بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

12 مشهداً.. تكشف المستور في قطار الأغنياء

بوابة الوفد الإلكترونية

تحقيق وتصوير: علي الشريف / إشراف: نادية صبحي

هو ليس كقطار محمد عبدالوهاب الذي غني له «يا وابور قولي رايح علي فين»، وليس كقطار عفاف راضي الذي غنت له «يا وابور الساعة 12 يا مجبل علي الصعيد»، ولكنه قد يشبه قطار فريد الأطرش الذي غني له «يا مجبل يوم وليلة»، ووجه الشبه انه فعلاً «مجبل» (يتجه للوجه القبلي) ليلة كاملة.

اسمه قطار الأغنياء، ولكن ما يشهده القطار ليس له أية علاقة بالأغنياء ولا حتي بالفقراء ولكن بالمطحونين، بالصوت والصورة رصدنا 12 مشهداً من «قطار الأغنياء» أثناء سفره من محطة القاهرة إلي أسوان.. هذه المشاهد كانت خليطاً من العذاب والسرقات والتحرش والمواقف الانسانية.

كانت البداية تبعث علي الأمل فعند دخولك إلي محطة مصر يجذبك منظرها الرائع، حيث صالة المحطة الفخمة التي تشبه اللوحة الفنية ويتوسطها مثلث وصندوق كبير يصف حضارة مصر وجمالها وعدد من الكافيهات والمطاعم في الدور العلوي للمحطة.. ولكن ما عدا ذلك لم يكن له علاقة بالسعادة ولا بالجمال.

«المشهد.. الأول»: في البدء كان النفق

عقارب الساعة تشير إلي الثامنة والنصف مساء.. وعشرات المواطنين في كل الأعمار يتدفقون باتجاه رصيف «11» بمحطة مصر المخصص لقطار الصعيد المكيف الشهير بقطار (الأغنياء).. الوصول للرصيف لم يكن سهلاً، خاصة انه يتطلب النزول في نفق ضيق شديد الازدحام، حيث يجر المسافرون أمتعتهم الثقيلة وآخرون استعانوا بشيالين لنقل حقائبهم وأمتعتهم.

ومن يتجاوز النفق ويصل إلي الرصيف يجد الجميع تتعلق عيونهم باتجاه قدوم القطار فيما ينشغل الأطفال باللعب واللهو وتعلو وجوههم سعادة العودة إلي الديار في الصعيد.

 

«المشهد.. الثاني»: قلب الكمسري

الوقت يمر والقطار لا يأتي.. دقائق ثقيلة كأنها ساعات.. كأن الزمن توقف.. ولكسر الملل, راح البعض يتوجه إلي كمساري القطار الذي كان يقف هو الآخر علي الرصيف منتظرا قدوم القطار, وكان السؤال الوحيد لهم هو: القطار جاي امتي؟.. وكانت الإجابة الوحيدة أيضاً هي: القطار علي وصول.. تمر الدقائق والقطار لا يجيء والرصيف يتحول إلي مركز للملل والتأفف والحزن المكتوم.

وسط هذا الملل اقترب شاب في نهاية العشرينيات من كمساري القطار الواقف علي الرصيف، وقال مستعطفا «أنا عاوز أروح وممعيش فلوس» ممكن أركب القطار؟، وبعيون غاضبة وبكلمات أكثر غضباً، قال الكمساري «لو ركبت القطار هاسلمك للشرطة فوراً أو تدفع التذكرة».. رجع الشاب كسيراً دون أن ينطق بكلمة واحدة, ويبدو أن قلب الكمساري هزه انكسار الشاب وشعر انه صادق في كلامه, ولهذا لحق به وقال «لو عاوز تركب وتدفع لما توصل المحطة ممكن أخد منك بطاقتك الشخصية وتخلي حد ينتظرك علي محطة الوصول بالفلوس وتبقي تدفع هناك».

وقعت كلمات الكمساري علي الشاب كنجدة من السماء, وكاد يقبل يد الكمساري علي كرمه وبالفعل سلمه بطاقته الشخصية راضياً ممتناً.

 

«المشهد.. الثالث»: عجوز فوق حقائب السفر

بعد معاناة وصل القطار فتدفق الناس أمواجاً إلي داخله الجميع يتصببون عرقاً, رغم أن الوقت ليلاً.. وأخيراً تحرك القطار مغادراً محطة مصر في اتجاه الصعيد.. ولأن الرحلة ستطول بدأ كل راكب رحلته بالتعارف علي من حوله ولم تمض دقائق حتي وكان كل راكب يعرف جاره «رايح علي فين».

وبسبب الزحام كان بعض الركاب يجلسون علي أرضية عربات القطار وآخرون معلقين علي الأبواب وفريق ثالث لم يجد أمامه سوي الجلوس داخل دورات مياه القطار رغم رائحتها البشعة.

