العرب و"حوار الطرشان"
حقيقة أنا فى دهشة إلى حد الذهول من ظاهرة الجدل السائد فى الصحافة العربية والإعلام العربى بصفة عامة وفى مواقع كثيرة على الإنترنت حول قضايا جدلية كثيرة أغلبها لا يمت للواقع العربى الحالى الأليم والمفجع بصلة ، ويدهشنى أكثر نبرة الحوار والخطاب الإعلامى خاصة فى كثير من البرامج التليفزيونية والذى هو أشبه ما يكون " بحوار الطرشان " ، وغالبا ما يتسم بالتشنج والإنفعال والتفكير العاطفى وخلط الأوراق والتعميم والتسرع فى إصدار الأحكام ، ويكاد يتوه فيه صوت العقل والحكمة والهدوء والتروى ، ونادرا جدا ما تسمع أحد المتحاورين يقول للطرف الأخر-خاصة فى حوار حول قضايا خلافية سياسية أو دينية " يبدو أن رأيى قد جانبه الصواب فلم أكن أعرف هذه المعلومة أو على بينه بتلك الحقائق والبراهين التى ذكرتها " مع ان الإعتراف بالحق فضيلة كما يقول المثل الشائع... الكل يريد أن يتكلم كثيرا ويسمع قليلا أو يسمع فقط ما يريد أن يسمعه أو يقاطع من يتحدث بأسلوب إستفزازى.
وكثيرا ما يخرج الحوار عن القضية الأصلية ويتفرع الى قضايا فرعية أو منفصلة أو ينتقل من العام إلى الخاص فتحدث البلبلة والشوشرة ويتحول المتحاورون بقدرة قادر إلى أجهزة إرسال فقط دون إستقبال .!!
لماذا تسود هذه الظاهرة فى مجتمعاتنا العربية أكثر من غيرها؟!
أليس غريبا أن تتفشى هذه الظاهرة المؤسفة المخجلة فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية على الرغم من أن الحوار هو قيمة إسلامية أكدها المولى عز وجل فى محكم آياته حيث يقول:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
هل هو هروب لا شعورى من الواقع المر الأليم والمهين؟
هل هو نتيجة لتزايد مشاعر الإحباط واليأس من تغيير الواقع؟
هل هو شعور الشخص بفقدان الهوية أم محاولة لتحقيق وإثبات الذات؟
هل هو شعور بالنقص أو الظلم أو هو حب الظهور على شاشة التليفزيون والسلام أم هو الرغبة والتطلع إلى زعامة ما من خلال ترديد شعارات جوفاء وعبارات رنانة طنانة كالببغاء قد مضى عهدها وثبت زيفها وأصبحت لا ترقى لمستوى الأحداث والقضايا المصيرية والأخطار الجسام التى تواجه أمتنا اليوم وغدا ؟!
كيف يتشدق البعض منا فى العالم العربى ـ أفرادا كانوا أو أحزاب وحكومات ـ بالحرية والديمقراطية بينما هم يحجرون ويصادرون الرأى الأخر وينكلون به ؟!
هل الخطأ أساسا يكمن فى أسلوب الحوار أم فى طريقة تفكير العقل العربى؟!
وإذا كان هذا كله يحدث بين شعوب وأقوام يتحدثون لغة واحدة وبينهم الكثير من العادات والتقاليد المشتركة فماذا يفعلون وكيف يتحاورون مع شعوب أخرى تتحدث لغات أجنبية غريبة ولها عادات وتقاليد وبيئات إجتماعية مختلفة؟!
كيف يستقيم حق حرية التعبير مع أسلوب القذف أو التشهير أو أسلوب الغمز واللمز والتنابز بالألقاب؟
ولماذا يتحاور بعضنا مع الأخر من منطلق أن هذا الآخر مدان إلى أن تثبت براءته لا العكس؟!
كيف يكون الحوار بناءا إذا إستسهل الكثيرون منا اللجوء إلى التفسير التأمرى لكثير من الأحداث والقضايا الملحة التى تواجهنا عمال على بطال رغم إعترافى بأن عالم السياسة ملئ بالدسائس والمؤامرات؟! أو ليس فى هذا إعتراف منا بالعجز والقصور أو الكسل والتراخى عن البحث والتدقيق أو عن الفهم الصحيح ؟!!
إذن ما الجدوى من الحوار أصلا إذا ماتشبث كل طرف برأيه وموقفه رغم الخطأ الواضح أو النقص فى المعلومات؟!
حقيقة أنا لا أعرف الإجابة ولكنها كلها أسئلة أطرحها للجدل البناء والنقاش المفيد وإذا كان لا بد من الخلاف وهو أمر طبيعى يحدث بين البشر وحتى بين الأخ وأخيه ـ فلماذا لا نعرف أو حتى نحاول
أن نتعلم كيف نختلف؟!
أتذكر أننى سمعت "تب أونيل" رئيس مجلس النواب
فرد عليه السياسى المخضرم تب أونيل قائلا: " سيدى الرئيس لقد حدث هذا قبل الساعة السادسة مساء وأثناء
مواعيد العمل الرسمية ونحن الآن فى السابعة مساء".
قضايانا كبيرة وشائكة ومعقدة ومعظمها عادلة وتحتاج الى قوة كبيرة للدفاع عنها وإيجاد حلول جذرية لها وهذا فى رأيى لا يتحقق إلا بإعمال العقل والتفكير لا التكفير، والإيمان القوى المستنير واتحادنا وتماسكنا لا بمزيد من الفرقة والإنقسام فنحن جميعا فى سفينة واحدة فى وسط محيط هذا العالم ، وأري الأمواج العالية والأعاصير تتلاطم على السفينة من كل جانب ، ورياح الخطر تهب على المنطقة بأسرها فى وقت أرى الكثيرين منا فى عالمنا العربى يخوضون معارك جدلية عقيمة لن تغير من واقعنا المأساوى الأليم أو تدرأ خطرا فمن أين لنا كل هذه الرفاهية؟!!
منذ ما يقرب من أربعين عاما قال المفكر الكندى الكبير مارشال مكلوهان كلمته الشهيرة:
" إن أكثر ما يقلقنى ويشغل تفكيرى هو أن ندخل كشعوب القرن الحادى والعشرين ونحن لا زلنا نجر معنا قيود وأغلال القرن التاسع عشر".
كاتب صحفى مصرى ـ كندى
Mossad[email protected]