رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: حظائر للتدمير.. وأغنام للذبح!

بوابة الوفد الإلكترونية

أسلوب معاملة المسيحيين يتوقف على شخصية الحاكم أو الوالي

العهد المنسوب إلى عمر بن الخطاب يتنافى مع صفاته العادلة

الخليفة لم يمد يده إلى أملاك الكنائس وحافظ عليها حتى آخر حياته

البطرك النسطورى عقد اتفاقًا مع العرب لترميم أماكن العبادة القديمة

 

منذ سنوات طويلة وأنا أقرأ فى كتب التاريخ عن أسلوب العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى المجتمع الإسلامى، وكان من الصعب الوصل إلى فكرة واضحة فى شأن هذا الأسلوب، لأن ذلك كان موقوفاً على شخصية الحاكم أو الوالى أو السلطان أو الملك أو الخليفة أو الرئيس إزاء غير المسلمين.

وتحكى لنا كتب التاريخ أن العادة جرت أيام الخلفاء على فرض قيود معينة يلتزمها غير المسلمين فى حياتهم العامة والخاصة، وأن هذه القيود كانت ثمنًا يدفعونه لقاء تمتعهم بالعيش فى بلاد الإسلام، ولم يكن يتمتع بهذا الامتياز سوى اتباع الملل المعترف بها، وهى المسيحية واليهودية، والمعتقد لدى المسلمين أنه ورد فى القرآن ما يؤيد هذه القيود فى قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقد اشتمل العهد المعروف بعهد عمر بن الخطاب على تلك القيود، ولهذا العهد حسبما يقال صورة واردة على هيئة كتاب بعث به إليه ما يقال عنهم «النصارى» جاء فيها: إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا، على أن نؤدى الجزية عن يد ونحن صاغرون، وعلى ألا نمنع أحدًا من المسلمين أن ينزل كنائسنا فى الليل والنهار، وأن نضيفهم فيها ثلاثاً، ونطعمهم الطعام، ونوسع لهم أبوابها، ولا نضرب فيها بناقوس إلا ضرباً خفيفاً، ولا نرفع فيها أصواتًا بالقراءة، ولا نأوى فيها، ولا فى شىء من منازلنا جاسوسًا لعددكم، ولا نحدث كنيسة ولا ديرًا ولا صومعة ولا قلاية، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نقصد الاجتماع فيما كان منها فى خطط المسلمين وبين ظهرانيهم، ولا نظهر شركاً ولا ندعو إليه، ولا نظهر صليبًا على كنائسنا ولا فى شىء من طرق المسلمين وأسواقهم، ولا نتعلم القرآن ولا نعلمه لأولادنا، ولا نمنع أحدًا من ذوى قربانا من الدخول فى الإسلام إذا أراد ذلك، ولا نتشبه بالمسلمين فى لباسهم، ولا فى هيئتهم ولا فى سلوكهم، ولا نكتنى بكناهم، وعلينا أن نعظهم ونوقرهم، ونقوم لهم فى مجالسنا، ونرشدهم فى سبلهم وطرقاتهم، ولا نطلع فى منازلهم، ولا نتخذ سلاحًا ولا سيفاً، ولا نحمله فى حضر ولا سفر فى أرض المسلمين، ولا نبيع خمراً ولا نظهرها، ولا نظهر ناراً مع موتانا فى طريق المسلمين، ولا نرفع أصواتنا فى جنائزهم، ولا نجاور المسلمين بهم، ولا نضرب أحدًا من المسلمين، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهامهم، شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا، فإن خالفناه فلا ذمة لنا ولا عهد، وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة!!

الغرابة!

