عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أبطال الثورة الخالدون نماذج فداء لكل جيل

بوابة الوفد الإلكترونية

سعد زغلول توقع سيناريو المواجهة وأعد تصورًا للكفاح المسلح

فدائيون عظام صنعوا تاريخًا مشرفًا والمرأة المصرية شاركت بفاعلية

 

تمر ذكرى ثورة 1919العظيمة لتنفتح أمامنا أيام مجد غير مسبوقة نضجت فيها روح الوطنية المصرية ونمت وازدهرت لأقصى مدى.

لم تكن الثورة عملًا عشوائيًا عفويًا، وإنما قصة كفاح عظيمة خطتها عقول ونفوس أبية لتبقى طريقًا مضيئًا للكفاح والمقاومة.

البدايات كانت فى نوفمبر 1918 عندما ذهب سعد باشا وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى لمقابلة السير ونجت المعتمد البريطانى وطلبوا منه السفر إلى لندن لتقديم طلب مصر بالاستقلال، غير أنه رد بأنهم لا يمثلون الشعب المصري، ما أدى إلى مولد فكرة توكيلات المصريين لسعد وصحبه للحديث باسم مصر.

وتبدو الحكاية لافتة إذ تشير إلى أن تطور الموقف الشعبى وصل إلى ذروته فى مطلع مارس 1919 ما دفع الإنجليز إلى ارتكاب حماقة واضحة بالقبض على سعد زغلول فى 8 مارس 1919 ونفيه إلى مالطة.

إن أكثر من شهادة بريطانية تُدين ذلك الفعل، وتتهمه بالحماقة، منها مثلا شهادة توماس راسل باشا حكمدار القاهرة فى مذكراته، والذى فوجىء فى اليوم التالى بشلال الغضب الذى وصل إلى حد قطع خطوط السكك الحديد والاعتداء على عساكر الإنجليز فى كل مكان، واندلاع المظاهرات العاتية المزلزلة، وهو ما دفع القوات الإنجليزية إلى مجابهة ذلك بعنف ووحشية.

كان سعد باشا زغلول يعي جيدًا ما هو مقبل عليه، ويضع فى رأسه ترتيبًا تفصيليًّا لكل شىء بدءًا من ردود الأفعال المتوقعة، وتفاصيل التحركات السياسية، وكيفية استخدام العمل التنظيمى السرى للضغط على قوات الاحتلال.

هل كان سعد باشا يتوقع القبض عليه ؟ مَن يطالع مذكراته يعلم يقينًا أنه كان ينتظر ذلك بين الحين والآخر، وهو ما دفعه إلى الإعداد لترتيبات ما بعد ذلك. كان الرجل يرتبط بصداقة ضابط سابق عُرف بدهائه الشديد هو عبد الرحمن بك فهمى، والذى أوكل إليه مهمة تنظيم الجهاز السرى للثورة من خلايا عنقودية متتالية بحيث تنتقل الثورة من خلية إلى أخرى دون اتصال مسبق بين الخلايا .

وكانت الثورة المُسلحة هى الحل فى تصور رجل بواقعية وخبرة سعد زغلول، لذا فقد تنوعت مهام الجهاز السرى للثورة بين التحريض على التظاهر والاعتداء على الإنجليز ضباطًا وجنودًا وموظفين، وإرهاب الساسة المصريين المتعاونين مهم. وكان عبد الرحمن فهمى خير قائد سرى للثورة فهو عسكرى ولد سنة 1870 وعمل ضابطًا بالجيش قبل أن ينتقل للعمل الشرطى مأمورًا لأقسام شرطة بالصعيد قبل أن يتولى مديرية بنى سويف ثم الجيزة وهو ما أكسبه مهارات وخبرات نادرة .