وبعد أن امتلأ كل شبر من القطار بالركاب, وقف رجل مُسن تظهر عليه علامات التعب والارهاق من شدة الزحام ولم يجد مكانا يأوي إليه, فتطوع بعض الشباب بوضع حقائبهم علي الأرض ليجلس العجوز عليها بدلاً من «البهدلة علي الأرض».

 

«المشهد.. الرابع»: لب وشاي وعسلية

رغم الزحام وتلاصق أجسام الركاب شق الباعة الجائلون الأجسام المتلاصقة وراحوا يعرضون بضاعتهم «اللب والعسلية ولضامة الخيط».. جميعهم كانوا يمرون بين الركاب الواحد تلو الآخر ثم يلقون بضائعهم على وجه الراكب أو ساقه ثم ينادون علي بضائعهم مرددين «حد عاوز لب».

وبعدها يمر بائع الشاي حاملاً صينية بها العديد من الأكواب لينادي بصوت عال «شاي بـ2جنيه», فإذا طلب منه أحد الركاب مشروباً وضع عدته على الأرض وأخذ يصب الماء الساخن فى الكوب مع المشروب، ثم يغادر إلى عربة أخري.

وبعد بائع الشاي ظهر بائع آخر يلقي بعض كتبه لتعليم القراءة والكتابة علي سيقان الركاب الجالسين علي الكراسي، ثم يعود لتجميعها مرة أخري علي أمل أن يشتريها أحدهم.

 

«المشهد.. الخامس»: سجائر المتسولة

لم تكن أصوات الباعة الجائلين تخفت حتي انطلق صراخ امرأة مرددة بعض الآيات القرآنية يعقبها صراخ بصوت عال «حاجة لله أنا عندي أربع أخوات بنات وباجري عليهم».. كان البعض يصدق كلامها وآخرون يعتقدون أنها تنصب عليهم من أجل الحصول علي المال.. وكانت المفاجأة أن ذات المتسولة عند خروجها من عربة القطار كانت  تقف  في المنطقة النصفية بين عربات القطار وتشعل «سيجارة» وتدخن باحتراف يفوق الرجال!

 

«المشهد.. السادس»: هروب في دورة المياه

شاب  يقرر الهروب من  «الكمساري» بالاختفاء داخل إحدي دورات المياه, وأغلق عليه الباب, واكتشف المحصل الحيلة, وظل يطرق على الباب فى محاولة يائسة لفتحه، ما أثار سخرية الركاب من المحصل والشاب الذي هرب من دفع قيمة التذكرة.

 

«المشهد.. السابع»: دخان.. وسرقات

سحابات سوداء هائلة تملأ عربات القطار رغم أن التدخين ممنوع إلا علي الأبواب فقط!.. الدخان المسموم أصاب غير المدخنين بضيق, وحاول رجل مُسن أن يقنع المدخنين بالتوقف عن التدخين وظل يردد «أنا تعبان ارحموا صدري» وضاعت آهاته وسط  الفوضي والمرح التي تطغي علي جلسات المدخنين.

وسط الدخان وصرخات الغاضبين ظهرت مجموعة من الشباب مروا بين عربات القطار وبعد مرورهم بدقائق اتضح أن هناك أكثر من حالة سرقة داخل القطار والغريب أن هؤلاء الشباب اختفوا ولم يظهر لهم أثر!

 

«المشهد.. الثامن»: تحرش

فتاه تجلس وبجانبها شاب بدأ يتعرف عليها ويسألها بعض الأسئلة: «إنتى منين؟ اسمك إيه؟ انتى بتدرسى ولا لأ»؟ بينما الفتاة لا ترد عليه، وبدأ الشاب يقترب منها والفتاة تبعد عنه, واستمر هذا الحال حتى صرخت البنت مرة واحد وقالت: «انت بتعمل إيه انت أهبل»؟ فقام أحد الشباب الجالسين بصفعه علي وجهه!

 

«المشهد.. التاسع»: أسلحة بيضاء في ليلة سوداء

مجموعة من الشباب يحملون أسلحة بيضاء يهددون أشخاصاً تشاجروا معهم

لمنعهم من عرقلة حركة القطار بسحب «الفرامل وتفريغ الهواء فى منتصف الطريق»... بعضهم كان يقول بأعلي صوته «إحنا محدش يقدر علينا».. فيما اكتفي أغلب الركاب بالصمت وآخرون رددوا «حسبنا الله ونعم الوكيل.. ربنا ينتقم من كل ظالم».

كان الشاب يحملون أسلحتهم البيضاء، بينما الليل يخيم علي كل ما هو محيط بالقطار حتي إن الجالس داخله يشعر وكأن القطار يسير وسط بحر الظلمات.

