عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصطفى النحاس فى لقاء نادر: دخول الدين فى السياسة يفسدهما معاً

 مصطفى النحاس باشا
مصطفى النحاس باشا خلال حواره مع الزميل مصطفى عبيد

رددت سهام التشويه بالحسنى والشفافية ورفضت فكر العنف

مصر استفادت من توقيع معاهدة 1936 وربحت من إلغائها

 

أي هبة نسيم لفحتني في هذا الصيف القائظ؟ وأي أقدار مبهجة دفعتني أن ألتقيه؟ ذلك الوجه البشوش ذو الملامح الطيبة، والقسمات الصادقة. أحقا هو؟

 كم جمعتني المصادفات وظروف العمل بساسة ومسئولين، فشممت الخداع والمداورات والكلمات الدبلوماسية. كم لقيت وعرفت وتحاورت مع أناس يكذبون لأنهم ظنوا أن السياسة كذب، ويلفون ويدورون مرارا اعتقادا بأن الخط المستقيم هو مقصلة الشخصيات العامة. هل هناك أجمل من رجل لا يقول إلا ما يؤمن به ولا يحدث إلا ما يتيقن بصدقه، ولا يخدع أو يغش أو يبرر فعلا؟

لم أقف طويلا أمام باب بيته الذي كان في حي جاردن سيتي قبل أن يهدمه السكان الجدد ليستبدلوه بعمارة حديثة. كُنت أعرف أنه بيت مستأجر، قضى الرجل فيه ثلاثة عشر عاما تحت الإقامة الجبرية إلا من انتقالات قليلة إلى الإسكندرية، بعد تبدل الأزمنة وتغير الناس وتنكر رجال السلطة. دلفت سريعا لتقابلني السيدة الودودة زينب الوكيل بملامحها المصرية الأصيلة وتقودني نحو صالون الضيوف مرحبة. سألتني عما أشربه قبل أن ألُقي بجسدي على أريكة جميلة مزخرفة بنباتات وزهور رائعة. فكرت للحظات إن كانت تعلم أنني كتبت سيرتها بعد أربعة عقود من رحيلها بلا دافع حقيقي سوى رد الاعتبار. بالطبع لم أفعل لأشكر وإنما لإيمان عميق بأن الله يقيض مَن يرد اعتبار مظاليم التاريخ بعد حين من الدهر.

شكرت حفاوتها وترحابها وتمعنت عيني في ستائر قديمة تخللتها براويز صور للباشا بابتسامته الطيبة. لحظات لم تطل لأجده أمامي مرحبا، لأندفع بلا وعي أقبل وجنتيه في محبة فطرية زرعها الله بقلبي مُذ غاص عقلي وقلبي في تاريخ بلادي أنا الآن أمامه. مصطفى النحاس باشا، بشحمه ولحمه وعظامه وقلبه. رجل الوطنية الحقة، باني الدولة الحديثة، وصانع البهجة في قلوب الناس أزمانا وأزمانا. أعرف أنه أسس مؤسسات مصر الحديثة بدءا من جهاز المحاسبات، مجلس الدولة، جامعة الدول العربية، هيئة البحث العلمي، البنك المركزي، ونقابات العمال. وأعلم أنه الزارع الأول لمجانية التعليم، ولتمصير البلاد، والمدافع الشرس عن الدستور وحقوق الشعب.

هل التف حولنا رجال كثر بملابس أنيقة وطرابيش حمراء؟ هل سمعت كثيرين يحاولون التدخل في حديثنا؟ هل يعرف كم قطعت من مسافات وسنوات لأراه؟ هل نجحت أخيرا أن أختطفه من بين الحضور الجم لأدردش معه بحب؟ هل كان صوته متعبا وهو يجيبني أسئلتي؟ هل كان سعيدا مثلي باللقاء؟

أهلاً يا بُني. قالها بابتسامة صادقة، فهززت رأسي تجاوبا قبل أن أسأله:

< كيف="" حالك="" يا="">

 فأجاب: بكل خير. الحمد لله أن أنجانا مما ابتلى به غيرنا.

