بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

الحقيقة العارية

 

 

العلاقة بالوطن مثل علاقة الحب التى تكون فى أجمل حالاتها ونحن شباب نشرب الفرح والنشوة من نهر عيون غرقنا فيها فمنحتنا بدل الحياة ألف حياة.. وفيما يتعلق بالأوطان فقد تدفع المقادير بزعيم يرسم لبلده لوحة جديدة زاهية الألوان، ويحلم مع الناس وبالناس فتتعلق به الجماهير مدفوعة بعاطفة تاريخية تعوضها عن عهود خلت لم يعرف الناس معها إلا الجوع والدموع.. جمال عبدالناصر كان ملهمًا وتعلق به الناس– معظم الناس.. تعلقوا بزمانه وحلمه وصوته وطلته، بغض النظر عن أبعاد هذه المشاعر وصلتها الحقيقية بواقع الوطن أو الزعيم.. مصنع الحديد والصلب فى حلوان الذى كثر الجدل حول تصفيته وبيعه هو جزء مما تبقى من عصر جمال عبدالناصر. والحقيقة التى أسجلها فى البداية أننى من المنتمين عقلًا وعاطفة لهذه المرحلة فى تاريخ مصر الحديث، وأن الشعور بالأسى تجاه تصفية هذا المصنع بالنسبة لى ولغيرى أشبه بلوعة قلب رجل تجاوز السبعين عامًا على امرأة خمسينية أو ستينية بين الحياة والموت، ولما سأله الناس لماذا تبكيها وأنت لم ترها منذ خمسين عامًا على الأقل- فكانت إجابته «إنها ما تبقى لى من عصر الحب الذى كان».

الحقيقة أن الغضب المفاجئ للبعض وأنا منهم بعد سماع خبر قرب تصفية مصنع حلوان للحديد والصلب هو غضب عاطفى أكثر منه علمى أو اقتصادى أو موضوعى.. أنا غضبت لأن الأمر يتعلق بالحب الذى كان.. ببقايا رائحة أحبها لزمن مضى.. بمعانى أقوى من الحجارة التى بنى بها المصنع.. غضب بطعم الحب والغرام أكثر منه غضب مدفوع بمنطق الأشياء.. غضب أقرب للغيرة التى أكلت قلب الرجل السبعينى على حبيبته التى لم يراها من نصف قرن ولم يكن يدرى ماذا فعلت بها الأيام والليالى، ولا كيف زحف العمر على وجهها مغتصبًا منه النضارة وماء الأنوثة ليتركه خريفًا لا ينتظر لا ينتظر إلا لحظة الرحيل. 

ولكن إذا كان لكل حقيقة وجهان وأحيانًا أكثر– فالوجه الثانى لموضوع تصفية مصنع حلوان للحديد والصلب هو وجه الدولة المصرية القائمة.. الجدل محتدم والكلام كثير والآراء مبعثرة وتائهه ما بين رواد المقاهى ورواد الصالونات.. كان على الدولة الحالية- وهى الوريث الثالث لدولة جمال عبدالناصر- أن يخرج على الأقل رئيس الوزراء فى أى مناسبة ويتحدث للناس بمنطق رجل الدولة شارحا لهم- لماذا مصنع حلوان للحديد والصلب.. يشرح للناس لماذا لم يجدد هذا المصنع منذ عقود برغم أن مليارات قد أهدرت فى مشروعات بلا جدوى خلال نصف قرن مضى.. يتحدث للناس ويؤكد لهم أن حكومته تتحمل مسئولية ما تقوم به الآن أمام الشعب والتاريخ.. يفسر للناس أن مصر تتغير وأن ما كان سائدًا فى الخمسينيات والستينيات ليس منطقيًا أن يستمر بلحمه وشحمه دون تغيير وإلا فإنها سلفية سياسية أخطر من السلفية الدينية.

هذا ما كنت أتصور حدوثه لأن مصنع حديد وصلب حلوان فى وقته وزمنه كان ملحمة شعبية شارك فيها كل المصريين، لا تقل روعة عن ملحمة السد العالى.. من حق الناس أن تتساءل هل سيتم تصفية كل الشركات العامة بدعوى خسائرها، ولو حدث ذلك فهل مسئولية الدولة ستنحصر فقط فى الدفاع والأمن القومى على اعتبار ان معظم المتبقى من شركات عامة ومؤسسات طبية وصناعية وإعلامية ستلقى نفس المصير بحكم الظروف القاسية التى تمر بها.. وهل من الممكن أن تصفى الدولة كل أصولها وتتخلى عن مسئولياتها الاجتماعية فى بلد مازال تصنيف البنك الدولى لعام 2020 يحدد متوسط دخل الفرد سنويا فى مصر بأقل من أربعة ألاف دولار (3895 دولارًا).. أنا شخصيا أتصور أن هناك مشكلة كبيره فى تسويق النظام السياسى لنفسه، وجزء من التسويق هذا أن يتواصل النظام مع الناس بشكل يومى ومباشر من خلال وسائل ورسائل كثيرة.. النظام السياسى فى مصر يظلم نفسه أحيانا عندما يحقق على الأرض الكثير من الانجازات، بخلاف ما يتحقق فى مجالات سياسية واستراتيجية أخرى تصب فى مصلحة الأمن القومى المصرى – وكل ذلك يحدث والجمهور العام لا يتعرض إلا لحملات تجهيل من مؤسسات إعلام وتعليم وثقافة يستفيد من أدائها خصوم مصر المتربصون وليس عشاق مصر المرهقين.