فى الفترة الممتدة من لحظة القبض على سعد باشا وحتى الإفراج عنه ثم سفره إلى أوروبا حتى عودته عام 1922 كان العمل السرى هو أداة الضغط الرئيسية ضد السلطات الإنجليزية. كانت التعليمات تُكتب بالحبر السرى فى باريس ويتم نقلها إلى عبد الرحمن فهمى لتتحول إلى التنفيذ المباشر وسط هلع وذعر قوات الاحتلال وأذنابها. وفى تصور المؤرخ فتحى رضوان فإن عبد الرحمن فهمى كان أشبه بالمحرك الرئيسى فى ماكينة الثورة فكان يبعث جواسيسه وعيونه ويجمع الأخبار ويرسلها بشكل شبه يومى إلى سعد باشا ويطبع المنشورات ويؤلف الشعارات وينظم المظاهرات ويدير عمليات الجهاز السرى بدقة وحرص ومكر.

ومن يطالع رسائل عبد الرحمن فهمى إلى سعد زغلول والتى نشرها مصطفى أمين فى الكتاب الممنوع عن الثورة يتعجب كيف كان الرجل يجمع تلك المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الانجليز ورجالهم والساسة والمجتمع والثوار ويبعث بها بشكل سرى -دون أن تكتشف- الى باريس.

المثير أن الانجليز لم يتمكنوا من حيازة دليل واحد على تورط « فهمى » فى ادارة الجهاز السرى للثورة لكن شكوكهم دفعتهم إلى تلفيق قضية له ومحاكمته عسكريا مع 27 مصريا بتهمة تأسيس جمعية للانتقام السياسى وحكموا عليه بالاعدام ، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة. وقد خرج عبد الرحمن فهمى خلال وزارة الوفد عام 1922 ليؤسس اتحاد نقابات مصر، ثم قبض عليه مرة أخرى فى قضية مقتل السير لى ستالك سردار الجيش البريطانى فى السودان خلال زيارته لمصر، وخرج بعدها من السجن منتظرا حكم التاريخ بعد سنوات صعبة من التضحية والفداء لينخرط فى النشاط العمالى والعمل الخيرى .

والحقيقة أن رجال الجهاز السرى للثورة ضموا مختلف فئات المجتمع من طلبة وعمال وتُجار ونساء. بعضهم عاشوا ليرووا شهاداتهم فيما بعد والبعض الآخر رحلوا دون أن يتركوا لنا سوى انطباعات المُحيطين وإعجاب الباحثين .

 

حكايات كيرة

واحد من هؤلاء لفت نظر الروائى والسيناريست أحمد مراد فاختاره بطلا لرواية كتبها قبل عدة سنوات حملت عنوان «1919»، وسيتم إنتاجها فيلما خلال شهور يحمل اسم «كيرة والجن» وهو أحمد عبد الحى كيرة ، طالب الطب الداهية الذى كان بُعبعا للإنجليز. لم تمر ساعات قليلة ويعلم طلبة المدارس بنفى سعد وزميليه حتى خرجت المظاهرات العفوية الى شوارع القاهرة. فى البداية امتنع طلبة مدرسة «كلية» الحقوق بالجيزة عن دخول المحاضرات واعلنوا اضرابهم عن الدراسة رافعين شعار «لا يمكن دراسة الحقوق فى بلد لا يحترم القانون » .

فى اليوم التالى خرج طلبة الحقوق فى مظاهرة إلى طلبة الهندسة والزراعة بالجيزة ثم التقوا مع طلبة طب قصر العينى وسارت المظاهرة نحو المبتديان لتلتقى مع طلبة التجارة وهناك تصدت لهم قوات الشرطة واعتقلت نحو ثلاثمائة طالب. وفى يوم 10 مارس أعلن جميع طلاب مصر انضمامهم الى الاضراب وخرج طلبة المدارس الثانوية لينضموا إلى المتظاهرين ويملئوا جميع شوارع وميادين القاهرة هاتفين باستقلال مصر وحريتها ولم يلبث أن انضم العمال إلى المتظاهرين .

وفى الأقاليم والمحافظات انتشرت عدوى الثورة عبر طلبة الكليات والمدارس والذين أسسوا عدة تنظيمات سرية للكفاح المسلح ضد الاحتلال . كما ضم التنظيم السرى لثورة 1919الذى كان يديره عبد الرحمن فهمى عشرات الطلبة فى مختلف كليات مصر ، وقد نفذ ذلك التنظيم عمليات اغتيال ضد موظفين وجنود انجليز وبعض المتعاونين معهم من المصريين .