وأى إنسان عاقل يلاحظ من قراءة هذا العهد نقاطاً بالغة الغرابة، أولاها أنه لم تجر العادة أن يشترط المغلوبون الشروط التى يرتضونها ليوادعهم الغالب، ثانيتها: أنه يشترط فى أى عهد أو التزام أن يكون صادراً عن إرادة حرة وما من شك أن الإكراه والخوف يعدم الإرادة، فإن صح هذا العهد فإنه صدر معدومًا لأنه لم يصدر عن إرادة حرة، ثالثتها أنه من الغريب أن يحرم المسيحيون على أنفسهم تناول القرآن بأية صورة من الصور هم وأولادهم.

ومع ذلك يقتبسون منه فى خطابهم للخليفة فى قولهم: أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، رابعاً أن فقهاء المسلمين أقروا بأنهم لم يجدوا قط عهدًا مع أى مدينة من مدن الشام يشبه عهد عمر بحال من الأحوال.

صحيح أنه يساورنى الشك فى نسبة العهد إلى عمر بدليل أنه كان بين المسلمين والمسيحيين صلات أقوى من تلك الصلات التى كانت بينهما فى مستهل أيام الفتح، ولأنه من المستحيل أن عمر أراد بهذا العهد وضع تشريع للمستقبل إذ إن قراءتى لتاريخ هذا الرجل تدل على أن ذلك لم يكن من أسلوب عمر!!

ودليلى أن ما يقال إن عهد عمر اشترط على المسيحيين ألا يستحدثوا من الكنائس شيئاً، وألا يجددوا ما خرب منها وما تهدم، أو يعيدوا بناء البِيع القائمة فى نواحٍ من المدن الآهلة بالمسلمين، وأن الحكومة خطت زمن الرشيد أوسع من هذا حين ادعى أحد الفقهاء أن الشروط مضت فى فتح المدن على ألا تهدم بِيع المسيحيين ولا كنائسهم داخل المدينة أو خارجها وألا يحدثوا بناء بيعة أو كنيسة، وأيد رأيه بالفكرة القائلة أن كل ما أحدث من بناء بيعة أو كنيسة فإنه يهدم، وكان قد نظر فى ذلك غير واحد من الخلفاء الماضين، وهموا بهدم البيع والكنائس التى فى المدن والأمصار، فأخرج الكتب التى جرى الصلح فيها بين المسلمين وبينهم، والصلح نافذ على ما أنفذه عمر بن الخطاب حسبما يقول أبويوسف فى كتابه الخراج إلى يوم القيامة.

ومن هنا يتضح أن الكنائس ظلت تُبنى، وبالتالى فإن عهد عمر ليس هو العهد الذى بين أيدينا حاليًا وما يؤكد رأيى ما رواه ابن العبرى أن البطريرك النسطورى أبرم اتفاقًا مع العرب كان من بين ما اشتمل عليه شرط ينص على أن يمد العرب يد المساعدة للنساطرة فى تجديد كنائسهم القديمة.

ويذكر حنا النيقى أن المسلمين فى مصر اتفقوا على عدم احتلال أية كنيسة، وعلى ألا يتدخلوا فى شئون المسيحيين بأى صورة من الصور، وأضاف أن عمرو بن العاص جنى الضرائب المفروضة، لكنه لم يمد يده قط إلى شىء من أملاك الكنائس، ولم يأت بعمل من أعمال النهب، بل حافظ على الكنائس حتى آخر أيام حياته:

وقد جاء فى العهد المعطى لأهل بيت المقدس أن عمرًا أعطى أهل إيليا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صليبهم، ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.

وقد أجمع الكل على أن عظم المعاهدات المبرومة لا تتفق تماماً وما جاء فى عهد عمر، ما يؤكد أن واضعى تلك المعاهدات لا يعلمون شيئاً عن ذلك العهد، ما يقطع بأن هذا العهد لم يكن موجودًا إنما نسب إلى عمر زورًا وبهتاناً.

ويحكى أن عمرو بن العاص أعطى جزءاً من بركة الجيش للمقوقس لتكون جبانة للمسيحيين، وأنه حدث فى سن 60 هجرية أن صدمت الزلازل جانباً من بيت الرها الكبرى فأمر معاوية بترميمها وإعادتها إلى سابق عهدها.

