بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

عُزلة البطل في المرآة المحفوظية

بوابة الوفد الإلكترونية

بقلم : معتز محسن عزت


(العزلة).. كلمة ذات مغزى ثمين يقترب بلمعانه للعقول والعيون لتفتيح الأقفال المؤصدة لإعادة التفكير في ترتيب الأوراق المبعثرة لحياة الإنسان وقت التهميش والتناسي في لحظات التغيرات المفاجئة ما بين الحروب والثورات التي تمر على الجميع في اللحظات التاريخية الفارقة في ضمائر الأمم.
هكذا كانت حيوات أبطال نجيب محفوظ في رحاب العُزلة في أعماله المنتمية للمرحلتين الواقعية والفلسفية كنوع من التوثيق المتأدب لمد يد العون للتاريخ كي لا يتجمل حسب هوى القائم على السلطة.
جسد محفوظ تلك اللحظات في رواياته والتي اتضحت بشعور التهميش والتنكر لمن مهد للشباب أن يصلوا لإسدال صفحات الكفاح بثورتهم الفتية من خلال أبطال محفوظ في مرآته الروائية.
شعر كمال عبدالجواد في (السكرية) بتهميشه وقت ركوب موجة التحزب في أواخر الأربعينيات ليرى نفسه كائنًا متحفيًا يُنظر له بعين الشفقة و السخرية نتيجة لتمسكه بكلمات آمن وتشبث بها لدرجة الذوبان ليصحو على أصوات ارتطامه بأرض الواقع مكتشفًا عاجية أحلامه الغير مناسبة للهاث الواقع مستيقظًا على تقدم الأجيال التي تلته وهو ثابت في مكانه بوضع التعادلية الساكنة في عُزلته الاختيارية.
ينتقل الأمر من كمال عبدالجواد ب(السكرية) إلى عيسى الدباغ ب(السمان و الخريف) والتي صدرت في العام 1962 أي بعد عشر سنوات من ثورة 23 يوليو ككشف حساب لمن انتمى لرموز ما قبل ثورة يوليو خاصةً في ثورة 1919 ومظاهرات الطلبة في العام 1935، بتصنيف أبطالها برجال العهد البائد مع توضيح تحول عيسى الدباغ من ِقبلة الشعب لِقبلة القصر ليكون مصيره الإقصاء مختارًا منفاه الاختياري بالإسكندرية محاولا لملمة أوراقه المبعثرة في أدراج الماضي.
كانت رؤيته المستمرة لتمثال سعد زغلول على شاطئ الإسكندرية عملية ترميزية للحنين المأجج بنيران الحسرة لاستحالة عودته مجددًا متنقلا ما بين مصير وآخر في محاولة للكشف عن ذاته المخدرة بصدمات العصر الجديد لنصل للنهاية المفتوحة بمحاولة لحاقه بمن تمتع بالعهدين القديم والجديد وقت رفضه ليده الممدودة للخروج من نفق العُزلة إلى الواحة الواسعة حيث الحياة بكل ما تحتويه من ثراء زاخر.
جُسدت العُزلة في العام 1965 في رواية (الشحاذ) ببطلها عمر الحمزاوي المحامي الناجح ذو الميول الشعرية المقبولة والزوج والأب، نفاجأ به في أول الرواية بشعوره بلحظات القلق والاضطراب لعودة صدى وخز الضمير بتركه لعثمان رفقي يُقبض عليه في إحدى العمليات الفدائية وقت مقاومة المستعمر ليشعر بسجن أعمق وأصعب من سجن عثمان بفقدانه للروح والآدمية لانغماسه في المادية المفرطة.
ينوي البطل حياة العُزلة ليعيد اكتشاف انسانيته المهدرة مُجربًا مناهج الفكر والحياة المتعددة ما بين الحسية و الفلسفية و الروحية تاركًا أسرته و بيته من أجل المجهول الذي وجده في حياة الصوفية لتنتهي الرواية بطلقة رصاص سطحية أصابته ، وقت هروب عثمان رفقي الذي خرج من سجنه و تزوج إبنته بثينة ، ليعود عثمان مجددًا لسجنه مطالبًا عمر بأن يستفيد من رحلته العجائبية

بعد رصاصة الإفاقة محاولا استعادة توازنه المفقود كدعوة صريحة بالوسطية أو التعادلية التي طبقها محفوظ عمليًا من خلال دعوات أستاذه توفيق الحكيم لها.
في العام 1967 تجسدت العُزلة في رواية (ميرامار) من خلال شخصية عامر وجدي الصحفي الوفدي الذي فضل العُزلة بالإسكندرية كعيسى الدباغ و كأن الإسكندرية مكانًا قدريًا لمن ينوي التغير و ترتيب الأوراق بين نسمات بحرها و سحر يودها المنعش للأفكار و الأحلام متمسكًا بكتاب الله سلواه الأبدي وقت رؤياه لمشاهد من حوله المرفوضة ما بين طلبة مرزوق و حسني علام و منصور باهي و ماريا الطامعين في زُهرة الرامزة لمصر كصيد ثمين.
الرواية بدأت و إنتهت بسورة الرحمن  كومضة مُلحة وضرورية لتذكيرنا عبر الراوي العليم بأن من ينزوي عن العروة الوثقى يصل إلى ما وصل إليه أبطال الرواية بمصائرهم المحزنة وأن من يسير على نهج عامر وجدي يقف على أرض صلبة مؤكدًا بصوته الرخيم آيات الرحمن مباركًا زُهرة و بائع الجرائد طريقهما الجديد المفروش بالحلال و الجمال.
عُزلة عامر وجدي عُزلة تأملية أراد فيها إنعاش ذاكرته العتيقة بمستجدات الأمة حتى و إن رفض بعضًا منها لكنه يرفض استخدام النكران الكامل الذي أنتهج في ثورة 23 يوليو كنوع من التحذير الرمزي لاقتراب الهزيمة المخبئة في صحائف المستقبل.
لعل بعُزلة عامر وجدي الفضل الأكبر في تصويب ثورة يوليو ولو جزئيًا لخطيئة النكران لبذور الاستقلال بعد هزيمة حرب الأيام الست حينما سمح الزعيم جمال عبدالناصر بصدور عددًا تذكاريًا احتفالا باليوبيل الذهبي لثورة 1919 في العام 1969 أشرف على هذا العدد المفكر الكبير أحمد بهاء الدين.
العُزلة هنا تحمل في مضمونها معاني متعددة كسرت المفهوم الأحادي بمغزاه السلبي حيث الإنطواء والفضل في كسر هذا المفهوم الخاطئ نجيب محفوظ لفيوضاته الفلسفية والصوفية والروحية التي أعطت للعُزلة مضامين وافية تحث على التأمل والتفكر والتعقل وإعادة ترتيب الأوراق المبعثرة لتكوين ماهية جديدة للإنسانية جمعاء.