والملفت أن شخصية أحمد كيرة التى رسمها الروائى أحمد مُراد تختلف كثيراً عن شخصية كيرة الحقيقى من عدة وجوه ربما أحدها الوسامة والأناقة، فكيرة الحقيقى أسمر، وقصير ولديه أثر جرح غائر فى جبهته، وكيرة فى الرواية شاب وسيم رقيق، قادر على جذب النساء .

  كان كيرة ــ كما يذكره مؤرخو الثورة ــ يجيد التنكر والتخفى والتحدث بلغات مختلفة، يوما ما تجده نجارا، ويوما آخر شيخًا معممًا، وتارة جنديًا بريطانيًا ومرة اخرى فلاحًا بسيطًا ، وكان قادرا على تصنيع القنابل، خبيرا فى أنواع المُسدسات، وعلى دراية باستخدامها. وقد داهم الإنجليز مخابئ أعضاء التنظيمات السرية واحدًا تلو الآخر لكن كيرة أفلت بأعجوبة .

وفى عام 1924 اغتال أحد التنظيمات السرية سردار الجيش البريطانى فى السودان السير لى ستاك خلال زيارته للقاهرة، وسقط التنظيم فى يد الإنجليز بعد وشايات من أحد الخونة وهو نجيب الهلباوى، وأدلى شفيق منصور زعيم التنظيم باعترافات تفصيلية بالتنظيمات السرية وعرف الإنجليز اسم أحمد عبد الحى كيرة، وأخبره زملاءه بانكشاف أمره وضرورة هروبه .

ويحكى الكاتب صبرى أبو المجد فى كتاب له حول أبطال الجهاز السرى لثورة 1919 كيف جمع طلبة مصر أموالا لتهريب كيرة إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا، إلا أنه فوجئ بوجود إخبارية بوصوله، فاضطر إلى الهرب مرة أخرى إلى تُركيا. وقد ذكر مُصطفى أمين فى الكتاب الممنوع أن منشورا أصدرته المخابرات البريطانية وتم ارساله لكافة مكاتبها فى دول العالم قالت فيه «اقبضوا عليه حيا أو ميتا. اسمه أحمد عبد الحى كيرة ، كيميائى كان طالبا فى مدرسة الطب، خطير فى الاغتيالات السياسية، قمحى  اللون ، قصير القامة وذو شارب خفيف وعمره 28 عاما». ورغم عدم وجود أصل هذا المنشور بين الوثائق البريطانية خلال الاحتلال البريطانى لمصر والتى أفرج عنها مؤخرا، فإن معناه كان صحيحاً إذا قرأنا ما كتبه الأديب يحيى حقى والذى كان يعمل فى اسطنبول قُنصلا . لقد حكى «حقى» جانباً من حياة أحمد كيرة قبل أن يحكى مقابلاته له فى كتابه « ناس فى الظل » إذ يقول عنه :  

 « بعبع الانجليز، يبحثون عنه بعد أن فتلوا له حبل المشنقة، كنت لا ألقاه إلا صدفة وألح عليه أن نأكل معا فيعتذر قائلا : قريبا إن شاء الله. وظل هذا حالى معه أربع سنوات كلما أدعوه يعتذر بأدب. وقد رأيت فيه المثل الفذ للرجل الشريد. كانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة وغلبت صفرته التحتانية على لونه الاصفر ، يمشى على عجل ويحذر كأنه يحاول أن يفلت من جاسوس يتبعه، ويخلو كلامه من أى عاطفة، فلا تدرى إن كان متعبًا أم غير متعب. جيبه نظيف أم دافىء، معدته خاوية أم عامرة ؟».