ويروى المقريزى أن الكنيسة التى فى دير بيت عبه بُنيت حوالى سنة 25 هجرية، كما بنيت كنيسة مارمرقص فى الإسكندرية ما بين عامى 39 و56 هجرية زمن البطريرك أغاثو، على حد قول المقريزى، وأول كنيسة بنيت فى الفسطاط فى حارة الروم كانت زمن ولاية مسلمة بن مخلد.

ولما أنشأ عبدالعزيز بن مروان مدينة حلوان أذن لخادمين ملكانيين ببناء كنيسة، كما قام البطريرك ليوناس بتشييد أخرى، وأن عبدالعزيز رسم أيضًا لبعض الأساقفة ببناء ديرين هناك، كما سمح لكاتبه أثناسيوس ببناء كنيسة فى قصر الشمع، ولم يكتف أثناسيوس بواحدة بل شيد اثنتين.

صحيح أن الوليد اقتلع قبة نحاسية مموهة بالذهب من إحدى كنائس بعلبك، ووضعها فوق الصخرة ببيت المقدس، كما نقل بعض عمد من المرمر والرخام من كنيسة مريم بأنطاكية إلى المسجد الأموى فى دمشق، وأمر بهدم إحدى الكنائس لأن دق ناقوسها كان يزعجه.

بينما عمر بن عبدالعزيز أمر عماله ألا يقدموا على هدم شىء من الكنائس الموجودة يومذاك، وأنه حدث فى سنة 104 هجرية أن قام أسامة بن زيد بمهاجمة الأديرة، وهدم الكنائس، ولما تولى هشام الخلافة كتب إليه بأن يجرى المسيحيين على عوائدهم، فمضى البطريرك إلى هشام، واستطاع بمعونة بعض العلماء أن يحمل الخليفة على أن يرد له الكنائس الملكانية بمصر، فكتب هشام إلى واليه بمصر يأمره بردها.

الناقوس!

ويحكى «ابن رستة» فى كتابه: الأغلاق النفيسة، أن العرب لم يلتزموا على الدوام بشروط عهودهم التزامًا حرفيًا، وقد عرف عن عبدالله بن كليب أنه أول رجل ضرب بسيفه أبواب القسطنطينية، وأول من أذن للصلاة فى رحاب الإمبراطورية البيزنطية، ولما علم برغبة الإمبراطور فى قتله قال له: والله لئن قتلتنى لا تبقى بيعة فى الإسلام إلا هدمت.

ولم يكن من المجهول أن المسلمين والمسيحيين كانوا يلتقون فى الكنائس على مودة واحترام، فيذكر المسعودى قصة مجادلته أبا زكريا دنجا المسيحى، وكان متفلسفًا جدلًا نظاراً، وتناظر المسعودى وإياه فى مسألة الثالوث فى الكنيسة المعروفة بالخرضاء بتكريت، وكان المسلمون يحرمون تبييض بيوت النار بالمساجد.

ويحكى لنا كتاب الأغنى، أن بنى خالد القسرى بنى كنيسة بعد سنة 105 هجرية وراء السور الجنوبى الغربى لمسجد الكوفة، وكان المسيحيون يدقون الناقوس حين يؤذن المؤذن للصلاة، كما أن ترانيمهم كانت تعلو على صوت الإمام، فلا يسمع، وحوالى هذا الوقت أو قبله بمدة شيد دميوس من أهل مصر العليا ديرًا كبيرا فى الجبال، وكان دمسيوس صيادًا يعمل النبال ويتمم قانون الرهبنة.

كما يحكى أن الوليد ابن رفاعة، والى مصر، أذِن للمسيحيين بإعادة بناء كنيسة أبى مينا، وذلك لما شكا إليه المسيحيون، وفى سنة 125 هدم أسقف بيت عبة كنيسة الدير وجدد بناءها، وكان الفقر إذ ذاك ضاربًا أطنابه، وقد أصر والى الموصل الجشع - تحت إلحاح جماعة ممن أكلت الغيرة صدورهم - على تغريم الدير خمسة عشر ألف درهم.

