رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبدالرحمن فهمي.. دماغ ثورة 1919

بوابة الوفد الإلكترونية

عبدالرحمن فهمي دماغ الثورة وعقلها المدبر ورجلها الفدائي.. ربما لم يأخذ شهرة واسعة وربما نُسي في تاريخ مصر الحديث نتيجة خفوته أو تواريه بعد انتهاء الثورة واختيار طريق السياسة طريقاً للتفاوض.

في مذكرات سعد باشا يشير صراحة إلى يوم 8 مارس عندما قبض عليه، ويقول إنه لم يتوقع ما جرى بعدها. كيف ثار الناس في الشوارع؟ كيف خرجت مظاهرات الطلبة؟ كيف أضرب الموظفون؟ وكيف قطع الناس شريط السكة الحديد؟ وكيف قتل كثيرون عساكر الاحتلال غضباً وانتقاماً؟

يبقى السؤال المهم: مَن أدار عمليات الجهاز السري؟ وكيف كان يخطط ويدبر ويبحث ويتواصل مع القائد الأعلى سعد زغلول وهو في منفاه؟

الإجابة بسيطة وسهلة ومثبتة بوثائق وكتب وشهادات: عبدالرحمن فهمي، ذلك الضابط العسكري سليل العائلة العسكرية، المولود سنة1870 والذي خدم في الجيش المصري في مناطق عديدة وترقى في المناصب حتى صار ياورا لوزير الحربية وانتقل بعد ذلك للعمل الإداري والشرطي فتنقل  بين عدة مديريات مسئولاً عن عدة مراكز ثم تولى مسئولية  الأمن العام في مدينة بني سويف، ثُم تولى مديرية الجيزة وأحيل إلى المعاش سنة 1913 وعمره في الثالثة والأربعين.

وهناك إشارات تاريخية لأدوار لعبها فهمي في السودان في سنة 1918، حيث شارك في إنشاء تنظيمات سرية لمقاومة الاحتلال كان من بينها تنظيم يسمى اللواء الأبيض، غير انه لم يكتب عنه أحد باستفاضة، وبقيت شذرات بسيطة عنه في كتب التاريخ..

وربما أسهم ذلك في تراكم خبرات الرجل بمختلف طبقات المجتمع والتعرف على خرائط تحرك العمال والفلاحين وهو ما جعله ملماً بكل شيء، ولديه وعي وعمق في التفكير وقدرة على قراءة البشر والتعامل بحنكة مع سلطات الإستخبارات البريطانية حتى أنه لم يكن يترك دليلاً واحداً عليه وعلى وجوده وقوته.

ولا أدري يقيناً ما دفع الدكتور حسين مؤنس المؤرخ المعروف إلى إنكار أو استبعاد دور عبدالرحمن فهمي في إدارة النشاط السري للأعمال الفدائية سوى أنه كون رأيه قبل إعلان وثائق ثورة 1919 السرية والتي نشرها وحققها الدكتور الراحل محمد أنيس، والتي كشفت وجود مراسلات سرية بين سعد زغلول وعبدالرحمن فهمي كان يتم خلالها نقل التكليفات والتوجيهات من سعد، في الوقت الذي يمد فيه عبدالرحمن سعداً وهو في منفاه بأخبار كل شيء.

إن الغريب في الأمر أن يؤكد «مؤنس» أن العلاقة بين سعد وعبدالرحمن لم تكن على ما يرام وهو ما يثير استغراب وحيرة أي باحث يفكر كيف يمكن لها أن تكون سيئة وتستمر المراسلات السرية والأعمال لثلاث سنوات على الأقل.

إننا يمكن أن نقبل رأي مؤنس لو كان يتحدث عن علاقة الرجلين بعد وزارة الشعب وعلاقة «فهمي» بالوفد فيما بعد، فالوضع كان يحتمل ذلك، لكن الثابت واليقيني أن عبدالرحمن فهمي كان الرجل التنفيذي على أرض الواقع، وأنه كان ذراع سعد داخل البلاد، وعميله السري للمواجهة المسلحة.

ولا يقتصر دور عبدالرحمن فهمي على قيادة الجهاز السري بمعنى مجرد نقل التكليفات أو التعليمات إلى الجنود السريين على الأرض بين مجتمعات الطلبة والعمال والشرطيين وغيرهم من الفئات التي أسهمت في الثورة، وإنما كان رئيس جهاز استخبارات ينقل كل همسة وحكاية وحدث لسعد زغلول وأعضاء الوفد وهم في منفاهم الأول في مالطة والثاني في سيشل.