< قلت="" له:="" دولة="" الباشا:="" من="" الألفية="" الثالثة="" جئت="" إليك="" متوقا="" للرأي="" طالبا="" للنصيحة.="" ترى="" كيف="" تتقدم="">

أجاب بعد أن رسمتني عيناه: بالإخلاص الحقيقي والديمقراطية، واحترام الدستور وسيادة القانون، والسعي الحثيث لبناء المستقبل بوعي وتكاتف الناس وتوحدهم من أجل أجيال قادمة.

 انظروا دوما نحو المستقبل واعلموا أن كل ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأن الزبد يذهب جفاء. واجهوا التطرف بروح التسامح بينكم، والإرهاب بالتلاحم، وتحديات الاقتصاد بالانفتاح على المعرفة وحرية البحث العلمي. قاوموا الفقر بالعدالة الاجتماعية واعلموا أن مصر هي أرض خير وشعبها في دأب واجتهاد إلى يوم القيامة.

سألته مُنكرا الفارق الزمني: هل تتابع موجات الإرهاب الديني التي تواجه البلاد كل يوم؟ كيف يمكن لمصر أن تتقدم وهناك أياد تهدم، وعقول تُخرب، وتيارات تنكر حب الوطن؟

أجاب في رصانة: لم أكن أتصور أن يتسع الإرهاب الديني في مصر بكل هذا الشكل. أتذكر أنني وقفت بقوة ضد إقحام الدين في السياسة، وفي سنة 1937 رفضت تنصيب الملك فاروق في احتفال ديني، لأن في ذلك استغلالا للدين، ومن بعد رفضت دخول حسن البنا للسياسة وهو واعظ ديني. وسبق أن قلت لأحمد حسين عندما استخدم شعارات دينية أن وضع اسم الله في برنامج سياسي دجل لا يقبله الدين. وأنا أرى بكل صدق أن دخول الدين في السياسة يفسد الدين ويفسد السياسة.

< قلت="" له:="" وهل="" تنتصر="" مصر="" على="">

أجاب بيقين:  نعم. ستنتصر على الإرهاب مثلما انتصرت من قبل على مشكلات عظيمة وستتجاوزه كما تجاوزت تحديات خطيرة. المهم هو التجرد من أجل الوطن، والتوحد قادة وشعبا وتيارات سياسية ورجال علم وثقافة.

< قلت="" له:="" دولة="" الباشا="" هل="" أنت="" راض="" عما="" قدمت="">

أجاب: الحمد لله. كل الرضا. لقد تخرجت سنة 1900 وكنت الأول على دفعتي بكلية الحقوق وانخرطت في العمل السياسي والتقيت سعد باشا وكافحت معه، ونفيت إلى مالطة وفصلت من عملي ثم نفيت إلى سيشل، وأفرغت كل حياتي من أجل القضية الوطنية ولم أتزوج إلا في الخامسة والخمسين، ولم أترك مليما، أو عقارا، وآليت على نفسي أن أترك الأمر لله وللتاريخ.  

< سألته:="" وكيف="" ترى="" حكم="" التاريخ="" عليك="" وقد="" عشت="" حتى="" سمعت="" مَن="" طالبوا="" بمحاكمتك="" ومنعوك="" عن="" الناس="" ومنعوا="" الناس="">

ابتسم في تواضع ونظر إلى الأرض ثُم هز رأسه وقال:

يا بُني لقد توليت رئاسة الحكومة خمس مرات، ولم تزد تلك المرات عن سبع سنين، لكنكم تلمسون ما تركه الوفد من إنجازات في تلك الفترة القصيرة. لقد تركنا مؤسسات وطنية لا حصر لها، وقطعنا أشواطا في تحقيق الاستقلال، وقاومنا الظلم والفساد ومع كل ذلك فصحائفنا بيضاء لم نغش، ولم نكذب، ولم نخدع، ولم نقتن ما ليس لنا، وكنا مع خصومنا شرفاء، وحافظنا على الدستور وسيادة القانون.

