فى صيام العذراء.. مجذوب السيدة مريم يستضيف الزوّار بـ "مرقده"
بمجرد أن يدخل المصلون إلى كنيسة العذراء بقرية بهجورة شمال غرب قنا، المزدحمة هذه الأيام بمناسبة نهضات صيام العذراء، فإنهم يبادرون بزيارة «الغالى» الذى يرقد فى غرفة مجاورة للكنيسة وهى ذات الغرفة التى يقطن فيها قبل رحيله.
اجتمع الكل على حب السيدة مريم عليها السلام، غير أن «عباس الغالى» كان مجذوبًا بها وقصته معها من أشهر القصص وأكثرها شيوعًا فى محافظات الصعيد، خاصة أن التفاصيل تتعلق بذلك الرجل النحيل الطيب الذى يتذكره جيدًا عجائز قريته، وهو يجلس منزويًا فى ركن الكنيسة وإلى جواره مصباح الكيروسين الذى يضىء له طريق عودته إلى منزله ليلاً وبلغ به عشقه للسيدة العذراء أن أصبحت حياته مريمية.
ولد عباس جرجس صديق فى العام 1903، واشتهر بلقب «الغالى» الذى أطلقه عليه أهل قريته لدوره الخيرى ببلدته مع الأيتام والفقراء، وبدأت قصة عشقه عندما كان فى الخامسة عشرة من عمره عندما صلى ليظل متبتلاً دون زواج، وأن يكرس حياته للصلاة وخدمة الفقراء ليبدأ جهاده لتهذيب الذات منذ حداثته، رغم أنه كان يعمل ليعول أمه وشقيقه المريض.
تجرد «عاشق العذراء» بكل ما يربطه بالدنيا ليعيش راهباً وسط العالم، حيث تجرد من الممتلكات والأقارب، وعاش مع الفقراء واليتامى ليكون أباً لهم، فى عام 1935 دعاه أبناء بلدته إلى الانضمام لجمعية خلاص النفوس الخيرية وعهد إليه بأمانة الصندوق وكان من أهم أنشطة الجمعية مكتبة للبيع والاستعارة ومساعدة الفقراء ومحاربة الخمور والمخدرات وندوات دينية ومسرحيات دينية تثقيفية هادفة، واستمر الغالى فى عمله الخيرى بقريته، وإن كان لم ينس والدته التى أصر على تعليمها القراءة والكتابة بعد أن أدركها الشيب، فقد كان محبًا للعلم رغم أنه لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية.
كان اليتم الذى تعرض له عاشق العذراء فى طفولته بعد أن رحل والده سببًا فى أن يستشعر قسوة الزمن على اليتامى، وكان مشروعه الأول رعايتهم وتربيتهم. ففى أربعينيات القرن
عاش الغالى مجذوبًا بحب السيدة مريم، وكان يراها أمًّا وراعية له، وكانت حالته فى ذلك العشق متفردة، ففى صلاته للمريض يخاطبها «اعملى معروف ادخلى أجزخانة السماء وهاتى الدواء»، وعندما يستقبل الضيوف يقدم لهم الشاى والهدايا «المريمية».
رحل عاشق العذراء بعمر الـ94 قضاها فخوراً بفقره وبجلبابه الأسود الذى يظهر جسده النحيل وبرعايته للفقراء واليتامى، وما زالت أريكته الخشبية العتيقة فى مكانها بمدخل كنيسة العذراء ببهجورة يتذكر كل من يراها أحاديث الغالى الدافئة عن الملكة، وربما يتطلع كثير ممن لم يعاصروه إلى حفاوة استقباله ونصيحته لكل ضيوفه ألا يصافحوه إلا بعد إلقاء التحية على «أم النور».