وفى هذا الوقت قام شخص اسمه هجير ببناء دير سماه «هجير اباد» فرفض المطران تدشينه وحدث فى مصر أن نهب أبوالجراح بئر بن أدس دير مارت مريم قرب بلبيس، ثم ما لبث أن رد إليه بعد قليل كل ما استولى عليه.

كما أن الخليفة مروان نهب ودمر كثيرًا من الأديرة بمصر أثناء هروبه من وجه قوات العباسيين، فقد أتى على جميع كنائس طما بالتدمير، غير مستثنٍ منها سوى واحدة، وقرر لإبقائها ثلاثة آلاف دينار، ولما عجز أثرياء القرية على جمع المبلغ له إلا ألفى دينار فقد حول ثلث الكنيسة إلى مسجد، وتوسل إليه بعض التجار أن يرد إلى الملكانيين كنيسة يومينا فى مريوط، فكانت النتيجة حدوث ثورة فى قصر الوالى.

وفى سنة 141 هجرية، أقيم مذبح الكنيسة الكبرى فى نصيبين، وبعد ذلك بخمس سنوات ورد كتاب أبى جعفر المنصور إلى يزيد بن حاتم يأمره بالتحول إلى الفسطاط، وأن يجعل الدواوين فى كنائس القصر!!

والمعروف أنه لم يكد هارون الرشيد يتولى الحكم حتى أمر على بن سليمان، والى مصر، بهدم جميع الكنائس المستحدثة، فاستجاب له ابن سليمان، وهدم كنيسة مريم الملاصقة لبيعة أبى شنودة، كما هدم محارس قسطنطين، وحاول القوم صرفه عن هذا العمل بأن بذلوا له خمسين ألف دينار.

ويحكى المقريزى: إن تلك الكنائس هدمت قبل ذلك التاريخ بعشرين سنة تقريبًا عقب قيام قبط سخا بالثورة، ولما جاء موسى بن عيسى - زمن الرشيد - سمح للمسيحيين بتجديد الكنائس التى هدمها على بن سليمان، وقد تم هذا استجابة لنصيحة الليث بن سعد وعبدالله بن لهيمة قاضى مصر، اللذين احتجا أن بناء هذه الكنائس من عمارة البلاد، وأكدا له أن جميع البيع التى بمصر إنما بنيت فى الإسلام فى زمن الصحابة والتابعين!!

ويحكى، أيضًا، أنه فى سنة 198 هجرية كان إبراهيم القرشى - والى حران - يسير فى قصره فأبصر بعض عمائر مستحدثة، فسأل جنده عنها فقالوا له إنها بيع مستحدثة استحدثها النصارى فى ولايته، وأن العرب لتتناقل أنه أذن بما لم يأذن أحد قط قبله به، فأمر ألا تغرب شمس يومه حتى تكون كافة البيع الجديدة قد سويت بالأرض، وسرعان ما قدم الفعلة وهدموا كل البيع، ولما أقبل الصباح ثاب إلى رشده وأذن بإعادة تشييد ما حطمه بالتدريج، وسرعان ما جددت البيع والكنائس.

رفع الاضطهاد!

كما يحكى أنه فى أثناء الصراع بين الأمين والمأمون خرب كثير من ديارات وادى النطرون، لكن أعيد ترميمها بعد سنوات قلائل، وقام بعض حجاب المأمون بإعادة بناء كنيسة الوزراء بناحية القنطرة، واستطاع اثنان من الفراشين الحصول على إذن يخولهما بناء كنيسة على جبل المقطم؛ لأن الكنائس الموجودة بالقلعة كانت شديدة البعد، وفى هذه الحقبة شيد «بكام» أحد أثرياء المسيحيين عدة كنائس رائعة الجمال فى بلدته!!