ثُم ما يضير إن تعرضت للتشويه أو الاغتيال من خصومك. تبقى دائما الحقيقة أقوى من افتراءات الكذبة. لقد كان الإمام أحمد بن حنبل يقول للسلطة : بيني وبينكم الجنائز. والحمد لله خرجت الناس في وداعي رغم منعها وتهديدها بمئات الآلاف.

< قُلت="" له:="" إن="" البعض="" يعيب="" عليك="" توقيعك="" معاهدة="" الصداقة="" البريطانية="" سنة="" 1936،="" والغريب="" في="" الأمر="" أنهم="" لا="" يحمدون="" لك="" إلغاء="" المعاهدة="" سنة="" 1951.="" كيف="" ترى="">

أجاب بعد تفكير: لقد كنت واضحا في وصفي للمعاهدة: لقد قلت إنني وقعتها من أجل مصر وألغيتها من أجل مصر. والحقيقة أن توقيع الاتفاق سنة 1936 كان مفيدا لمصر من عدة أوجه، حيث اعترف باستقلال البلاد، وسمح للطبقات الوسطى والفقيرة بدخول الكلية الحربية وألغى الامتيازات الأجنبية، ومثل خطوة مهمة في طريق التحرر والاستقلال الكامل. ولولا المعاهدة ما كان هناك تنظيم باسم الضباط الأحرار، لأن هؤلاء الضباط استفادوا من المعاهدة ودخلوا بمقتضاها الكلية الحربية.

وهنا فإنني كزعيم وسياسي ومسئول كنت خادما للناس أمضي وراء مصالح البلاد التي تتغير من زمن لآخر، لذا كان إلغاء المعاهدة في سنة 1951 ضرورة،

وهو ما مهد للغضب العارم وحرب الفدائيين وجلاء الاحتلال فيما بعد.

< قلت="" له:="" كيف="" واجهت="" اتهامات="" خصومك="" بعد="" حادث="" 4="" فبراير="" عندما="" تم="" تنصيبك="" رئيسا="" للحكومة="" بضغط="" من="" الجيش="">

أجاب: لقد كنت واضحا وقتها وأصررت ألا أقبل الطلب البريطاني الذي كان يعرف أن مجيء الوفد إلى الحكم في سنة 1942 يساهم في استقرار أوضاع البلاد في ظل الحرب، لكن الملك فاروق ألح عليّ واجتمع الساسة وكرروا الطلب مصرين أن قبولي الوزارة يحمي عرش مصر. ولقد سجلت ذلك في خطاب الحكومة عندما ذكرت للملك أنه «ألح عليَ المرة تلو المرة والكرة تلو الكرة».

ثُم إننا لم نكن طلاب سلطة بدليل أننا اصطدمنا مع الملك مرارا وتكرارا، وربما قرأت أنت أنني في سنة 1937 أقررت  ألا يتم تعيين موظفى القصر والديوان بأوامر يصدرها الملك، وإنشاء وزارة للقصر حتى يكون للأمة الاشراف على كبار رجال البلاط، وألا يحال كبار الموظفين إلى المعاش بمراسيم ملكية، وأن يقتصر حق الملك فى تعيين الموظفين بالمراسيم على التوقيع فقط.

وربما تعرف أيضا أن الملك فاروق اعترض على اختياري للدكتور طه حسين وزيرا للتعليم فى حكومة الوفد الأخيرة بدعوى أنه يسارى التوجه، لكنني أصررت على الرجل، واعتبرت الأمر مصيريا وفي النهاية رضخ الملك لاختيارنا. ولو كنت ممالئاً للملك للاطفته وأرضيته ورشحت شخصا آخرا مكان طه حسين.