إن للكاتب فتحي رضوان كتباً نادراً عنوانه «مشهورون منسيون» يتحدث فيه عن عبدالرحمن فهمي باعتباره أحد الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ رغم عظيم صنيعهم، وهو محق في ذلك إذ أخذنا في الاعتبار أن الرجل هو الذي نظم التنظيم الهرمي للجهاز السري، بحيث تعمل كل طبقة وإذا سقطت بالقبض عليها أو الكشف تظهر بشكل تلقائي الطبقة التالية، دون أن يسمح لأي من تلك الطبقات بالتداخل أو معرفة الطبقة الأخرى.

ويبدو الرجل شديد الذكاء وهو يدير عملية المقاومة لعدة أشهر دون أن يعرف أو يتشكك رجال الاستخبارات البريطانية فهو يضع نصوص المنشورات ويكلف الثوار بتوزيعها ويكلف البعض باغتيال جنود الاحتلال أو إرهاب الوزراء المصريين المتعاونين مع الإنجليز في الوقت ذاته الذي يرسل فيه جواسيسه وعيونه هنا وهناك للتعرف على كل شيء.

وحتى الحيلة التي وضعها للتراسل مع سعد زغلول في منفاه كانت في غاية الذكاء، حيث كان يكتب بماء البصل بين سطور المجلات والمطبوعات العربية المرسلة إلى سعد من خلال شاب مصري معروف بفساده الظاهر وبجهله السياسي اسمه محمد سعودي.

لقد كان سعودي هذا موظفاً بالخارجية معروفاً أنه زير نساء، وأنه غير مهتم بقضية مصر ونادراً ما يخوض فيها أو يتحدث عنها، ولم يكن ذلك سوى غطاء لاستخدامه كناقل رسائل بين سعد وعبدالرحمن فهمي، وهي رسائل لا يود سعد أن يطلع عليها الإنجليز.

وأسهمت تلك الرسائل في أن يعرف سعد كل شيء عما يدور في البلاد وكأنه موجود مع الناس.

لقد كان عبدالرحمن فهمي معنياً بحكم انتمائه للعسكرية المصرية بالمعلومات الأمنية عن الساسة والإنجليز وكبار موظفيهم في مصر، وكان يتتبع أخبار الساسة والسرايا والفئات المختلفة من المُجتمع.

 وكان ينقل حكايات النخبة وأحاديثهم ويقدم تقارير أشبه في الأعراف الأمنية بتقارير الرأي العام، حيث يقيس توجهات الناس والمجتمع ومواقف الإنجليز وسلطات الاحتلال ويتوقع تحركاتهم. كان الرجل أشبه بدينامو سري للثورة، لديه وحده خرائطها ولديه وحده توقيتاتها ولديه وحده بيانات الموارد البشرية المشاركة.  لقد كان رجلاً يعرف كل شيء، غير أنه يبدو في الوقت ذاته لا يعرف أي شيء.

لقد نُظمت عمليات اغتيال سياسي لكثير من الضباط الإنجليز ولم تتم بعيداً عن «فهمي» الذي كان يوكل مهام الاغتيال بعد درس للهدف وجمع للمعلومات عنه.

فضلاً عن ذلك، فإن فهمي الذي كان سكرتيراً للهيئة الوفدية في ذلك الوقت كان يدير عملية التنظيم المالي للثورة، فكان يجمع التبرعات ويقسمها وينفق منها على الأعمال والعمليات وفي بعض الأحيان على الفدائيين

أو أسرهم بعد إعدامهم أو القبض عليهم مثلما جرى مع الضابط مصطفى حمدي، وهو لكونه ضابط شرطة فإن المرجح أن يكون عبدالرحمن فهمي هو مَن قام بتجنيده.