ويحكى أن وفداً من العرب قابلوا على عبدالله بن طاهر يسألونه هدم الكنائس التى استحدثت فى السنوات العشر الأخيرة فرفض قائلاً لهم إن هؤلاء المسيحيين المنكوبين لم يستحدثوا عشر الكنائس

التى هدمت، لكنَّ أخا عبدالله بن طاهر «محمد» فقد أمر بهدم الكنائس القائمة فى بيت نهرين، لذلك سافر إلى مصر البطريرك «ديونيوس» وأخوه مطران الرها ولقيا عبدالله بن طاهر ثم رجعا يحملان المرسوم القاضى برفع الاضطهاد!!

وفى أثناء عودة عبدالله بن طاهر من مصر إلى بغداد لقيه فى طريقه مسلمو بيت المقدس وشكوا إليه مجاوزة النصارى حدهم واقترافهم ما هو محرم عليهم، إذ زادوا فى قبة كنيسة القيامة حتى جاوزت الصخرة علواً، فأمر بن طاهر بسجن البطريرك وبعض رفاقه حتى تنجلى له الحقيقة.

وجاء أحد المسلمين إلى المسجونين ذات ليلة وقال للبطريرك، أنا أعلمك حجة تتخلص بها أنت وأعوانك بعون الله على أن تضمن لى أنك تعطينى ألف دينار وتجرى على أولادى من بعدى فوعده البطريرك، وأكد وعده بخط يده، قال له المسلم: إذا أحضروك وشهدوا عليك فقل لهم: أصلح الله الأمير، وأنا لم أهدم ولا زودت شيئًا، وهؤلاء الذين يشهدون إنما شهدوا على أن القبة كانت أصغر مما هى وأنى زدت فيها، فليسألهم الأمير كم كان سمك القبة الصغيرة التى هدمتها على ما زعموا وكم سمك هذه القبة التى بنيتها، ففعل البطريرك فعجزوا عن الإجابة فأطلق سراح البطريرك ورفاقه.

وفى هذا الوقت أيضًا عمرت كنيسة بيت المقدس، لكن فى سنة 239 هجرية أمر المتوكل بهدم كل البيع المورثة فى الإسلام، وأصدر مرسوماً حرم فيه إقامة بيع جديدة.

ومن هذا السرد يبين أن الكنائس كانت تبنى بحرية، وكانت تشيد بموافقة السلطة وأصحاب الأمر والنهى، بل وأحيانًا بمساعدتهم، ولم يتبين لنا من مطالعة التاريخ أى إشارة إلى صدور أمر بمنع استحداث كنائس حتى سنة 150 هجرية أو 170 هجرية، وأن المتوكل كان أول من حرّم إقامة بيع جديدة، وأن الكنائس كانت على الدوام منذ زمن بعيد عرضة للهدم تبعاً لهوى الوالى.

ولا مشاحة أن يكون الخطر عليها أعظم وأشد فى أوقات الاضطرابات السياسية - والغالب وليس دوماً - أن الأمور تتوقف على طبيعة الحاكم، والياً كان أم خليفة، على أن الشىء الوحيد الذى لا يرقى إليه الشك هو أن القرن الأول للهجرة لم يعرف قط شيئاً عن عهد عمر!!

ومنذ القرن الثانى تبلورت الفكرة القائلة بأن جميع أماكن العبادة قد بنيت زمن الإسلام، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه الفكرة عامة فيما بعد، ولم يكن المتوكل القاضى بتحريم استحداث الكنائس ختام تلك القصة فقد كان الناس ينفذونه أحيانًا ويتغافلون عنه أحيانًا أخرى، كما أن العامة طالما قامت هى ذاتها بأخذ الأمر فى يدها، فقد هدم العامة فى سنة 272 هجرية دير كليلا يشوع فى بغداد، وفى سنة 312 هجرية أحرقت كنيسة مريم بدمشق ونهب دير النساء، وألم الدمار كنائس أخرى كثيرة، كما امتدت يد التحطيم كنيسة قيسوم وقيصرية، وتشكى الناس إلى المقتدر بالله الذى أمر بترميم ما تحطم، كما هدمت سنة 320 هـ الكنيسة القائمة خارج حصن تنيس، فأعاد المسيحيون بناءها، ولكن ما كاد البناء يشرف على الانتهاء حتى أضرم المسلمون فيه النار وهدموه، فساعد السلطان فى إعادته!!