والواقع أن كيرة حاول فى البداية أن يتحول إلى شخص طبيعى فافتتح مقهى، ثُم تعرّف على كثير من المصريين المقيمين فى تُركيا، حتى أن صبرى أبو المجد يؤكد أنه التقى الخديو المعزول عباس حلمى الثانى هُناك بعد أن علم أن بعض المصريين نقلوا له أن كيرة سيقتله. لكن على ما يبدو فإن عيون وجواسيس البوليس المصرى والإنجليزى على السواء دفعته دفعًا إلى التوارى والاختباء. ويبدو أيضا أن مخاوفه كانت فى محلها وهو ما يُسجله يحيى حقى قائلا: « حاولت أن أعرف أين يسكن فلم أنجح وقيل لى إنه يسكن فى ثلاث شقق كل منها فى حى بعيد عن الآخر ولا ينام فى فراش واحد ليلتين .إنه يعلم أن المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتى لو فر إلى أقصى الارض .إنها لا تنسى ثأرها البائت». وفيما بعد وجدوا جثة «كيرة» فى حفرة بجوار سور اسطنبول القديم مقتولا بطعنة خنجر، ولم يتحرك أحد فى السفارة المصرية للتحقيق فى مصرعه . ولا يعرف أحد حتى الآن مَن كان وراء اغتيال هذا البطل الأسطورى .

 

قنابل ضد الاحتلال

من الأبطال السريين أيضا طالب اسمه سيد باشا وكان يدرس بمدرسة المعلمين وانضم مع زملائه إلى جماعة ثورية عقب القبض على سعد زغلول وعقد صداقات مع عدد من عمال السكة الحديد ليستخدم ورش ومصانع السكة الحديد فى تصنيع قنابل بدائية بعد وضع مواد كيماوية تؤدى الى الانفجار .

ونجح تنظيم سيد باشا فى توريد القنابل والاسلحة لكثير من عمليات الجهاز السرى. واستمرت ضربات الثوار للانجليز والخونة تتصاعد حتى انكشف أمر سيد باشا واخبره أحد المخبرين التابعين للثورة أن مدير الامن العام وجه نداء إلى مخبريه للقبض على الطالب سيد محمد باشا بصفته المدبر الرئيسى لكثير من جرائم الاغتيال السياسى. وتتضمن عمليات سيد باشا قتل الكابتن صمويل كوهين، والضابط بردفول، والبكباشى كيت مساعد الحكمدار، والصول الانجليزى دنكل ومستر جوردان ومستر برت مفتش السكة الحديد، وعشرات غيرهم .

عندئذ قرر أعضاء التنظيم تهريبه إلى الخارج وسافر ايطاليا وسرعان ما استأنف نشاطه السياسى فى الدعاية للقضية المصرية، وسافر إلى باريس ليلتقى بالزعيم سعد زغلول ثم يعود لايطاليا ليكتب عدة مقالات فى الصحف الايطالية مطالبا

بالاستقلال ويلتقى بموسولينى، ثم يحصل الطالب المصرى على الدكتوراه مع مرتبة الشرف ويسترد جميع المصروفات الجامعية ويعود الى مصر ليستأنف العمل على خدمتها. ويتنقل الرجل بين عدة وظائف بوزارة التعليم ويصدر مجلة بعنوان « المشهور » ،  ويمتد به العمر ليشهد ثورة 23 يوليو ، ثم ليشهد حرب يونيو وحرب اكتوبر ويقف مساندا للرئيس السادات فى توجهه نحو السلام ، ويرحل عن عالمنا عام 1982 بعد اسابيع قليلة من عودة باقى أراضى سيناء الى مصر.

 

أقباط فدائيون

ومن الطلبة أيضا عريان سعد يوسف وهو طالب بكلية الطب ، وقد ترك لنا مذكراته التى حكى فيها تعرفه على جمعية شبابية للهو والعبث بين طلبة الكلية ابان ثورة 1919 تحمل اسم جمعية الأنس. وكان أفراد الجمعية يجتمعون ليلا ويخرجون فى رحلات رياضية للعبث والتنزه وهو ما كان محل استنكار من جميع طلبة الكلية والشباب. وفى يوم ما وقف عريان مع شباب جمعية الأنس خطيبا داعيا الى ضرورة العمل السرى لقتل ومقاومة الانجليز وعملائهم، ولم يسمع سوى السخرية ولم يلق سوى الرفض من طلبة الجمعية. وبعد أيام فوجىء بأحد أفراد الجمعية يسأله إن كان جادا فيما قال ويعرض عليه الانضمام الى جماعة اليد السوداء الناشطة ضد الاحتلال، ولم تكن جمعية الأنس سوى واجهة لهذه الجماعة الخطيرة .