 

«المشهد.. العاشر»: تكييف آخر زمن

فنيو صيانة تكييف القطار يترجلون بين العربات وكأنهم في مهمة صعبة ويرددون المحصلة صفر فبعض العربات ظلت علي حالها بدون تكييف وأخري تتساقط المياه من فتحة التكييف على رؤوس الركاب ولا أحد من فنى الصيانة يستجيب لصرخات الركاب الذين دفعوا قيمة التذكرة حاجزين على قطار مكيف أحد الركاب سأل أحد هؤلاء فنيي التكييف ضعيف ليه ؟.. وكان الرد التكييف علي أعلي درجة تبريد وفي المقابل يظل الركاب يعانون حرارة الجو بسبب عدم وجود نوافذ وبسبب التكدس والزحام بين العربات ورغم أن القطار مكيف فإن أحدا لا يمنع دخول الأجولة والكراتين ولا أحد يمنع المتسولين ولا الباعة الجائلين وكأن هيئة السكك الحديدية قد اتفقت معهم على تعذيب الركاب!

 

«المشهد.. الحادي عشر»: أسئلة حائرة

انتهي الكمساري من تحصيل أجرة الركوب بعد ساعات من انطلاق القطار, ثم بدأ يبحث عن مكان يستريح فيه ولو بضع دقائق ولكن الركاب لم يمنحوه الراحة التي يريدها وسأل أحدهم عن سبب تأخر القطار.. فرد الكمساري «الجرارات بايظة وجبنا جرار تاني حتي تمكن القطار من مغادرة المحطة»، وسأله آخر.. عندما يقع حادث تظل القطارات كلها متأخرة ساعتين ليه؟.. فقال المحصل: عندما يقع حادث يحدث ارتباك فى مواعيد قيام القطارات كلها حتى لو كان الحادث بسيطاً كخروج عربة أو اثنتين من على القضبان والمهم عند السائق أن يصل القطار إلى محطة الوصول ولا يعنينا إن وصلت القطارات متأخرة ساعة أو اثنتين أو حتى 10 ساعات.. المهم انه يصل لمحطته الأخيرة.

فعلق راكب ثالث «خلاص بقي اللي يركب القطار مطلوب منه ألا يرتبط بأى موعد، أما حالة العربات، خاصة المكيفة فهى مزرية، فإذا دخلت عربة القطار الذى يسمى مكيفا لن تجد تكييفاً، وإن وجد فهو لا يعمل، الراكب لا يجد كرسياً مريحاً وسليماً، ولا يجد ستائر على الشبابيك تحميه من شمس الصيف الحارقة، ناهيك عن كثرة الباعة الجائلين والمتسولين، وكأنك فى سوق!

توقف الحديث ثم قطع الصمت حديث راكب رابع قائلاً: هناك قطارات يجب دمج مواعيدها والفرق بين قطار وآخر لا يزيد على نصف ساعة  ما يتسبب فى الأعطال والحوادث مثل القطار رقم 164 إسكندرية- أسوان المميز وموعد قيامه من القاهرة الساعة 3.30 مساء، ومن بعده قطار القاهرة- الفيوم المميز الساعة 3.45، ومن بعده القطار 990 القاهرة- سوهاج المكيف الإسبانى الساعة 4 مساء، وبعده قطار القاهرة أسيوط مميز الساعة 4.20، لم يعلق أحد علي اقتراح الراكب.. وعاد الصمت من جديد، فيما غلب النعاس أغلب الركاب فقاموا وهم جالسون علي مقاعد القطار.

 

«المشهد.. الثاني عشر»: أخيراً وصلنا

في الساعة التاسعة صباحاً وبعد 12 ساعة كاملة من انطلاق القطار من محطة مصر بالقاهرة وصل القطار إلي المحطة النهائية بأسوان، وكانت الأهالي تنتظر في لهفة وصول ذويهم من مستقلي القطار، فنزل جميع الركاب وظلوا يبحثون عن أقاربهم وعند اللقاء أخذوا يتبادلون القبلات الحارة بعد سفر طويل وكان في الخارج تنتظرهم السيارات التي ستنقلهم إلي منازلهم.

ووسط هذه الفرحة العارمة لفت انتباه الجميع نظرات الحزن التي كانت بعين ذلك الفتي الذي أخد منه الكمساري بطاقته الشخصية لدفع قيمة التذكرة.. ليكمل المشهد لديه كآبة بعدم وصول أحد من أهله وقد كسر هذا المشهد جانب إنساني، حيث قام الكمساري بارجاع البطاقة لهذا الفتي لكي لا يحس بالذنب تجاهه. 

وهكذا انتهت رحلة قطار الأغنياء «المجبل» ليلة بطولها.. وهي نهاية نخرج منها بنتيجة واحدة هى أن القطار المكيف الذي يعتبره البعض قطار الأغنياء ليس في حقيقته سوي قطار درجة ثالثة أو «قشاش» والاختلاف الوحيد يكمن في أمرين أولهما الاسم، والثاني سعر التذكرة!