وفى سنة 325 أحرقت الأبواب الشرقية لكنيسة القيامة بسبب المقدس ونسف ديرها، وامتدت يد السلب إلى الكنيسة ذاتها، كما احرقت كنيسة القبر المقدس سنة 355 هجرية فكتب كافور إلى الامبراطور الذى كان إذ ذاك يغذو الشام انه ناهض لعمارتها!!

وحدث فى سنة 392 أحرقت الأبواب الشرقية لكنيسة القيامة ببيت المقدس ونسف ديرها، وامتدت يد السلب إلى الكنيسة ذاتها، كما أحرقت كنيسة القبر المقدس سنة 355 هجرية فكتب كافور إلى الإمبراطور الذى كان إذ ذاك يغذو الشام أنه ناهض لعمارتها!!

وحدث فى سنة 392 هجرية أن قامت فتنة فى بغداد ضد المسيحيين نهبت خلالها بيوتهم وهوجمت أثناءها بيعهم وأضرمت النيران فى كنائسهم، وهلك تحت أنقاضها جمع غفير من الرجال والنساء والأطفال، كما لحق التدمير كثيرًا من الكنائس» أثناء غزو أسد الدين شيركوه لمصر.

بيد أنه ينبغى أن نقرر أن مسلك الحكومة كان يختلف باختلاف الأزمنة، فلما بنى أحمد بن طولون الحى المعروف باسم القطائع أمر بإزالة مقابر اليهود والمسيحيين الموجودة بتلك الناحية وسواها بالأرض، وفى سنة 328 أرسل والى مصر الأمير أبوبكر محمد بن طنج الأخشيد رسولًا من قبله يدعى أبا الحسين إلى مدينة تنيس ليختم على كنائس الملكية فختمها وأحضر آلاتها إلى الفسطاط، فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار، واضطر لبيع أوقات الكنيسة للوفاء بهذا المبلغ، وفى سنة 369 هجرية منح الوزير نصر بن هرون الإذن ببناء الكنائس والأديرة!!

صحيح أن السلطات المسئولة كانت تبدى فى بعض الأحيان شيئاً من الالتفات إلى المظاهر الشرعية، ويحكى لنا الكندى فى كتابه: الولاة والقضاة أنه اتفق أن انهدم جانب من كنيسة أبى شنودة، وبذل المسيحيون مالاً كثيراً لتطلق لهم عمارتها، فاستفتوا الفقهاء، فأفتى ابن الحداد بهدم عمارتها، ووافقه أصحاب مالك، وأفتى محمد بن على العسكرى بأن لهم أن يعمروها، فثارت العامة به وهموا بإحراق داره وأحاطوا بالكنيسة، فبلغ الأمر إلى الأمير فاغتاظ وأرسل وجوه غلمانه فى جمع كثير، فاجتمع عليهم العوام ورموهم بالحجارة، فراسلوه، فأرسل إلى ابن الحداد وقال له: اركب إلى الكنيسة فإن كانت قائمة فاتركها على حالها، وإن كانت دائرة فاهدمها، وتوجه ابن الحداد وصحبته ودخل الكنيسة، وأخرج جميع من فيها من المسيحيين وأغلق الباب، وتركها ولم يعمرها، فلما كانت سنة 366 هجرية عمرت كلها!!