  ويحكى عريان أن الجماعات الوطنية حذرت المصريين من قبول الوزارة خلال زيارة لجنة ملنر لتقصى وضع مصر، لكن يوسف باشا وهبة خالف الاجماع الوطنى وقبل رئاسة الوزراء رغم ارسال البابا كيرلس الخامس وفدا كنسيا يرجوه الا يقبل الوزارة فى ذلك الوقت العصيب.

 وشاعت مقولات بين الوطنيين بضرورة اغتيال يوسف وهبة حتى أن بعض خطباء المساجد استخدموا الآية الكريمة « اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم » للتشجيع على ذلك الفعل. فى ذلك الوقت خشى عريان يوسف أن يقتل أحد المسلمين يوسف وهبة القبطى فتتشوه الحركة الوطنية. وتقدم بطلب لجماعة اليد السوداء لاغتيال رئيس الوزراء وتمت الموافقة وأخذ الطالب قنبلتين وراقب رئيس الوزراء حتى مر أمامه فألقى على سيارته القنبلتين ، لكنه رفض الهروب خوفا من أن يشاع ان المسلمين قتلوا يوسف وهبة القبطى لأسباب دينية. وشاء الله أن ينجو رئيس الوزراء وقبض على عريان وحقق معه ورفض الابلاغ عن أحد من زملائه وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ثم أفرج عنه فى وزارة سعد زغلول بعد أربع سنوات مع جميع السجناء السياسيين. وعاش الفدائى القبطى بعد ذلك خمسين عاما ليصبح أول مدير لمكتب المقاطعة العربية لاسرائيل فى دمشق عام 1957 ثم يتجه للعمل الصناعى ويصبح واحدا من خبرائه حتى وفاته عام 1974.

 

الشهيد المنسى

ولا شك أن قتلة السردار البريطانى كلهم كانوا من أبطال الثورة رغم أن ما فعلوه أضر بمصر كثيرا، لكننا نجد سعد زغلول يقف كثيرا عند واحد منهم ويكتب عنه فى مذكراته الشخصية حزينا لأن أحدا لم يلتفت له وهو نجار فقير لم تهتم به الصحف ولم يتدافع حوله المحامون للترافع. يقول سعد زغلول فى مذكراته بتاريخ 25 مايو 1925« محمد فهمى على، واحد من المتهمين فى قضية الاغتيالات السياسية، أظنه نجارا وقد حكم عليه بالاعدام، ولم يهتم الجمهور بشأنه ولا استشعر بشئ من الاسف لحاله، والتهمة لم تكن سرقة مال ولا انتقاما شخصيا، بل لغرض سياسى محمود هو انقاذ الوطن من ايدى غاصبيه.»

 عندما أدلى نجيب الهلباوى بمعلومات عن قتلة السردار اعترف شفيق منصور المحامى تحت تأثير التعذيب على جميع أفراد خليته ومنهم محمد على فهمى الذى وجهت إليه 15 تهمة من بينها قتل اللورد براون فى فبراير 1922 ثم البكباشى كييف من رجال البوليس البريطانيين فى مايو من نفس العام ثم المستر روبسون من كبار موظفى الانجليز فى ديسمبر من ذلك العام .

وفى 23 اغسطس عام 1925 نفذ حكم الاعدام فى النجار الفقير محمد فهمى على الذى وهب حياته لاستقلال مصر ووقف صامدا صلبا، وتقدم الى المشنقة بخطى ثابتة وفى يقينه انه فعل افضل ما كان يتمنى فعله.