< قلت="" له="" وأنا="" أعرف="" الحقيقة:="" وكيف="" تلقيت="" اتهامات="" الفساد="" من="" أناس="" كانوا="" يوما="" أصدقاء="" ورفاق="" درب.="" لقد="" قال="" مكرم="" عبيد="" في="" مجمل="" اتهاماته="" لكم="" في="" الكتاب="" الأسود="" المقدم="" إلى="" الملك="" فاروق:="" لقد="" وصل="" إلى="" علمي="" من="" أوثق="" المصادر="" أن="" برقية="" أرسلت="" بالشفرة="" من="" وزارة="" الخارجية="" لسفيرنا="" في="" لندن="" لشراء="" 6="" قطع="" من="" الفراء="" قيمة="" كل="" واحدة="" 500="" جنيه="" ومجموعها="" ثلاثة="" آلاف="" جنيه="" لحرم="" النحاس="" باشا،="" ونحن="" نسأله:="" من="" أين="" لك="" بهذا="" ايها="" الرجل="">

لمحت غضبا على وجه حرم النحاس، لكن ذلك لم يمنعه من الرد قائلا:

لقد رددت على ذلك بشكل تفصيلي بكل صراحة وكل شفافية ودون إنكار. لقد كنا في لندن مع نشأت باشا سفير مصر هناك سنة 1936 وكان معنا ونحن نشترى فراء لنا ولحرم مكرم باشا ولما حضر سألناه إن كان يوجد فى لندن فرو بسعر رخيص، وفي أول أكتوبر تلقيت منه برقية قال فيها إنه عرضت عليه فراء ثعالب بيضاء من نوعين نوع ثمن القطعة أربعة عشر جنيها وأربعين قرشا، والآخر ثمن القطعة منه ستة عشر جنيها وأربعين قرشا، وأبرقنا لنشأت باشا نشكره على سؤاله عن صحتنا وطلبنا منه شراء ست قطع فراء لا تصل مجموع قيمتها مائة جنيه.

ولقد أحضرت قطع الفراء معي في البرلمان وعرضتها على السادة الأعضاء سائلا إياهم إن كانوا يرون أن سعر الفراء كما هو مذكور في الاتهام أم لا؟ ورد يومها فكري أباظة زعيم المعارضة بأنها نفس الفراء التي تلبسها كافة النساء وأنها على أكثر تقدير تبلغ خمسين جنيها للواحدة.

< سـألته:="" هناك="" محبون="" يلومون="" عليك="" سكونك="" وتسليمك="" لإلغاء="" الأحزاب="" في="" 1953="" واعتزالك="" العمل="" السياسي="" بعد="" قيام="" حركة="" 23="">

أجاب: من حقهم أن يروا ما يرون، لكنني أقرر أنني خدمت بلادي كما اجتهدت ورفضت أن تنقسم الأمة في ظل الاحتلال والمخاطر الخارجية. ففي يوم ما جاءني شاب وفدي متحمس اسمه إبراهيم طلعت، ليخبرني أنه أعد خطة لاغتيال جمال عبد الناصر لأنه ألغى الأحزاب وحظر الوفد ووضع أسس الطغيان، فاحتضنته ومنعته بالقوة مما ينتوي.

وأتذكر أن طه حسين زارني في 1962 وقال لي  إنه يحمل رسالة من الرئيس  جمال عبد الناصر إليّ مفادها أنه لم  يتعرض لي، ولم يسئ إلى مكانتي ولم يحاكمني، لكنه يراني معرضا عنه ولا أؤيده، وقلت له إنه لم يحاكمني لكن ليته فعل ولم يتعرض لزوجتي التي تحمل اسمي وقدمها لمحاكمة بتهم كاذبة، وقلت له إن عبد الناصر لم يتعفف عن إلصاق التهم بسيدة مهيضة الجناح ويحاكمها ويحكم عليها دون دليل أو برهان إلا الشائعات وأشياء اقتبسوها من الخصوم والأعداء ونقلوها بلا تصرف ولا عقل ولا مراعاة لكرامة أو أخلاق. ثُم أخبرته أنني ودعت السياسة وطلقتها طلاقا بائنا حتى ألاقي ربي على الستر وكلمة التوحيد.

شكرته برضا وعانقته قبل أن يسألني في حنو عن اسمي، فقلت: مصطفى. فابتسم قائلا: عاشت الأسماء. فكررت: عاشت الأسماء، وعاش أصحابها بقيمهم وسيرهم وأعمالهم الخالدة.