كما أصدر الخليفة العزيز أمره بإرجاع كنيسة مرقس إلى البطريرك الذى تعرضت العامة له، وحالت بينه وبين ترميمها فلم يكن من العزيز إلا أن أقدم المال من جيبه للبدء فى العمل، فلم يقبل أحد ما القيام به، فاستجلب العمال وعهد إلى الجند بحراستهم.

الحاكم بأمر الله!

أما الحاكم بأمر الله فقد أمر بهدم الكنائس الموجودة فى البلاد التى يحكمها، واستولى على محتوياتها، وبيعت فى الأسواق أواعيها الذهبية والفضية، وكان فى كنيسة المعلقة مخزن كبير يحتوى على كثير من المصوغات والملابس الزاهية، ويقال إن المسلمين كانوا يصلون فى كنيسة أبى شنودة فصودرت أراضيها، واستولى كل فرد على ما تتطلع إليه نفسه.

ويشير أحد المؤرخين المسلمين - أبوصالح الأرمنى - إلى أن يد الهدم أصابت أكثر من ثلاثين ألف جنيه مما بناها الروم فى مصر والشام وغيرهما!!

كما يقال إن الخليفة الظاهر أذن فى سنة 418 هجرية بترميم كنيسة القيامة، وفى سنة 439 بنى البطريرك سطوديس فى القاهرة كنيسة بومرقورة وكنيسة السيدة بحارة الروم، وجرت فتنة زمن المستنصر بالله سنة 487 فى صعيد مصر أدت إلى قتل رهبان دير أبانوب قرب الاشنمونين.

وفى عهد هذا الخليفة بالذات ردت كنيسة جرجيس فى خط الحمراء إلى أصحابها، وكانت قد ضربت أثناء دخول الكرد إلى مصر، ثم أعيد ترميمها فى السنة التالية وغيرها من البيع، فتذمر العامة من ذلك العمل وانهالوا عليها تخريباً وهدماً ونهباً، بيد أن المسيحيين استطاعوا استرجاع ما كان بها، ودشنت من جديد وحظيت كنيسة «المرتونى» بعطف الخلفاء الحافظ والظافر والعاضد على التوالى.

كما يحكى أنه لما نور الدين محمود عماد زنكى استولى على «الموصل» أمر بهدم جميع الكنائس المستحدثة فيها، فهدمت اثنتان للفساطرة والسريان لكن سرعان ما أعيد بناؤها، فوضعوا أيديهم على كل ثمين بها، وفتكوا بخمسة عشر راهباً، كما استولوا على دير مارسرجيوس الذى تتلمذ فيه موسى باركيفا.

أما فى الرها فقد هدمت كنيسة «أيا صوفيا» حتى أساسها، ونقلت أنقاضها لبناء مسجد بحران، ثم حدث أن انهار حائط كنيسة الرسل الغربى ومن ثم انهدمت الكنيسة كلها وكنيستا «مار اسطيفان» والشهداء الأربعين المتاخمة لأحد المساجد، ولما تم الاستيلاء على بيت المقدس خربت جميع الكنائس عدا كنيسة القيامة، وقرر على كل مسيحى يدخل الكنيسة بقصد الصلاة أن يدفع عشرة دنانير يؤديها إلى حراسها المسلمون!!

بيد أن نجم الدين كان عطوفاً على المسيحيين شفيقاً بهم وبكنائسهم وأديرتهم، بل إنه كان يشاورهم فى الاهتمام ببناء الكنائس فى إمارته، وكان دائم التردد على أديرتهم شغوفًا بالشرب والإقامة بها، ولما استولى قلج أرسلان على بلدة كبيسوم حوالى سنة 568 هجرية جب الضريبة المفروضة على دير مار برصومة.

كانت هذه العلاقة بين المسلمين والمسيحيين منذ الفتح الإسلامى حتى سنة 658 هجرية، فماذا حدث لما غزا المغول دمشق، هذا ما سنرويه فى الحلقة القادمة.