وهذا الفدائي كان متخصصاً في صناعة القنابل وفي إحدى المرات كان بصحبة أحمد ماهر في الصحراء يجربان معا قنبلة فانفجرت فيه وسقط شهيداً، وما كان من ماهر إلا أن قام بدفن مصطفى حمدي وعاد ليبلغ عبدالرحمن فهمي، ولما كان حمدي يعول أمه الوحيدة وينفق عليها، فقد خصص عبدالرحمن فهمي مبلغاً من المال يقوم «ماهر» بتوصيله كل أول شهر إلى والدة مصطفى حمدي بعد أن أقنعها أن ابنها سافر إلى الخارج، وأنه يعمل هناك ويرسل لها جانباً من راتبه، وظل الأمر يسير بشكل طبيعي عدة سنوات حتى خان نجيب الهلباوي إحدى الخلايا التي يعمل معها لصالح الإنجليز وأخبرهم بقصة استشهاد مصطفى حمدي في الصحراء.

والواضح أن عبدالرحمن فهمي كان يدير العمل السري بشكل جيد ومنظم وأنه كان محل ثقة كبيرة لدى سعد زغلول وأنه رغم القبض عليه في يوليو سنة 1920، واتهامه بتكوين جمعيات سرية للانتقام من الإنجليز، فإن أحداً لم يستطع تقديم دليل واحد ضده وظل الإنجليز يحاولون إثبات أي شيء دون جدوى، وذلك لأنه نجح في تهريب كافة وثائق الجهاز السري من البيت إلى مكان مجهول، ورغم ذلك فقد حكموا عليه بالإعدام ثم تم تخفيف الحكم بعد ذلك إلى السجن المؤبد.

والغريب في الأمر أن خلايا عبدالرحمن فهمي العنقودية استطاعت أن تواصل أعمالها خلال فترة سجنه ونجحت في تنفيذ عدة عمليات لقتل الإنجليز وإرهاب بعض المصريين المتعاونين مع الاحتلال في تلك الفترة.

وخرج «فهمي» من السجن في عفو عام خلال حكومة الشعب برئاسة سعد زغلول، ويمكن القول إنه فقد سيطرته الكاملة على الجهاز السري لأنه فوجئ بعملية اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش البريطاني في السودان، والتي نفذتها خلية من الخلايا السرية ضمت عبدالفتاح عنايت، وشقيقه عبدالحميد، والمحامي شفيق منصور، ومحمود إسماعيل واعتبرها سعد زغلول عملاً منفلتاً أصاب صدر مصر في وقت كان الإنجليز والقصر يتحينون الفرصة للتخلص من وزارة الشعب.

وكان لاعترافات الخائن نجيب الهلباوي سبب في لف حبل المشنقة على قتلة السردار البريطاني، وفي توقف أعمال الجهاز السري للثورة، كما كانت سبباً في القبض على عبدالرحمن فهمي مرة أخرى ومحاولة توريطه في القضية.

وربما تكون حادثة السير لي ستاك هي السبب المباشر في حالة الجفاء التالية التي شهدتها علاقة عبدالرحمن فهمي بسعد باشا، وبالوفد المصري بعد خروجه من السجن، وهي للأمانة التاريخية تخرج عن نطاق مسئولية «فهمي» المباشرة.

وإذا كان ابن شقيق عبدالرحمن فهمي وهو أحمد ماهر قد شكل أحد أجنحة الوفد القوية واختير وزيراً، ثُم حصل على الباشاوية وفيما بعد انشق عن الوفد وصار خصماً لدوداً لمصطفى النحاس وتقلد رئاسة الوزراء، فإن عبدالرحمن فهمي لم يحصل على أي شيء، واكتفى باسترجاع ذكريات الفداء والتضحية وتذكر وجوه المخلصين من الفدائيين العظام الذين لم نعرف منهم سوى القليل، حيث كانت هناك أعمال بطولية عظيمة لم يعرف أحد حقيقة من قام بتنفيذها بسبب حذر وفطنة ودهاء القائد السري للثورة المسلحة.

لكن على أي حال، فقد عاش عبدالرحمن فهمي بعيداً إلى حد ما عن السياسية وآثر أن يقضي باقي عمره في تأسيس النقابات العمالية وتنظيمها في مصر، وأصدر جريدة للتحدث باسم العمال وظل حريصاً على عدم الحديث عن دوره وخدمته للثورة حتى وفاته في يوليو سنة 1946 تاركاً أربعة أبناء كان من بينهم مراد فهمي وزير الأشغال فيما بعد.

مات عبدالرحمن فهمي وخرج الناس يودعونه ولم يكن كثير منهم يعلمون دوره العظيم في إشعال أهم وأعظم ثورة في تاريخ مصر، وفيما بعد خرجت مراسلات الثورة السرية وبان الدور العظيم الذي لعبه.