 

كفاح المرأة

ولم تغب المرأة عن العمل السرى فى ثورة 1919 فقصة دولت فهمى تؤكد ذلك. وأصل القصة أن الجهاز السرى أراد ارهاب كل من يقبل الوزارة فى ظل الاحتلال البريطانى ودفعه الى رفض ذلك، وصدر تكليف بارهاب وزير يدعى محمد شفيق باشا قبل ثلاث وزارات فى ظل الاحتلال ونفى زعماء الوفد. وتطوع طالب يدعى عبد القادر شحاتة لتنفيذ المهمة، وبالفعل ألقى على الوزير قنبلة لارهابه ونجا الوزير وقبض على الطالب ذي الواحد والعشرين عاما واعترف، وحاول المحققون معرفة مكان وجوده قبل الحادث بيوم وضغطوا بقوة وخشى قادة الجهاز السرى ان يعترف تحت وطأة التعذيب لأنه كان يبيت فى ذلك اليوم عند احمد ماهر فى بيته ولو علم البوليس ذلك لانهار الجهاز السرى تماما .

وتلقى الطالب الفدائى رسالة من الجهاز السرى تدعوه للقول إنه كان يبيت فى اليوم المذكور عند ناظرة مدرسة الهلال السيدة دولت فهمى. وفوجىء عبد القادر شحاتة بسيدة جميلة تزوره وتقبله وتشهد انه كان لديها قبل ارتكاب الجريمة وانه يمتنع عن الكلام خوفا على سمعتها. وتختفى السيدة الجميلة ويعيش الفدائى الشاب فى السجن على أمل اللقاء بتلك السيدة الفدائية التى ضحت بسمعتها من اجل الثورة، ويبقى الى ان يشاء الله ثم يخرج خلال وزارة سعد باشا زغلول عام 1924 ويبحث عن جميلة الثورة الفدائية. ويسأل كثيرون عنها ولا يجيبه أحد حتى يخبره اعضاء الجهاز السرى أن اهلها علموا بشهادتها فى القضية واصطحبوها معهم الى المنيا وهناك ذبحوها ليستردوا شرفهم الضائع ويغسلوا عار العائلة. ولم يعلم اشقاء دولت فهمى انهم قتلوا واحدة من أعظم فدائيات ثورة 1919.

ومنهن أيضا شفيقة محمد التى ترد قصتها باختصار فى مذكرات هدى هانم شعرواى حيث تشير الى أن مظاهرة كبرى للنساء المصريات خرجت يوم 10 ابريل عام 1919 وذهبت الى مقر المعتمد البريطانى لتهتف مطالبة بالاستقلال التام. وقتها فوجىء المعتمد البريطانى الذى لم يكن يتصور النساء المصريات سوى اشباح خلف البراقع ولا علاقة لهم بشىء سوى بيوتهم واطفالهم بذلك الحشد اللطيف من النساء يشاركن بقوة وصدق فى التنديد بالاحتلال. لم يصدق الرجل نفسه ووقف غاضبا ساخطا خائفا من اتساع الثورة الى تاء التأنيث المصرية.

كانت أعلام مصر ترفرف بين أيدٍ رقيقة لمجموعات من النساء المتشحات بالسواد وهن يهتفن بالاستقلال التام. خرج المعتمد البريطانى من دهشته منذرا ومهددا السيدات الواقفات امام مقر عمله بالاعتقال والسجن، ولكنهن لم ييأسن وظللن يرفضن العودة الى منازلهن دون الافراج عن سعد وزملائه وباقى المعتقلين. ولم تمض لحظات حتى اندلع الرصاص على مظاهرة النسوة فسقطت شهيدة فى سبيل حرية مصر عدة سيدات منهن شفيقة محمد، عائشة عمر، نجية اسماعيل، فهيمة رياض .

وكانت شفيقة محمد  28 سنة هى  الشهيدة الاولى للحرية فى مصر،  وأحدث نبأ استشهادها موجة من الاستياء والغضب فى العالم المتحضر ، ولم تذكر لنا مذكرات هدى هانم شعراوى اى تفاصيل اخرى عن تلك السيدة العظيمة، وعن عائلتها، وعن عملها، وعن تعليمها، وعن أفكارها. لم نعلم عن شفيقة محمد سوى أنها سيدة مصرية أحبت مصر وماتت فى سبيلها، فطوبى للشهداء وسلامٌ على الثوار .