الف جنيه فى الموسم وشقة سكنية. وبالفعل وصل عباس وزميله جمال جودة للنادي. الجماهير بالخارج تهتف باسمه. عباس طلب إذنا ليسافر إلى القاهرة. عباس سافر فى المساء. وجاء الصباح وهو لم يأت. عباس يعود ويمارس هوايته فى الهرب. هذا الهروب كتب عنه الراحل إسماعيل البقرى فى الأهرام عدد 11 فبراير 1986 قائلًا: كانت حياة محمد عباس هروبا فى هروب، رغم كل الفرص التى أتيحت له، ولم تتح لغيره من اللاعبين من رعاية واهتمام. ولكن لأنه جرى وراء شهواته وملذاته.. والنتيجة هذه النهاية الحزينة. وعندما سُئل عن سر هروبه الدائم خاصة بعدما ترك النادى الأهلى وانتقل إلى نادى المصرى البورسعيدى. قال: أنا لم أهرب.. لكن الحقيقة أن الراحل سيد متولى لم يلتزم بالاتفاق الذى أبرمه معي. وبالمناسبة كانوا عرضوا علىّ 50 ألف جنيه فى الموسم وليس 15 ألف كما نشر وقتها. لكن كما ذكرت لك لم يلتزموا معى بما اتفقنا عليه.

(القاهرة - 2019)

عدنا من بورسعيد إلى القاهرة التى كشفت فيها صحيفتا (المصرى اليوم.. والوطن فيما بعد) ومعهما بعض وسائل الإعلام المرئية والمواقع الإخبارية عن شخصية النجم محمد عباس، بعدما وصل إلى عامه الستين منذ شهور فى مشوار حياته ما بين كرة القدم والسجن والحياة، لنجده يقول لوسائل الإعلام بحزن وحسرة وندم: "لو عاد بى الزمن ما كنت تعرفت أو اقتربت من الذين أضاعوا مستقبلي. أصدقاء السوء الذين أخذونى ذات ليلة للسهر وأعطونى سيجارة حشيش على سبيل التجربة.. هذه السيجارة سحبتنى وسجنتنى وجعلتنى أعيش أيام الحزن والدموع وراء أسوار السجن. كانت أياما سوداء بمعنى الكلمة، أدت إلى دمار موهبتى وشخصيتي، حتى أصبحت على ما أنا فيه الآن من فقر وضياع، حيث لا شقة تؤويني، فأنا أعيش عند أختى وأولادها، ولا زوجة تؤنس وحدتي، ولا وظيفة أو معاش يسند شيخوختى بعدما بلغ بى الكبر ووهن الجسد. تجربتى فى الحياة كانت قاسية، ومؤلمة، ومحزنة، لكنه القدر الذى لا مفر منه. نعم أحببت كرة القدم.. وما زلت. وأحببت الأهلى.. وما زلت وأحببت الجماهير.. وما زلت وأرجو أن يعرفوا جميعًا، إننى أحببتهم بكل إخلاص قدر استطاعتى"، لقد أحب هذا النجم صاحب الموهبة نادرة التكرار، بالفعل كل هؤلاء، لكنه دون أن يدرى - أو ربما كان يدرى - لم يحب موهبته الفذة، بالقدر الذى تستحقه، ولم يرعها بالقدر الذى يحميها وتحميه؛ فاستحق ما حدث له وما أصبح فيه بعد ذلك. وبذلك تنتهي "تغريبة" محمد عباس الذى كان يُعد أحد أفضل نجوم كرة القدم فى مصر والوطن العربى فى يوم ما.. لكنه كان نجمًا فـ«هوى»!